عالج أبو حيان التوحيدي موضوعا دقيق المذهب ، وعر المسلك ، يعالجه اليوم كتاب الغرب ، وهو الكلام على روح الأمم وتمحيص خصائص هذه الأمم . ففي مكتبات الغرب كتب شتى تبحث عن الروح الإنجليزية أو الروح الأمريكية أو الروح الروسية ؛ وإذا أردنا أن نمتحن دقة هذه المباحث فحسبنا ان نتصفح اي فهرس من فهارس هذه الكتب حتى نشعر بهذه الدقة
طالعت كتابا أسمه : الروح الفرنسية لأستاذ من المعهد الفرنسي ، بحث فيه المؤلف عن طبائع الأرض في فرنسا ، وعن تاريخ هذه الأمة ، وعن عقول رجالها وحسهم ومشيئتهم ، وعن أخلاقهم في حياتهم الخاصة وحياتهم العامة ؛ ولكل فصل من هذه الفصول فروع لا يستطيع الكاتب ان يخوض فيها إلا بعد ان يقف على امور كثيرة ، وما أصدق ما قاله " موروا " في هذا المعنى : يسهل علينا أن نقول إن الأمريكان هم كذا وكذا . . ولكنا نقضي السنين الطويلة حتى نعرف حقائق الأمريكان
وكم تمنيت وانا اقرأ هذا الكتاب او غيره من الكتب المشاكلة له في الموضوع ، ان أجد بين يدي كتابا مثله يبحث عن الروح العربية ، عن كل ناحية من نواحي أولئك القوم الذين حملوا إلي الدنيا ما حملوا ، وأورثونا ما أورثوا من لغة وادب وعلم وحضارة
ولئن فاتني حظي من مثل هذا الكتاب ، فلم يفتني الحظ من فصل من فصول إبى حيان في كتابه الجليل الإمتاع والمؤانسة ؛ فقد بحث فيه هذا البحث الذي أشرت إليه ، إلا انه ألم بالموضوع إلماما ، ولم يستقص فيه على نحو استقصاء كتاب الغرب في نظائر هذا الموضوع ، على ان كلامه إن لم يكن نفسا مديدا ، فهو لمح قد يكون فيه بعض المقنع .
نشأ العرب في صحراوات وصف أبو حيان طرز
حياتهم فيها ، فقال : وبعد ، فالذي لا شك فيه من وصف العرب ولا جاحد له من حالها ، أنه ليس على وجه الأرض جيل من الناس ينزلون الفقر وينتجعون السحاب والقطر ، ويعالجون الإبل والغنم وغيرها ، ويستبدون في مصالحهم بكل ما عز وهان ، وبكل ما قل وكثر ، وبكل ما سهل ووعر ، ويرجون الخير من السماء في صوبها ، ومن الأرض في نباتها ، مع مراعاة الآوان بعد الاوان ، وثقة بالحال بعد الحال ، وتبصرة فيما يفعل ويجتنب ، ما للعرب فيما قدمنا وصفه وكررنا شرحه من علمهم بالخصب والجدب ، واللين والقسوة ، والحر والبرد ، والرياح المختلفة والسحائب الكاذبة ، والمخايل الصادقة ، والأنواء المحمودة والمذمومة ، والأسباب الغريبة
هذه عيشتهم في القفار التي نزلوها ، ومن كانت عيشته على هذه الطرز فليس بعجيب ان يا كل البرابيع والضباب والجرذان والحيات وقد رأي الجبهاني في هذا التشكل مسبة العرب فتناول اعراضها وحط من اقدارها ، إلا أن أبا حيان رد الأمور إلي نصابها بحكمته فقال : من جاع أكل ما وجد ، وطعم ما لحق ، وشرب ما قدر عليه ، حبا للحياة وطلبا للبقاء ، وجزعا من الموت وهربا من الفناء
فالذي يتبين من هذا القول ان العرب عاشوا هذه العيشة في بيئتهم من باب الضرورة ، ولكن : إذا حادثهم السماء ، وصدقتهم الانواء وازدانت الأرض فهدلت الثمار ، واطردت الأودية و كثر اللبن والافعا والجبن واللحم والرطب والتمر والقمح ، وقامت لهم الأسواق وطابت المرابع ، وفشا الخصب ، وتوالي النتاج ، واتصلت المبرة ، وصدق المصاب ، وأرفع المنتجع ، وتلاقت القبائل على المحاضر وتقاولوا وتضايفوا وتعاقدوا وتعاهدوا او تزاوروا وتناشدوا ، وعقدوا الذمم ونطقوا بالحكم ، وقروا الطراق ، ووصلو العفاة وزوروا السابلة ، وأرشدوا الضلال ، وقاموا بالحمالات وفكوا الأسري ، وتداعوا الجفلي ، وتعافوا النقري ، وتنافسوا في أفعال المعروف ، كانوا أحسن حالا وعيشا .
ليست الغرابة في هذا النحو من العيشة ، فإن من نزل القفار والصحاري فلا تكون حياته فيها الا على هذا الوجه ؟ ولكن الغرابة كل الغرابة في انبثاق اخلاق من هذه القفار والصحاري ، هذا وصفها :
" العرب قدسها الله عن اخلاق أصحاب المدن وأرباب الحضر ، مثل : الدناءة والرقة والكيس والهين والخلابة والخداع والحيلة والمكر والخب ، وجبلها على اشرف الأخلاق ، ولهذا تجد أحدهم وهو في بت حافيا حاسرا يذكر الكرم ويفتخر بالمحمدة ، وينتحل النجدة ، ويحتمل الكل ، ويضحك في وجه الضيف ويستقبله بالبشر ويقول : احدثه ، إن الحديث من القري ، ثم لا يقنع ببث العرف وفعل الخير والصبر على النوائب حتى يحض الصغير والكبير على ذلك ويدعو إليه ، ويستنهضه نحوه ويكلفه مجهوده وعفوه
فللعرب النجدة والقري والوفاء ، والبلاء والجود والذمام والبذل والسخاء والحمية والانفة والحفاظ ، والتهالك في حب الثناء ، والنكل الشديد عن الذم والهجاء فهم مستأنسون مع توحشهم ، حاضرون في بواديهم ، اجتمع لهم من عادات الحاضرة احسن العادات ، ومن اخلاق البادية أطهر الأخلاق ، أنفس كريمة وطباع معتدلة ، وشكائم شديدة وأرواح عيفة ، وعادات رضية وضرائب طيبة
وفي الجملة فإن اخلاقهم أخلاق أهل البراري الذين وطاؤهم الأرض وغطاؤهم السماء ، فهم بعيدون عن الترفه ، يعلفون بالحول والقوة ، ويأنفون من المخازي ويعافون القبائح "
ولقد أثرت هذه الصحاري في نرا كيب بنيتهم ، فكان لهم جودة البنية واعتدال الهيئة ، كما اثرت في عقولهم فكان لهم صفاء الفكرة وصحة الفطرة ، واتقاد الطبع والفطنة ، والخطابة والبيان . وعلي الرغم من نزولهم القفار والصحارى كانت لهم حياة اجتماعية ، فكانت لهم اسواق في الجاهلية تدل علي تحضرهم في باديتهم ، وتبديهم في تحضرهم
أما لغة العرب فإنها على رأي أبي حيان لغة الإفصاح .
والإعاض ، اشتهرت بسمعتها وتصاريف كلامها في أسمائها وأفعالها وحروفها ، وجولانها في اشتقاقاتها ، ومأخذها البديعة في استعاراتها ، وغرائب تصرفها في اختصاراتها ، ولطف كناياتها في مقابلة تصريحاتها ، وفنون تبحبحها في أكناف مقاصدها وعجيب مقاربتها في حركات لفظها . ولقد سمع أبو حيان لغات كثيرة من جميع الأمم فما وجد لشئ من هذه اللغات نصوع العربية ، يعني الفرج التي في كلها ، والفضاء الذي تجده بين حروفها ، والمسافة التي بين مخارجها ، والمعادلة التى تذوقها في امثلتها ، والمساواة التي لا تجحد في أبنيتها .
هذه صورة العرب في طرز حياتها واجتماعاتها وأخلاقها وعقولها وطباعها وتراكيبها ولغتها على نحو ما صورها أبو حيان من ألف سنة ، على أب لم أصل في هذه الصورة إلى الموضع الذي يدهش العقول ويحير الألباب ، فليست الدهشة في هذه الحياة التي سمعنا وصفها ، أو في هذه الاجتماعات ، أو في هذه الأخلاق ، وإنما الدهشة في هذا التطور الذي تطورته العرب ، فأغرب شئ في حياتهم هذه البراعة في الانتقال من الصحاري والبراري إلي المدن والأمصار والجنان ، وتلونهم بألوان حياتهم الحديثة ، وأنسهم بهذا الشكل من الحياة ، فكان هذا التطور وحده دليلا على استعدادهم للحياة ، فإنهم على نحو ما قال أبو حبان : لما ملكوا الدور والقصور والجنان والأودية والأنهار والمعادن والقلاع والمدن والبلدان والسهل والجبل والبر والبحر لم يقعدوا عن شأو من تقدم بآلاف السنين ، ولم يعجزوا عن شئ كان لهم ، بل إبروا عليهم وزادوا وأغربوا وأفادوا .
قد يكون هذا المقال خاليا من كل طرافة ، فليس لي فيه إلا فضل التذكير ، فأي فائدة في مثل هذا العصر في الرجوع إلي جيل من الناس قد انقرضت اخلاقهم . ولكن هذا المقال إذا خلا من الطرافة فإنه لا يخلو من
فائدة المقابلة بين قوم نشأوا في الصحاري والبراري ، وبين قوم نشأوا في المدن والحواضر . لقد اتي على أهل الجاهلية ماينيف على ألفى سنة ، ولكن إذا برزنا عليهم في علومنا فهل برزنا عليهم في أخلاقنا ؟ فإذا بعث أبو حيان في يومنا هذا وامتحن اخلافنا معاشر العرب ، فهل يجد فينا هذه النجدة وهذا الوفاء ، وهذا البلاء وهذه الانفة وهذا الحفاظ ؟ هل يجد فينا كرم النفس وشدة الشكيمة وطيب الضرائب والعلق بالحول والقوة والآنفة من المخازي ؟ !
لئن تقدمنا الجاهلية بعلومنا فلم نتقدمها بأخلاقنا ، فلا تزال نقتبس عن شعرائها كثيرا من الحكمة ومكارم الأخلاق . ولئن أصبح ادبها لا يناسب روح هذا العصر فان في شعرها حكمة واخلاقا لا يستغني عنها عصرنا . فليس من العبث أن ترجع بين حين وحين إلي ماضينا ،
سواء أكان هذا الماضي قريبا أم كان بعيدا ، إن في هذا الماضي أشياء كثيرة تهذب أنفسنا وتصقل طباعنا ؛ لقد انتقل العرب من الصحاري والبراري إلي الدور والقصور والجنان ، فأبروا على من تقدمهم وزادوا واغربوا ؟ وخالطنا أمما أرقي منا فكرا فأخذنا عنها قشورها واطرحنا لبابها . رغبنا في عرضها وزهدنا في جوهرها . لانزال إلي اليوم في حاجة إلي الاسترشاد بكثير من اخلاق العرب وسياسة العرب ، فليس لنا غني عن الاهتداء بالماضى . لقد كان للعرب مثل أعلى في الحياة فملكوا به الدنيا بحذافيرها ، وحرمنا هذا المثل فلم نحصل على شيء ، فلا نزال مثل الريشة في مهب الريح ، فهل نخلق لنا مثلا اعلى في هذه الحياة لنستقر على حال من الأحوال ؟
دمشق
