كل ما هنالك في ميادين الحرب والسياسة يدل دلالة واضحة على أننا سوف تشهد في القريب العاجل ، عند اقتراب الربيع، تطورات وحوادث هامة ؛ ولكن ماذا عسى أن تكون هذه الحوادث والتطورات ؟ هذا ما يشغل الأذهان اليوم في جميع أنحاء العالم، ويكاد يكون من المجمع عليه أن ألمانيا تستعد في الوقت الحاضر للقيام بمحاولة أو محاولات عسكرية خطيرة ؛ وأن هذه المحاولات ، قد تتجه نحو الغرب ، بإقدام ألمانيا على تنفيذ مشروعها القديم لغزو الجزر البريطانية ، أو تتجه نحو الشرق بصورة لم تتضح معالمها بعد
ونحن نشهد الآن فترة هدوء نسبي ، كالتي شهدناها في العام الماضي قبيل اجتياح ألمانيا الدانماركة والنرويج ؛ في الجهة الغربية يقتصر النضال على القارات الجوية التي يتبادلها الألمان والانكليز ، والتي خفت حدثتها في الأسابيع الأخيرة بشكل ظاهر . أما في الجبهة الشرقية فإن التطورات الحربية سواء في ألبانيا أو فى تربية أو شرق أفريقية تسير في مجراها الذي كان متوقعاً مذ بدأ انهيار الجيوش الإيطالية في هذه الميادين في شهرى نوفمبر وديسمبر الماضية
على أن في تطور الحوادث الأخيرة ، وفي الخطاب
الأخير الذى ألقاه المستشار هتلر ، وفي الأزمة التي تجوزها العلائق الفرنسية الألمانية ما يدل على أن هذا الهدوء النسبي الذي نشهده الآن، إنما هو الهدوء الذي يسبق العاصفة ؟ ولقد صرح هتلر في خطابه بأن ألمانيا ستبدأ هذا الربيع حرب الغواصات ؛ وحرب الغواصات قائمة بالفعل ، ولكن هتلر يتوجه في إشارته قبل كل شيء إلى أمريكا ، وإلى موقفها من مساعدة بريطانيا ، وهو يتوعد أمريكا بأنها إذا حاولت التدخل في النزاع الأوربى على هذا النحو فإن ألمانيا تقابل هذا التدخل بتعديل أغراضها أو بعبارة أخرى تعمل على مقاومته ؛ وحرب الغواصات هى سبيل هتلر إلى مقاومة النجدات الأمريكية
وإذا كان في هذا التصريح ما يكشف لنا عن الموعد الذى تزمع ألمانيا أن تحاول القيام فيه بضرباتها المقبلة ففي الخطاب أيضاً ما يدل على أن هذه الضربات قد تكون متعددة متنوعة ؛ وهتلر يؤكد لنا أن ألمانيا ستضرب بريطانيا أينما استطاعت ضربها .
ومن الطبيعي أن يكون غزو الجزر البريطانية في مقدمة المشروعات والخطط التي تعتمد عليها ألمانيا في تحطيم مقاومة بريطانيا . وقد كثر التحدث عن هذا الغزو المحتمل منذ انهيار فرنسا ، ولاح غير مرة في الخريف الماضى أنه وشيك الوقوع ، ولكنه لم يقع حتى اليوم ؛ ومهما كانت الأسباب التي حالت دون وقوعه ، فلا ريب أن تقدم وسائل الدفاع البريطاني ، وثبات بريطانيا في وجه الحملات الجوية الألمانية الكبرى في شهري أغسطس وسبتمبر الماضيين ، كانا في مقدمة هذه الأسباب ؛ ولا حاجة بنا إلى التحدث عن الصعاب الجمة التي تعترض تنفيذ مثل هذا المشروع ، بعد أن كثر الحديث عنها فى مختلف المناسبات ؛ بيد أننا نقول فقط إن قوة بريطانيا واستعداداتها لدفع هذا
الغزو المحتمل ، قد زادت زيادة عظيمة ، وهى تزداد كل يوم بما تتلقاه من النجدات الأمريكية في السلاح والعتاد والطائرات، وإذا كنا مازلنا نشك أكبر الشك في احتمال وقوع هذا الغزو في المستقبل ، فإنه ليس بمستحيل أن يقدم الألمان بما عرف عنهم من الاقدام والمغامرة والبراعة في استحداث المخطط المسكرية ، على محاولة ضرب انكلترا وتدميرها بقوات جوية عظيمة ، تصحبها محاولات بائسة لإنزال قوات برية في بريطانيا أو إيرلنده.
على أنه يبدو من المرجح أن يحاول الألمان لقاء بريطانيا في ميدان أو ميادين أخري يكون النضال فيها أجدي وأقل خطرا ، وأقرب إلي النجاح ؛ وهنالك ما يدل على أن البحر الأبيض المتوسط قد يكون في المستقبل القريب مسرح هذه المرحلة الجديدة من النضال بين ألمانيا وبريطانيا ، وقد أسندت ألمانيا من قبل مهمة مهاجمة بريطانيا في هذا الميدان إلي حليفتها إيطاليا ، باعتبار أن البحر الأبيض المتوسط هو " بحرها ومجالها الحيوي " ؛ وحاولت إيطاليا أن تغزو مصر والسودان ثم اليونان ، ولاح لها مدى حين أنها ستظفر بتحقيق أحلامها الضخمة ؛ ولكن الضربات الساحقة التي أصابت جيوشها منذ ديسمبر ، في جميع هذه الميادين قد أيقظتها يقظة مرعبة ؛ ولم تر ألمانيا مناصا بعد انهيار خطط الفاشستية وتوالي الانتصارات البريطانية ، وتوطيد سيطرة بريطانيا البحرية في البحر الأبيض المتوسط ، من أن نوجه خططها إلي هذه الناحية ؛ وقد ظهرت القوات الألمانية الجوية بالفعل في صقلية وقواعد إيطاليا الجنوبية ، وبدأت غاراتها على القوافل البحرية الانكليزية في البحر الأبيض وعلي مالطه ؛ وتدل الأنباء الأخيرة على أن قوات ألمانية تجوز ممر برنر إلي شمال إيطاليا .
ومن الواضح أن الأمر لن يقتصر في ذلك على إنجاد
ألمانيا لحليفتها المنهزمة ؛ فنحن نشهد الآن في الواقع استعداد ألمانيا للزحف نحو الجنوب Drang nach Saden ، ولم يتضح بعد أي اتجاه تنوى أن تتخذه ألمانيا لتحقيق هذا الزحف ؛ هل تعبر إلى الجنوب بطريق البلقان ، أعنى من الشرق ، أم تعبر إليه بطريق إيطاليا، أم بطريق فرنسا وأسبانيا ، أعلى من الغرب ؛ ومن المحقق أن لموقف فرنسا الحالي، والأزمة التي تجوزها العلاقات الفرنسية الألمانية، صلة وثيقة بهذا الشأن؛ فقد أجمعت الدوائر العليمة على أن الألمان يحاولون الضغط على حكومة فيشي لكى تذعن لمطالبهم فيما يسمونه خطة التعاون بين ألمانيا وفرنسا : ولهذا التعاون قصة معروفة نبأنا مستر تشرشل بحقيقتها في بعض خطبه ، وهى أن الألمان يريدون حمل فرنسا على أن تقف إلى جانب ألمانيا في محاربة انكلترا بصورة من الصور ، كأن تسلم إليها ما بقي من وحدات الأسطول الفرنسي ، أو تنزل إليها عن بعض قواعدها في شمال أفريقية لتتخذها مراكز للأعمال الحربية ضد القوات البريطانية فى البحر الأبيض المتوسط . وقيل إن حكومة فيشي كادت في وقت ما أن تسلم للألمان بمطالبهم ؛ ولكن تطورات الحرب في الشهرين الأخيرين قضت على هذه الخطة ، وبثت في حكومة فيشى روحا جديداً ، وشجعتها على مقاومة الضغط الألمانى ، ورفض كل مطلب يراد به دفع فرنسا لمحاربة حلفائها السابقين.
والآن يشتد التوتر بين حكومة فيتى وبين الألمان ؛ وهتلر يضع خططه الحرب الربيع، ولا بد أن تصل القوات الألمانية إلى البحر الأبيض المتوسط، وتحصل فيه على قواعد تمكنها من مهاجمة القوات البريطانية ؛ فهل يكون اقتحام البلقان من طريق بلغاريا أو يوجو سلافيا سبيل هتلر إلى ذلك ؟ بيد أن هذه الخطة تصطدم موقف تركيا واستعدادها لخوض غمار الحرب إذا رأت فى هذا الزحف ما يهدد سلامتها ؟ وتركيا على اتصال دائم في
ذلك بحليفتها بريطانيا العظمى، والبحث مستمر بين المقامات العسكرية التركية والبريطانية لمواجهة كل احتمال ف هذا الميدان ؛ هذا إلى غموض موقف روسيا إزاء الحوادث البلقانية ؛ وعلى ذلك فإن ألمانيا قد تؤثر أن تصل إلى البحر الأبيض المتوسط من الناحية الغربية ؟ وما دام البحر يحول بين ايطاليا وبين الشواطئ الأفريقية، فلا بد أن تحصل القوات الألمانية على قواعد برية أمينة فى الشواطئ المقابلة ؛ وهذا ممكن تحقيقه الاستيلاء على تونس وقاعدتها البحرية الشهيرة بيزرتة ؟ وإذا استطاع الألمان إنشاء قواعد برية وجوية في تونس، مهلت مهمتهم إلى حد كبير في مهاجمة القوات البريطانية براً وبحراً ، وسهل عليهم أن يعرقلوا أعمال الأسطول البريطاني من الجو. أما شواطئ برقة وطرابلس فلم تعد هدفاً صالحاً لنزول القوات الألمانية بعد أن تقدم الانجليز نحو قلب طرابلس، واستولوا على معظم القواعد القريبة من الشواطئ الايطالية ، وأصبح من التعذر أن تعبر اليها الامداد
ولكن هذه الخطة تصطدم من جهة أخرى بموقف حكومة فيشي ومعارضتها ؛ وقد أصبح معروفاً أن الماريشال بيتان وأنصاره يعارضون في كل مطلب ألماني لا علاقة له بشروط الهدنة ، ويأبون التعاون مع ألمانيا في غير الميدان الاقتصادي ؛ وصرح الأميرال دارلان ، وهو من أشد مؤيدى بيتان ، والمسيطر على مصير الأسطول الفرنسي بأن فرنسا تحتفظ بأسطولها للدفاع عن إمبراطوريتها وبأن هذا الأسطول مصمم على أن يرد كل اعتداء أو تحد وتأبى فرنسا من جهة أخرى أن تنزل عن أيه قاعدة من قواعدها الأفريقية ؛ والظاهر أن الجنرال فيجان ، وهو الذى عهد إليه بالسهر على سلامة الامبراطورية الفرنسية ، يهدد بالانفصال من حكومة فيشي إذا هي سلمت فى أى مطلب يمس هذه السلامة ؛ وحكومة فيشى
من جانبها تلوح للألمان بهذا الوعيد ، وبأن إصرار ألمانيا على مطالبها العسكرية يدفع بالامبراطورية الفرنسية إلى جانب حركة فرنسا الحرة التي يتزعمها الجنرال دى جول : وهو أمر تخشى عواقبه ألمانيا : ولا تدخر ألمانيا من جانبها وسعاً في الضغط على حكومة فيشى، وتلوح في ذلك بمصير المليونين من الأسرى الفرنسيين ، واحتلال الجزء الباقي من فرنسا ، وإقامة حكومة فرنسية جديدة في باريس تذعن لمطالبهم ؛ وقد شرع الألمان بالفعل في تنظيم حزب فرنسي جديد في باريس قوامة نفر من الساسة الموالين لهم ، ومن ورائهم بيير لافال ؛ ولكن حكومة فيشى لا تزال ثابتة في موقفها حتى كتابة هذه السطور .
وسوف ترى ماذا يسفر عنه هذا النضال في القريب العاجل . والظاهر أن الألمان اعتزموا أمرهم ، ولا بد التنفيذ خططهم من الوصول إلى نتائج سريعة، وقد تشهد في القريب العاجل احتلال الألمان لفرنسا الحرة ، وقرار حكومة فيشي والأسطول الفرنسي إلى شمال أفريقية ؛ وقد نشهد أيضاً محاولة الألمان النزول في تونس بالقوة . وهى بلا ريب مجازفة خطيرة تصطدم بقوة الأسطول البريطاني ؛ وقد تصطدم بقوى الامبراطورية الفرنسية ؛ وقد يحاولون العبور إلى طرابلس ، قبل أن تجهز عليها القوات البريطانية الزاحفة : وهي أيضاً محاولة محفوفة بأعظم الصعاب والمخاطر : هذا إذا لم يؤثر الألمان في النهاية الزحف إلى الجنوب بطريق البلقان ، باعتباره أصلح للزحف السريع، وأقل تعرضاً للمقاومة والفشل
ولا شك في أن بريطانيا العظمى من جانبها تحسب حساباً لكل تطور وكل احتمال مفاجى ؛ وهى تجد اليوم نفسها في البحر الأبيض التوسط مسرح المعارك المنتظرة بعد انتصاراتها المتوالية فى لوبيه وشرقى أفريقية، وسيطرتها على جزيرة كريت وغيرها من القواعد اليونانية ،
في مركز أفضل مما كانت عليه في الخريف الماضي ؛ كذلك لاريب في أن مضاعفة أمريكا لمعاونتها وامداداتها البريطانيا وفق قانون الاعارة والتأجير الذى ينتظر أن يقره البرلمان الأمريكي في القريب العاجل ، مما يزيد مركز بريطانيا ثباتاً وتوطداً.
هذه فى طوالع الموقف الحاضر ؛ وعلى أي حال فان النضال بين ألمانيا وبريطانيا العظمى ، لا بد أن يدخل في دوره الحاسم ، ولا سيما بعد أن سقطت ايطاليا صريعة أطماعها ، ولم يبق لما كبير شأن في هذا النضال . وتدل جميع القرائن على أننا سوف تشهد هذه الرحلة في المستقبل القريب
