عودتنا الطبيعة الطبيعة أن تربنا - في كل مجموعة من المجموعات - من يحتل مكان الصدارة منها ، ويتميز بصفات خاصة عن سائر أفرادها .
حتى في النبات ، نجد في كل مجموعة نبتة دائمة تلفت الأنظار إليها بسمو في نموها ، او بإزدهارها زهرة تميزت بالجمال ، وفي البستان سرعان ما يري شجرة فاقت أقرانها بجمال استوائها ، أو علوها و تفوقها ، أو بكثرة أثمارها ، أو حلاوة ثمرتها ، و الكل يزرع في ارض واحدة و يسقي بماء واحد .
و هذا في عالم الحيوان أظهر ، فكل خلية تحل لها ملكة تأمر فتطاع ، و تدعو فتجاب :
مملكة مُدَبْرة بأمرأة مؤمرة
تحمل في العمال وال صناع عبء السيطرة
فالعجب لعمال يول ون عليهم قيصرة
وفي كل قطيع خروف متميز ، وفي كل عش دجاج ديك متفوق . فإذا أثبت إلي الإنسان فالأمر فيه أبين . في كل مجتمع رئيس ، بدواً أو حضراً ، أطفالا أو كبارا ، رجالا أو نساء ، مجمع الطلبة في الفصل فيكون لهم في الذكاء أول ، وتجمعهم في الألعاب الرياضية فيكون بينهم في ألعابهم ماهر ، وتجري بينهم سباقاً في أي ضرب فيكون منهم الفائز ، وفي البدو شيخ القبيلة ، وفي الحضر الأمير ، وفي الديانة الشيخ والفسيس ، وفي الحكم المدير والوزير ، وفي شؤون الاجتماع الصلح ، وفي السياسة الزعيم .
وإذا كان هناك تفوق ورياسة فذلك يستلزم سلطة وسيطرة من جانب ، وخضوعا وطاعة من جانب . قف وقفة في حظيرة الدجاج والسيادة والخضوع بين
الديكة بعضها و بعض ، والدجاج بعضه وبعض ، والديكة والدجاج معا ، عند النقاط الحب ، وحسو الماء واختيار المكان الصالح للنوم ، وهكذا .
وانظر إلي الأسرة يسودها الرجل ، واستعرض ضروب السيطرة وضروب الخضوع ، وانظرها تسودها المرأة ، واسمع للأمر والنهي والذلة والاستسلام ، وهكذا . فمتى كانت سيطرة هنا كان خضوع هناك - وقد تتعاور السلطة والذلة على الشخص الواحد ، فقد يكون الرجل مسيطرا بماله وشبابه ، ثم ينقلب خاضما لفقره وشيخوخته ، وقد تسيطر المرأة لجمالها ، ثم ترول السيطرة بزواله .
ومخابل السيطرة والسيادة كثيرا ما تظهر في الأطفال منذ نشأتهم ، كالذي روي أن رجلا نظر إلي معاوية و هو غلام صغير فقال : إني اري هذا الغلام سيسود قومه . فقالت أمه هند : ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه .
وقد تكون هذه عن وراثة يرثها ، كالبذرة الطبية مختار التثمر ثمرا طيبا ، و تأتي البيئة فتنمي هذه الوراثة و تغذيها ، و قد تسوء فتضعفها أو تفنيها ؛ فمغزلة الطفل في الأسرة لها أثر كبير في تقوية خلق السيطرة أو إضعافه ، فقد يكون الطفل أول ولد لابويه ثم يرزقان بطفل آخر فيحولان عطفهما و تدليلهما إليه ، فيثور الأول ويجتهد أن يلفت النظر إليه بعنفه و قوته و سطوته ، فينشأ عنده حب السيطرة ، ثم تساعده الظروف الآخرى خارج البيت كمهارته في اللعب أو أوليته في فصله ، أو نحو ذلك ، فيُعده كل ذلك إلي السيطرة في الحياة ، و قد يقسو الأب أو المعلم على الناشئ ، فيدفعه ذلك إلي مقابلة القسوة بالقسوة ، فيولد عنده حب السيطرة ، و قد تزيد قسوة الأب او المعلم فتميت نفس الناشئ و تذله ، و هكذا . مئات و مئات مما يجري في الحياة - من كتاب يقرؤه و دين يتدين به واصدقاء يعاشرهم وعمل يتولاه ، وروايات يراها ،
وشعر يحفظه الخ - كلها تؤثر في مصيره من السيطرة أو الخضوع .
والزعيم بتفاعل مع بيئته فتكونه ويكونها ، وتغذيه ويغذيها ، وبعض الناس قد منح من القوة ما يمكنه من الزعامة حيثما حل واين رميت به ، كالذي يصفه المتنبي :
إن حل في فرس ففيها ربها (١)
كستري تذل له الرقاب وتخضع
أو حل في روم ففيها فيصر
أو حل في عُرْب ففيها ُتبع
وليست كل سيطرة زعامة ، فهناك سيطرة بحكم المنصب كالمأمور في مركزه او المدير في مديريته أو الوزير في وزارته او القائد في جيشه ، فهذه كلها لا تخول لصاحبها أن يسعي زعيما .
و هناك سيطرة بسبب الملكية ، كسيطرة مالك الأرض على فلاحيه ، أو صاحب المصنع على عماله .
و هناك سيطرة بسبب نظام الطبقات كسيطرة ذوي البيوتات الكبيرة على ذوي البيوت الصغيرة ، و سيطرة الباشا على من هم اقل منه مرتبة ، او الموظف في الدرجة الأولى علي من في الدرجة الثامنة ، أو نحو ذلك ؛ فهذه كلها ليست زعامة ، إنما ركن الزعامة هو خضوع الجم الفقير من الناس بإرادتهم و اختيارهم لمزايا خاصة يرونها في الزعيم .
و الصفات التي تستوجب الزعامة مختلف باختلاف نوع الزعامة ؛ فهناك زعامة سياسية وزعامة علمية وزعامة دينية وزعامة حربية الخ ،كما أنها تختلف باختلاف الجماعات وتصورهم المثل الأعلى للحياة . فلما كان عند العرب
- مثلا - المثل الأعلى عماده الشجاعة والسكر كانت الزعامة عمادها هاتان الخصلتان . وقد قال عمر : " السيد هو الجواد حين يسأل ، الحليم حين يستجهل ، البار ممن يعاشر " فجعل السيادة في الكرم والحلم والعطف ، وعدوا سلم بن قتيبة سيداً " لأنه كان يركب وحده ويرجع في خمسين ، فجعلوا السيادة في الشجاعة ، كما جعلوا من شروط السيادة صفات سلبية كالترفع عن الصغائر فقالوا : لا سودد مع انتقام " الخ . واليوم نمد من أهم صفات الزعيم الذكاء وسعة العقل والثقة بالنفس والرحمة بالناس والعطف عليهم والقدرة على ابتكار الخطط وحب العدل والفصاحة في القول مع القدرة على الدعابة ، هذا إلي الصبر على الشدائد واحتمال المكروه ، فلا زعامة من غير عناء كما يقول الشاعر :
أترجو أن تسود ولا تُعني وكيف يسود ذو دعة يخيل ؟
ويختلف الرعماء في تفوقهم في هذه الصفات أو بعضها و نسبة تفوقهم فيها ، و قد يفقدون بعضها و يعتاضون عنها بتميزهم في بعضها الآخر ، وهكذا .
ثم إن هذه الصفات قد يتصف بها الزعيم حقا ويتخلق بها صدقا ، وقد يتصنعها رياء ، فلا تتعالي إلا على رأي عام لم ينضح ، وشعب لم يكتمل .
كذلك الزعماء أشكال ألوان : فهناك الزعيم الضاغط المتحكم الذي يضطر الجمهور ان يؤمن به وأن يتوجسه كما يوجهه ، وبسد عليه منافذ تفكيره ومنافس مشاعره ، ثم يدفعه دفعاً إلى ما يريد هو ، مثل هتلر وموسوليبي وبعض مؤسسي المذاهب الدينية - وهناك الزعيم الذي يمثل عواطف الجماعة ومشاعرها ، فيكون للجماعة آمال ومشاعر فيها شئ من الغموض وشئ من الميوعة ، فيأتي هو ويوضحها ويمثلها ويبلورها ، ويكون لسانها القوي في التعبير عنها وقلبها الحار الذي ينبض بأمانها ، ويكون هذا سر زعامته .
يستطيع أن ينطق بما يشعرون ولا ينطقون ، ويحدد الأغراض التي لا يحددون ، ويقودهم إلي تحقيق ما يؤمل ويؤملون . ومن ناحية اخري هناك الزعيم الثائر والزعيم المعتدل؛ فالزعيم الثائر لا يرعي التقاليد والأوضاع ويدعو إلي الوصول لهدفه بعنف وقوة ، لا ينظر إلي الماضي ولا إلي الحاضر ، ولكن يسحر بالصورة التى يرسمها المستقبل - والزعيم المعتدل يرعي الأوضاع والتقاليد ويدعو إلى التقدم البطئ . ويربط الماضي بالحاضر والحاضر بالمستقبل ، ويري ان الطفرة مجال ، وخير الاصلاح ما استطاعه الشعب ، وخير السير ما كان إلي الامام في أناه - ولذلك يرمي الثاني الأول
بالنهور ويري الأول الثاني بضعف العزيمة والجمود . ومن ناحية الموضوع نري أن هناك زعيما دينياً وزعيما سياسياً و زعيما اقتصاديا و زعمها علمياً ، وهكذا .
وهم على اختلاف أنواعهم وألوانهم تحتاج إليهم الأمة حاجة الجيوش إلى قوادها ، والسفينة إلى ربانها ، وكما يحتاج فائد الجيش وربان السفينة إلي ثقافة خاصة ومرانة شاقة ، كذلك الزعامة من كل نوع ، ليست لعب أطفال ولا اعتماداً على ثرثرة كلام ، ولا على ضخامة مال - إنها قيادة أمة . تعتمد على فلسفة وعلم وفن واستعداد خاص ومران طويل . ( بطبع )
