الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 42الرجوع إلى "الثقافة"

السلطان الكامل

Share

لا أريد أن أكتب فصلا من فصول التاريخ عمن لقب بهذا اللقب من ملوكنا القدماء ؛ وإنما أريد ان اتحدث عن كتاب ظهر بهذا العنوان منذ حين للكاتب الفرنسي العظيم جان جيرودو

ولا شك في أن الكاتب الفرنسي قد استعار عنوان كتابه من أصحاب السياسة لكثرة ما طلبت الوزارات الفرنسية والوزارة القائمة خاصة إلى البرلمان الفرنسي أن يمنحها السلطان الكامل الذي يمكنها من إصدار مراسيم لها قوة القانون في غيبة البرلمان ، مراعاة لحال فرنسا في الظروف الخطيرة التي كانت تحيط بها وبكثير من أقطار الأرض قيل أن تصبح الحرب أمرا واقعا .

وكان الفرنسيون يختلف يختلفون اشد الاختلاف في امر هذا السلطان الكامل ، يري بعضهم ان الخير في منحه للوزارة ، تعجلا لاصلاح الأمر وتقويم العوج والاستعداد للأخطار الداهمة ، دون تقيد بالمناقشات البرلمانية التي قد تقصر وقد تطول ، وقد تنحرف وقد تستقيم ، والتي تؤخر الاصلاح في أوقات لا تحتمل تأخير الاصلاح . وكان بعضهم الاخر يري ان حقوق الديمقراطية يجب ان تكون فوق كل شئ من جهة ، وان الوزارة قد تغلو في الاستمتاع بهذا السلطان الكامل إن اهدى إليها ؛ وكان الفرنسيون يصطنعون في هذا الموضوع جدالا شديدا متصلا ، مختلفة الوانه ، فيه الجد وفيه الهزل ، وفيه الدعاية المرة والفكاهة الحلوة ؛ ولعل من هذه الفكاهة ، أو من تلك الدعاية ، اصطناع الكاتب جان جيرودو لهذا العنوان ، فهو لم يعرض في كتابه لهذا الموضوع الذي يختلف

الفرنسيون فيه من قريب أو بعيد ، وإنما أعرض أو كاد يعرض عن الوزارة والبرلمان ، وعن السلطان الكامل المطلق والسلطان الناقص المحدود ، وعني بشيء آخر له خطره العظيم في نفوس الفرنسيين ؛ وايه ذلك ان الكتاب قد ظهر منذ أشهر قليلة ما أظنها بلغت الأربعة ، وأن الطبعة التي قرأتها منه هي الطبعة الثالثة عشرة . والموضوع الذي عني به الكاتب في كتابه هذا هو الاصلاح الاجتماعي ؛ وإذا كان قد اختار له هذا العنوان ، فهو لم يختره إلا في شيء من العبث والمجاز ، إن صح هذا التعبير . فهو يريد أن يصور أقصى ما تستطيع فرنسا ان تحققه لنفسها وللعالم من الخير إذا أخذت أمورها بالعزم ، وفهمت ما يجب عليها لنفسها وللعالم فهما صحيحا . وأظن أن الترجمة الدقيقة لعنوان الكتاب ، الترجمة التي تؤدي ما أراد إليه المؤلف حين استعار من أصحاب السياسة كلمهم هذه الشائعة عابثا قاسيا في عبثه ، إنما هو القدرة الكاملة ، قدرة فرنسا على الخير لنفسها ولغيرها من الشعوب .

أراد باستعارة هذا العنوان من أصحاب السياسة أن يقول لهم وللذين تابعوهم فيما هم فيه من جدل إن جدالهم هذا سخيف فارغ لا طائل تحته ولا غناء فيه ، فلن يصلح فرنسا ان يتسع سلطان الوزارة أو يضيق ، ولن يصلح فرنسا أن تمتد رقابة البرلمان حتى نحيط بكل شئ ، أو أن تتقاصر حتى لا نحيط بشيء ، لأن رجال السياسة يذهبون في طريق اقل ما توصف به انها معاكسة للطريق التى يجب ان تسلك حين يراد الاصلاح ، فرجال السياسة يصطنعون

مهنتهم ويعيشون من اصطناع هذه المهنة ، وهي إضافة الوقت والجهد والمال فيما لا يمس ما يحتاج الوطن إليه من إصلاح شؤونه على اختلاف ما تتصل به هذه الشؤون من مرافق الحياة .

فالكتاب كما تري منذ الآن وكما ستري بعد حين نقد عنيف لأذع للحياة السياسية الفرنسية من جهات مختلفة ، والظريف الذي يستحق ان نفكر فيه هو ان جان جبرودو موظف من موظفي الحكومة الفرنسية ، كان حين اصدر هذا الكتاب موظفا في وزارة الخارجية ، فلما دنت اخطار الحرب كلف الأشراف على إدارة المطبوعات ، وانتقل إلي رياسة مجلس الوزراء .

فاعجب لهذه الحرية التي اتاحت لموظف من الموظفين ان ينقد النظام السياسي لبلاده نقدا صريحا إلى ابعد أماد الصراحة ، حرا إلى اوسع حدود الحرية ، لم يعف الحكومة ولا البرلمان ولا المجالس البلدية ولا الجمهور ولا المصارف ، ولا سلطة من السلطات ، ولا هيئة من الهيئات التي تشرف على تنظيم الحياة الفرنسية عن قرب أو بعد ؛ ولكن اعجب ايضا لانه اثر في هذا النقد اقصى ما يستطيع الكاتب ان يؤثره من النزاهة وطهارة الضمير ، والارتفاع عن الصغائر ونسيان نفسه ومصلحته الخاصة ، وتجنب التعرض لوزارة بعينها ، او حزب بعينه ، أو فريق بعينه من الذين يمثلون وطنه في مجلسي البرلمان .

نقد الحكومة الفرنسية من حيث هي حكومة ، ونقد البرلمان الفرنسي من حيث هو برلمان ، فارضي الناس جميعا ، ولم يغضب احدا ، ولم يجد من حكومته ولا من وزيره أذي ولا شططا .

واعجب لشئ اخر ، وهو ان جان جيرودو كاتب اديب قد برع في القصص الروائي ، وبرع في القصص التمثيلي ، وظفر في الأدب الفرنسي بمكانة ممتازة لا حاجة إلى التعريف

بها . وهو في قصصه الرواني أو التمثيلى شاعر بارع ممتاز وإن كان يصطنع النثر دون النظم . وهذا كله لم يمنعه من ان يخرج هذا الكتاب حين احس الحاجة إلى إخراج هذا الكتاب ، وحين أحس القدرة على إخراج هذا الكتاب . فهو إذا لا يقيم في برج من العاج لينزل علي قرائه ونظارته قصصه الروائي الرائع ، واياته التمثيلية البارعة ، ولكنه يعيش مع الناس ، ومع اوساط الناس ، ومع من هم ادني طبقة من اوساط الناس ؛ يمشي بينهم في الطرق ، ويجوب معهم احياء باريس ، ولاسيما هذه الاحياء الفقيرة البائسة ، حتى إذا اراد ان يصور حاجات هذه الطبقات إلي المعونة والإصلاح ، بل إلى الإغاثة والانقاذ كان بارعا كل البراعة في هذا التصوير .

ثم انجب آخر الأمر للفكرة التي أقام عليها كتابه ، والتي تلائم كل الملاحمة فيما أعتقد حياتنا المصرية الخاصة ، بحيث نستطيع أن نقول إن هذا الكتاب من أنفع الكتب وأمتعها وأقومها للذين يتولون الاصلاح الاجتماعي في مصر منذ أنشئت وزارة الشؤون الاجتماعية في مصر . ويجب أن اعترف أن وزارة الشؤون الاجتماعية المصرية هي التي دفعتني إلي قراءة هذا الكتاب الذي شغلت عن قراءته بأدب جيرودو ، حتى إذا عدت إلي القاهرة وسمعت أحاديث الوزارة الناشئة وما تهم به وما تفكر فيه وما تقوله وما يقال عنها ، فرغت لهذا الكتاب فقرأته في جلستين اثنتين لأنه قصير وأزمعت أن أكتب عنه ، لا لأحلله ولا لأفصل القول فيه ، ولكن لأشير إشارة مجملة ، ولآلفت إليه وزارتنا الجديدة الناشئة ، فقد يبصرها ببعض الآمر ، وقد يرسم لها بعض الخطط ، وقد يجنبها كثيرا من الخطأ ، وقد يعصمها من كثير من الزلل ، وقد يصرفها إلي العمل المفيد ، وقد يرغبها عن الأقوال العامة الغامضة التي امتلأت بها الصحف منذ أعوام وأعوام ، حتى حفظناها عن ظهر قلب ، وحتى أصبح الطلاب والتلاميذ يشقون بها علي

اساتدتهم ومعلميهم ، حين يملأون بها ما يكتبون من موضوعات الانشاء .

الفكرة التي أقام عليها جان جيرودو كتابه هي أن لوطنه في العالم مركزا ممتازا ، وأن هذا المركز الممتاز لم يتح لوطنه عفوا ، ولم تكسبه له المصادقات ، وإنما جاءه من أن طبيعة الشعب الفرنسي منذ عرف الحياة السياسية أنه لا يستطيع أن يعيش إلا في المقام الأول بين الشعوب ، فهو مخير بين اثنتين ، فيجب أن يكون له الصدر أو القبر كما يقول شاعرنا القديم . فهو لا يستطيع أن يتصور فضلا عن أن يرضي أن تكون الدولة الفرنسية من دول الطبقة الثانية ، وهو قلق أشد القلق ، مضطرب أشد الاضطراب ، بائس أشد البؤس إذا أخرته ظروف السياسة عن مكانته الممتازة في الطبقة الأولى بين الدول والشعوب ، وتاريخه كله يؤيد هذه الخصلة من خصاله أشد التأييد . وإذا فعلي الذين يسوسون هذا الشعب وينهضون بشؤون الاصلاح فيه أن يعرفوا هذه الخصلة من خصاله حق المعرفة وأن يتوخوها في كل ما يديرون من أمر ، وفي كل ما يشرعون من قانون ، وفي كل ما يهمون به من اصلاح والشعب الفرنسي لا يرضيه أن يمتاز في السياسة وحدها ، وإنما يريد أن يمتاز في كل شئ . يريد أن تكون حياته العقلية على اختلاف فروعها أرقي ما يعرف الناس من حياة العقل ، ويريد أن تكون حياته الفنية أروع ما يعرف الناس من حياة الفن ، ثم يريد أن تكون حياته السياسية ملائمة لهذا كله أحسن الملاممة ، ومصورة لهذا كله أحسن التصوير .

لا يستطيع أن يفرغ لنفسه وأن يعكف عليها وأن ينفرد بحياته الخاصة الضيقة ، ولكنه ينظر دائما إلى غيره ويريد دائما ان يكون سابقا ، ويكره دائما ان يكون متخلفا . وأظن أن أيسر النظر في تاريخ مصر ينتهي بنا إلي أن الشعب المصري منذ عرف الحياة السياسية قد امتاز

بهذه الخصلة ، بالقياس إلي امم الشرق القريب .

تلحظ ذلك في حياتنا منذ أقدم عصورنا التاريخية ، فنحن لم نرض قط ولم نسعد قط إلا حين كان لنا التفوق في الشرق الأدنى ، وحين كنا دعاة الحضارة وأئمتها في هذا الشرق ، وحين كانت حياتنا على اختلاف الوانها مثلا يحتذي ، وقد وردتنا الظروف في كثير من الاحيان عن هذه المنزلة المتفوقة الممتازة ، فكنا أشقياء وكنا مع ذلك مجاهدين ، حتى نعود إلي التفوق والامتياز .

فعلي الذين يسوسوننا أن يعرفوا هذه الخصلة من خصال الشعب المصري وان يتوخوها في كل ما يدبرون من أمورنا .

وأول ما عني به جان جيرودو بل اهم ما عني به من مواطن الضعف الاجتماعي في وطنه امر الجمس الفرنسي نفسه ، فقد نظر إليه من جهات مختلفة : من جهة ما يسمونه نقص المواليد وكثرة الوفيات وتناقص السكان ، ومن جهة ما تدخله المهاجرة إلى فرنسا على هذا الجنس الفرنسي من اسباب الضعف والقوة ومن اسباب الزيادة والنقص ، ومن جهة ما يدخله هذه المهاجرة السهلة من الوان الفساد الخلق أحيانا ، ومن ألوان العظمة الخلقية أحيانا أخرى .

والكاتب يود لو أنشئت في فرنسا وزارة فنية لا تعنى بالسياسة وما يكون فيها من شؤون السلم والحرب ، وإنما تعنى بالشعب الفرنسي ، تمكن أفراده من ان يعيشوا عيشة مادية ممتازة ، تتيح لهم ان يعمروا بلادهم بالنسل الصالح المتزايد القوي الذي يكفي ان يوجد وان يتزايد وان يقوي ليكسب فرنسا من المهابة والعزة ما يرد عنها طمع الطامعين وما يضمن لها وللعالم سلما متصلا

وأظن أن أمر الشعب المصري من هذه الناحية يشبه امر الشعب الفرنسي ، فقد لا تنقص الموليد في مصر كانت تنقص في فرنسا ، ولكن عدوان الموت على طفولة مصر وشبابها لا يقاس إلي عدوان الموت على الفرنسيين . ومن المحقق ان مصر مفتوحة لكل طارئ وأن المهاجرة إليها آثارا

شنيعة جدا في حياتنا المادية والمعنوية والخلقية أيضا .

ويعني جان جيرودو عناية مفصلة بحياة المدن الفرنسية وبحياة القرى من حيث ملاءمة تخخطيطها لحاجة الشعب الصحية ولطبيعته ولذوقه ولآماله في الرقي . وأؤكد لك انك تقرا ما يكتبه عن باريس واضطراب العناية بتخطيطها وتاريخها وصحة أهلها وذوقهم ، فيخيل إليك انك تقرا فصلا عن هذا الاختلاط الشنيع الذي اصاب مدينة القاهرة في العصر الحديث . فهذه العمارات التى تقام حيث يريد اصحابها في غير ذوق ولا نظام ولا عناية بصحة المجاورين لها ، وهذه الأحياء الأثرية التي تفقد جمالها الفني لان يد التجديد تعبث بها في غير رحمة ولا ذوق ولا حساب . وهذه الأحياء التي انشئت خارج المدينة لتكون متنفسا للمدينة يجد فيها الناس هواء طلقا نقيا ، فلم تلبث ان اكتظت بالعمارات الضخمة ، واصبحت كغيرها من أحياء المدينة موطنا للعلل والأمراض وفساد الذوق وفتور الهمم أيضا .

كل هذا وأكثر من هذا يصوره الكاتب بالقياس إلى باريس ويصف ما ينبغي من الطب له . وكل هذا وأكثر من هذا يستطيع كاتب مصري ان يصوره ويصف ما ينبغي من الطب له .

وهناك علة اجتماعية يعني بها الكاتب الفرنسي ، ويكفى ان اشير إليها لتشعر بأنها من عللنا المتوطنة ، وهي علة المحاياة في تطبيق القوانين على أفراد الشعب ، لا من الناحية القضائية فالناحية القضائية دائما بمنجاة من اللوم ، بل من الناحية الادارية . فهؤلاء ، يتاح لهم أن يقيموا عماراتهم الضخمة حيث لا يتاح لأولئك ان يقيموا منازلهم المتواضعة . وهؤلاء يتاح لهم ان يخالفوا بسياراتهم عن نظم المرور ، على حين يؤخذ اولئك بأشد النظم عنفا وضيقا ، وهنا يحمل جيرودو على اعضاء المجالس البلدية حملة عنيفة حقا ، لا تعدلها إلا حملته على اعضاء البرلمان . فهم قوام هذه المحاباة لأنهم يشترون بها اصوات الناخبين ثم ينغصون على رجال الإدارة والوزارة

حياتهم بألوان الإلحاح والرجاء .

وقد مضي جيرودو في نقده لرجال البرلمان إلى حد بعيد ، حتى كره ان يستقر البرلمان في العاصمة قريبا من اصحاب السلطة التنفيذية المركزية ، وتمني أن يستقر البرلمان في مدينة بعيدة صغيرة يفرغ فيها لعمله التشريعي ويخضع فيها اعضاؤه لمراقبة الجمهور لهم في حياتهم الخاصة . فهم في حاجة إلي هذه المراقبة .

وعلى هذا النحو من النقد الاجتماعي المفصل الدقيق يمضي الكاتب حتي أبلغ حاجته ؛ وإذا هو ينتهي إلي أن الآزمة التي تشكو منها فرنسا ليست أزمة التنافس بينها وبين هذه الدولة او تلك ، وليست ازمة الخصومة بين هذا النظام او ذاك من نظم الحكم ، وليست ازمة الاقتصاد الذي ينشأ عن الاضطراب في أعمال المال وفي الاستنتاج والاستهلاك ؛ وإنما هي ازمة أعمق من هذا كله وأيسر إصلاحا من هذا كله ؟ هي ازمة عميقة لانها تمس حياة الشعب في اعمق دخائلها ، وهي ازمة يسيرة ، لأن هذا الشعب قوي خصب صالح للبقاء والنماء ، ولكن هناك شرطا لابد منه لحل هذه الأزمة ، وهو الا يوكل هذا الحل إلى رجال السياسية الدين اتخذوها لانفسهم مهنة يعيشون بها في الوزارات وفي البرلمان . وإنما يوكل هذا الحل إلي الأكفاء الفنيين ، وما اكثر حظ فرنسا حتى في هذه الظروف العصبية من الأكفاء الفنيين الذين لا تنتفع بهم فرنسا ، فتدعوهم الدول الآخرى في أوربا وأمريكا إلي حيث ينفعونها ويكفلون لها التفوق على وطنهم وإن قلوبهم لتمزقها الحسرات .

الست تري أن من النصح لوزارة الشؤون الاجتماعية في مصر ان نلفتها إلي هذا الكتاب وأمثاله ؟ وما أكثر امثال هذا الكتاب في غير لغة من لغات الأرض . وقد يخيل إلي أن لهذا الكتاب أمثالا قليلة ولكنا موجودة في مصر وفي اللغة العربية نفسها .

اشترك في نشرتنا البريدية