الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد التاسع والعشرونالرجوع إلى "الرسالة"

الشافعى واضع علم أصول الفقه

Share

-٧-

أ - الدراسات الفقهية إلى عهد الشافعي.   ب - أهل الرأي وأهل الحديث  ج - الشافعي بين أهل الرأي وأهل الحديث آثاره وكتبه  د - وضع الشافعي علم أصول الفقه

ومذهب الشافعي الجديد وصل إلينا فيما ألفه بمصر من الكتب  وقد سرد البهيقى المتوفى سنة ٤٥٨هـ - ١٠٦٥ - ١٠٦٦م كتب  الشافعى ولخصها عنه ابن حجر فى ص ٧٨

(الرسالة القديمة، ثم الجديدة - اختلاف الحديث، جماع  العلم - أبطال الاستحسان - أحكام القرآن - بيان الفرض - صفة  الأمر والنهى - اختلاف مالك والشافعى - اختلاف العراقيين -  اختلافه مع محمد ابن الحسن - كتاب علي وعبد الله - فضائل  قريش - كتاب الأم - ...

وعدة كتب الأم: مائة ونيف وأربعون كتابا وحمل عنه  حرملة كتابا كبيراً يسمى (كتاب السنن) وحمل عنه المزنى كتابه  (المبسوط) وهو المختصر الكبير والمنثورات وكذا المختصر  - المشهور - قال البهيقى: وبعض كتبه الجديدة لم يعد تصنيفها  وهي: الصيام - والصداق - والحدود - والرهن الصغير  - والاجارة - والجنائز - فانه أمر بقراءة هذه الكتب عليه فى الجديد  وأمر بتحريق ما يغاير اجتهاده قال: وربما تركه اكتفاء بما نبه عليه  من رجوعه عنه فى مواضع أخرى.

قلت: وهذه الحكاية مفيدة ترفع كثيرا من الإشكال الواقع  بسبب مسائل اشتهر عن الشافعي الرجوع عنها وهي موجودة فى  بعض هذه الكتب.

ثم نقل ابن حجر: أن لأصحاب الشافعى من أهل الحجاز  والعراق عنه مسائل وزيادات قال: وهذا يدل على إن (كتبا أخرى  حملها عنه هؤلاء لأن هذه المسائل ليست فى الكتب المقدم ذكرها)

وقد ترك ابن حجر فى تلخيصه: كتاب (مسند الشافعى)  ولا ندرى: إن كان البهيقي قد تركه أيضا أم لا؟ ويقول الرازى (ان  كتابه المسمى (بمسند الشافعى) كتاب مشهور فى الدنيا، ص١٤٦)  كان اتجاه المذاهب الفقهية قبل الشافعى إلى جمع المسائل وترتيبها  وردها إلى أدلتها التفصيلية عندما تكون دلائلها نصوصا.  وأهل الحديث لكثرة اعتمادهم على النص كانوا أكثر تعرضا لذكر  الدلائل من أهل الرأى.

فلما جاء الشافعي بمذهبه الجديد كان قد درس المذهبين ولاحظ  ما فيهما من نقص بدا له أن يكمله واخذ ينقض بعض التفريعات  من ناحية خروجها عن متابعة نظام متحد فى طريق الاستنباط.  وذلك يشعر باتجاهه فى الفقه اتجاه جديدا هو اتجاه العقل  العلمي الذى لا يعني بالجزئيات والفروع.

ويدل على أن اتجاه الشافعى لم يكن إلى تمحيص الفروع: ما  نقله ابن عبد البر فى (الانتقاء) من: أن احمد ابن حنبل قال: (قال  الشافعى لنا: أما أنتم فاعلم بالحديث والرجال مني فإذا كان الحديث  صحيحا فأعلموني أن يكون كوفيا، أو بصريا أو شاميا أذهب إليه  إذا كان صحيحا) ص٧٥.

وطريقة علاجه لمسائل العلم تدل على منهجه قال أبو محمد بن  أخت الشافعي عن أمه قالت: ربما قدمنا فى ليلة واحدة ثلاثين مرة  أو أقل أو أكثر المصباح بين يدى الشافعى، وكان يستلقى ويتذكر  ثم ينادى يا جارية هلمي مصباحا فتقدمه ويكتب ما يكتب ثم يقول:  ارفعيه، فقيل لأحمد: ما أراد برد المصباح؟ قال: الظلمة أجلى  للقلب. مفتاح السعادة جـ٢ص٩١.

وليس هذا النوع من التفكير الهادئ فى ظلمة الليل تفكير من  يهتم بالمسائل الجزئية والتفاريع.  بل يعني بضبط الاستدلالات التفصيلية بأصول تجمعها، وذلك:  هو النظر الفلسفي.  قال ابن سينا فى الشفاء (أنا لا نشتغل بالنظر فى الجزئيات

لكونها لا تتناهى وأحوالها لا تثبت وليس علمنا بها من حيث هى  جزئية تفيدنا كمالا حكيما أو تبلغنا غاية حكيمة، بل الذى يهمنا هو  النظر فى الكليات) .

وكان احمد يقول: الشافعي فيلسوف فى أربعة أشياء: فى اللغة  - واختلاف الناس - والمعانى - والفقه (الرازى ص٣٥)  وقد حاول الشافعى: أن يجمع أصول الاستنباط الفقهى  وقواعدها علما ممتازا وأن يجعل الفقه تطبيقا لقواعد هذا العلم  وبهذا يمتاز مذهب الشافعى من مذهب أهل العراق وأهل الحجاز

د - وضع الشافعى لعلم أصول الفقه

إذا كان الشافعي هو أول من وجه الدراسات الفقهية إلى ناحية علمية  فهو أيضا: أول من وضع مصنفا فى العلوم الدينية الإسلامية على منهج  علمى بتصنيفه فى أصول الفقه، قال الرازى: اتفق الناس على: أن أول  من صنف فى هذا العلم - أى علم أصول الفقه - الشافعى وهو الذى رتب أبوابه وميز بعض أقسامه من بعض وشرح مراتبها فى القوة والضعف.

وروى: أن عبد الرحمن بن مهدى التمس من الشافعي وهو  شاب أن يضع له كتابا يذكر فيه شرائط الاستدلال بالقرآن والسنة،  والإجماع ، والقياس، وبيان الناسخ والمنسوخ ومراتب العموم  والخصوص ، فوضع الشافعي رضى الله عنه (الرسالة) وبعثها إليه

فلما قرأها عبد الرحمن بن المهدى قال: ما أظن أن الله عز وجل  خلق مثل هذا الرجل ثم قال الرازى: واعلم: أن نسبة الشافعي  إلى علم الأصول كنسبة (ارسططاليس) إلى علم (المنطق)  وكنسبة (الخليل) بن أحمد إلى علم (العروض) .

وذلك لأن الناس كانوا قبل (أرسططاليس) يستدلون  ويعترضون بمجرد طباعهم السليمة لكن ما كان عندهم قانون مخلص  فى كيفية ترتيب الحدود والبراهين.  فلا جرم. كانت كلماتهم مشوشة ومضطربة فأن مجرد الطبع  إذا لم يستعن بالقانون الكلى، قلما أفلح. فلما رأى (أرسططاليس)  ذلك اعتزل عن الناس مدة مديدة وأستخرج علم (المنطق) ووضع  للخلق بسببه قانونا كليا يرجع إليه فى معرفة الحدود والبراهين.

وكذلك الشعراء كانوا قبل (الخليل بن احمد) ينظمون أشعارا  وكان اعتمادهم على مجرد الطبع فاستخرج (الخليل) علم (العروض)  فكان ذلك قانونا كليا فى معرفة قانون الشعر ومفاسده فكذلك  هنا الناس كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون فى مسائل (أصول  الفقه) ويستدلون ، ويعترضون ، ولكن مكان لهم قانون كلي  مرجوع إليه فى معرفة دلائل الشريعة وفى كيفية معارضتها،  وترجيحاتها، فاستنبط الشافعى علم (أصول الفقه) ووضع للخلق

قانونا كليا يرجع إليه فى معرفة أدلة الشرع .. ثم يقول  الرازى: واعلم إن الشافعي صنف كتاب (الرسالة) ببغداد  ولما رجع إلى مصر أعاد تصنيف كتاب (الرسالة) وفى كل واحد  منهما: علم كثير ص ٨٩ -١٠٢

ويقول (بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي) المتوفي سنة ٧٤٩هـ  ١٣٩١ -١٣٩٢ فى كتاب فى أصول الفقه المسمى بالبحر المحيط  (فصل) : الشافعى أول من صنف فى (أصول الفقه) صنف  فيه كتاب (الرسالة) وكتاب أحكام القرآن واختلاف الحديث  وأبطال الاستحسان وكتاب (جماع العلم - كتاب القياس - الذى  ذكر فيه ؛ تضليل المعتزله ورجوعه عن قبول شهادتهم

ثم تبعه المصنفون فى علم الأصول، قال احمد بن حنبل (لم نكن  نعرف الخصوص والعموم حتى ورد الشافعي)  وقال الجويني فى شرح الرسالة: لم يسبق الشافعي أحد فى  تصانيف (الأصول) ومعرفتها، وقد حكى عن ابن عباس  (تخصيص عموم) وعن بعضهم (القول بالمفهوم) ومن بعدهم  لم يقل فى الاصول شئ ولم يكن لهم فيه قدم فانا رأينا كتاب  السلف من التابعين وتابعى التابعين وغيرهم فما رأيناهم صنفوا فيه  (من نسخة خطية بالمكتبة الأهلية بباريس)

ويقول ابن خلدون فى المقدمة: (وكان أول من كتب فيه أي  فى (علم أصول الفقه) الشافعي رضي الله عنه أملى فيه (رسالته المشهورة)  تكلم فيها في: الأوامر والنواهي، والبيان، والخبر، والنسخ،  وحكم العلة المنصوصة، من القياس

ثم كتب (فقهاء الحنفية) فيه، وحققوا تلك القواعد  وأوسعوا القول فيها، وكتب المتكلمون أيضا) ص ٣٩٧  وفي كتب (طبقات الفقهاء) للقاضى شمس الدين العثمانى  الصفدى: وابتكر الشافعى ما لم يسبق إليه من ذلك (أصول الفقه)  فانه أول من صنف (أصول الفقه) بلا خلاف

ومن ذلك: (كتاب القسامة - وكتاب الجزية - وكتاب قتال  أهل البغي) من نسخة خطية بدار الكتب الأهلية بباريس  ويقول صاحب كتاب (كشف الظنون) : وأول من صنف فيه (الامام  الشافعي) ذكره الأسنوى فى التمهيد وحكى الإجماع فيه ص ٣٣٤  والباحثون فى هذا الشأن من الغربيين يرون فى (الشافعي)  واضعا (لأصول الفقه) يقول (جولد زيهر) فى مقالته فى كلمة (فقه)  فى دائرة المعارف الإسلامية: (واظهر مزايا محمد بن إدريس  الشافعي) : أنه وضع نظام الاستنباط الشرعي من أصول الفقه

وحدد مجال كل أصل من هذه الأصول وقد ابتدع فى (رسالته)  نظاما للقياس العقلي الذى ينبغي الرجوع إليه فى التشريع من غير  إخلال بما للكتاب والسنة من الشان المقدم ريث الاستنباط من  هذه الأصول ووضع القواعد لاستعمالها بعدماكان جزافا).  على أنا نجد فى كتاب الفهرست فى ترجمة (محمد بن الحسن)  ذكر كتاب له يسمى (كتاب أصول الفقه) .

ويقول الموفق المكى فى كتابه (مناقب الإمام الأعظم)  نقلا عن طلحة بن محمد بن جعفر؛ أن أبا يوسف أول من وضع  الكتب فى (أصول الفقه) على مذهب أبى حنيفة ج ٢ ص٢٤٥  ونقل ذلك طاش كيرى زاده فى كتابه (مفتاح السعادة) ج ٢ ص ١٠٢

ولم يرد كتاب فى هذا العدد فيما أورده صاحب (الفهرست)  لأبى يوسف من الكتب وإذا صح. أن لأبى يوسف أو لمحمد كتابا  (في أصول الفقه) فهو فيما يظهر كتاب لنصرة ما كان يأخذ به أبو حنيفة  ويعيبه أهل الحديث من الاستحسان.

وقد يؤيد ذلك، أن صاحب (الفهرست) ذكر فى أسماء  كتب أبى يوسف. كتاب الجوامع ألفه ليحيى ابن خالد يحتوي على  أربعين كتاب، ذكر فيه اختلاف الناس والرأى المأخوذ به ولم يكن فيه  طبيعة مذهب أهل الرأى الذين كان من همهم؛ أن يجمعوا المسائل ويستكثروا  منها، النزوع إلى تقييد الاستنباط بقواعد لا تتركه متسعا رحبا

على أن القول بأن أبا يوسف هو أول من تكلم فى (أصول الفقه)  على مذهب أبى حنيفة لا يعارض القول بأن الشافعى هو الذى وضع  (أصول الفقه) علما ذا قواعد عامه يرجع إليها كل مستنبط لحكم شرعي  وقد لا يكون بعيدا عن غرض (الشافعى) فى وضع (أصول  الفقه) : أن يقرب الشقة بين أهل الرأى وأهل الحديث ويمهد للوحدة  التى دعا إليها الإسلام

اشترك في نشرتنا البريدية