(إلى أستاذنا الجليل الزيات أولا وإلى صديقي الناقد الكبير الأستاذ أنور المعداوي وشاعر شباب دمشق أنور العطار ثانيا وإلى جميع شعراء الأقطار العربية ثالثا ليعلموا موقف وزارة المعارف العراقية من عودتي إلى فرنسا لإكمال دراستي في جامعاتها ولعلهم بشعورهم ذاك عزاء لهذا الشاعر الميت الحي. .)
سرت وحدي في موكب الأتراح أزرع الحب في القلوب الشحاح
في زحام الحياة أقطع عمراً لف من سقمه بألف وشاح
أسفح الدمع في محاريب ليلي وأبث الآهات صدر صباحي
وأجر الأوهام خلف ركابي وأسوق المنى أمام رياحي
ناثراً مهجتي على كل درب جزته في الغدو أو في الرواح
وورائي الأيام تضحك م ... ن جيفة قبر مبرقع بالأقاح
وهي حتى نهار أمس بقايا من شباب مخضب بالجراح
فعلى كل صخرة قطرات من دمائي وحفنة من جراحي
هكذا سرت متعباً أقطع البيد بشوق معذب ملحاح
أتحدى الأقدار لا أرهب الموت بعزم من الشباب الضاحي
حالما أتبع السراب وفي الصدر أمان كالعرس جد ملاح
ثم لما أفقت من سكرة الو هم وجدت الهشيم من أرباحي
هكذا ضاعت الثلاثون مني وهي عطر من الصبا الفواح
كنت كالنسر موطني القمة الشماء والسفح ملعب لمراحي
عالقاً بالخيال أحتضن الأفق وأهفو كالكوكب اللماح
فإذا صائدا من الأرض يرميني وينسل تاركا لي نواحي
فتهاويت الثرى ألثم الجرح وأحنو على يد السفاح
ويسمع النجوم همس بكائي وبقلب النسيم شجو صياحي
وتبعت القطيع أسحب أقداما ثقالاً مشلولة الأندياح
والسياط الغلاظ تأكل لحمي وتعب الدماء من أقداحي
أينما دار بنظري لا أرى غير أسارى تحت القيود رزاح
فقد تهرت جلودنا فهي أنصاف مخاليق ذي سمات قباح
شوه الجوع حسنها فتراءت كسوخ قبيحة الأوضاح
تخذت عريها هياكل قدس وخناها مدارجا للنجاح
هكذا سرت مثلها أحمل الرفش وأحثو التراب فوق الأضاحي
تصرخ اللعنة المدماة والليل كقلب الخطاة يا للصباح:
أين مني فجر الخلاص ليودي بقيودي مع السنا اللماح
كفني يا حياة جثة أعوامي البواقي فقد مللت طماحي
وأحمل للتراب نعش أماني فيأسي أذل حتى جماحي
فالثلاثون جزتها عاثر الجد أقاسي مرارة الأتراح
حاملاً في حقيبة الأمل الباسم زادي وفي يدي مصباحي
لا أهاب الظلام إن طال إدلاجي ولا الوحش كامن في النواحي
أتوكأ على الصبا أن تلكأت فأنساق والشباب جناحي
مرسلا لحني الطروب على الكون طليقا كالبلبل الصداح
كان هذا من قبل واليوم قد مات شبابي فمات سر كفاحي
زمجر الموت في العباب وثارت من وراء السفين هوج الرياح
وانكفا الزورق الحبيب إلى القاع وأودى الخضم بالملاح
وتوارت حتى معالم دنياه، محتها يد العفاء الماحي
وانتهى كل مأمل كان يهواه وحلم عن الجفون مزاح
واستراح الوجود من ثورة رعناء. هاجت والليل سكران صاح
ما بقائي من بعد ما ذبل العمر وماتت طلائع الانشراح
وأنطفت شعلة الرغائب في صدري، وفرت مطامعي من راحي
دب في الملال وانتشر الرعب بقلبي وهشمت ألواحي
فلماذا أعد درعي وحصني قوضته يد الأسى المجتاح
أنا سلمت للكآبة أيامي وألقيت للشقاء سلاحي
مرحباً بالمنون بالراحة الكبرى رسول السلام والأفراح
هو ذا صوته يرن بأذني كلحن مهدهد ممراح
فلأردد صداه قد ختم العمر سراه وأومأت أشباحي
بغداد
