(كتب الفرنج كثيراً عن الشرع الإسلامي وعن النبي العربي صلى الله عليه وسلم، وفي ما كتبوه الغث والسمين، والحالي والعاطل، والحق والباطل، ولكن العصر الأخير أنصف الإسلام كثيراً بالقياس إلى العصور الخوالي، كما يستبين من الأقوال التي أنقلها ولو عني المسلمون بدعاية منظمة للإسلام لصححوا أباطيل كثيرة وبددوا أوهاماً كثيرة تتعلق بهم وبدينهم، ولاهتدى إلى الإسلام جم غفير يؤثرون تأثيراً شديداً في مجرى السياسة العامة).
قال كارليل: في الإسلام خلة أراها من أشرف الخلال وأجلها، وهي التسوية بين الناس، وهذا يدل على أصدق النظر وأصوب الرأي، فنفس المؤمن راجحة بجميع دول الأرض، والناس في الإسلام سواء. والإسلام لا يكتفي بجعل الصدقة سنة محبوبة بل يجعلها فرضاً حتماً على كل مسلم، وقاعدة من قواعد الإسلام، ثم يقدرها بالنسبة إلى ثروة الرجل، فتكون جزءاً من أربعين من الثروة تعطى إلى الفقراء والمساكين والمنكوبين. جميل ولله كل هذا، وما هو إلا صوت الإنسانية، صوت الرحمة والإخاء والمساواة يصيح من فؤاد ذلك الرجل ابن القفار والصحراء (صلى الله عليه وسلم) .
وقال الدكتور انسباتو الإيطالي في كتاب: (الإسلام وسياسة الحلفاء) الذي نشره سنة ١٩١٩: إن الكرم العلمي والصدقة الفكرية صفتان من صفات الإسلام شأنهما أن تجعلا الأمة العاملة بهذا الدين أهلا لأن تبلغ من الحضارة ذروتها العليا. لما كان الأستاذ أمين الريحاني في السفينة الشراعية على ساحل جزيرة البحرين قاصداً ساحل الإحساء أثقل الهواء جفنه فنام قليلا، ثم أيقظه صوت الملاحين، وهم إذ ذاك يشتغلون في قلب الشراع طوعاً للريح ويرددون: (صلي على النبي) فقال
الريحاني في كتابه (ملوك العرب) يصف أثر ذلك في نفسه:
وربك أيها القارئ ما سمعت في أنغام الليل على المياه أطرب منها، إلا أن يكون صوت المؤذن في الخليج وهو يؤذن الفجر، ليس في صلوات الأمم كلها أدعى منه إلى الورع والخشوع، وقل فيها ما هو أجمل وقعاً في النفس من صلاة الملاح في ظل الشراع. اجتمع الأستاذ محمد لطفي جمعة مع السيد توفيق البكري،
بعد عودته من مستشفى بيروت إلى القاهرة، ودار بينهما حديث نشره المقطم، ومما قال فيه: وجاء على لساني عرضاً ذكر برتلميه سانت هيلير فقال السيد: بعد أن تنتهي من حديثك سأذكر عبارة تاريخية تنسب إلى سانت هيلير. فتكلمت وأسهبت، ولكن السيد لم ينس وعده فلما انتهيت قال لي:
قال سانت هيلير في تاريخ النبي محمد الذي ألفه باللغة الفرنسية إنه كان يشك في صدق النبي في رسالته حتى قرأ في جميع السير أنه لما نزلت آية الحفظ ووعد الله نبيه بأنه سيتولى حراسته (والله يعصمك من الناس) . بادر محمد إلى صرف حراسه، والمرء لا يكذب على نفسه ولا يخدعها؛ فلو كان لهذا الوحي مصدر غير الله لأبقى محمد على حرسه.
وقالت مسز سررجني نائدو الشاعرة الهندوسية: لقد دعا الإسلام قبل اليوم بثلاثة عشر قرناً إلى المساواة والأخوة، وقد أسس الإسلام أول جمهورية كان القانون الإلهي رائدها، والفقير والغني سواء فيها، ولا شك مطلقاً أنه يأتي يوم يبتلع الإسلام فيه جميع الأديان.
وقال شبي شميل: إن في القرآن أحوالا اجتماعية عامة، حتى في أمر النساء فأنه كلفهن بأن يكن محجوبات عن الريب والفواحش، وأوجب على الرجل أن يتزوج بواحدة عند عدم إمكان العدل، وأن القرآن فتح أمام البشر أبواب العمل للدنيا والآخرة، ولترقية الروح والجسد، بعد أن أوصد غيره من الأديان تلك الأبواب فقصر وظيفة البشرية على الزهد والتخلي عن هذا العالم الفاني.
وقال هنري دي شامبون مدير (ريفوبارلمنتير) الفرنسية:
لولا انتصار جيش (شارل مارتل) الهمجي على تقدم العرب في فرنسة لما وقعت فرنسة في ظلمات القرون الوسطى ولما أصيبت بفظائعها ولا كابدت المذابح الأهلية الناشئة عن التعصب الديني
ذبحهم في قرارهم القديم أولئك السفاحون من أهل بيدمنت، وألقوا بالأم وطفلها من حالق فوق الصخور ترميهم صخرة إلى صخرة؛ لقد كان لأناتهم في الأودية صدى رفعته إلى التلال، ونقلته التلال إلى السماء؛ انثر أيها المولى دمائهم الشهيدة وأشلاءهم على حقول إيطاليا كما تنثر البذور (١) حيث لا يزال يتسلط الطاغية الثلاثي (٢) عسى أن ينمو من هذه مائة نمو فيكون منها جيل يعجل وقد علم سبيلك بالقضاء على هذا الكرب البابلوني (٣) ).
وجنح ملتن إلى العزلة بعد هذا الحادث، وكان يقضي اكثر الوقت في بيته، يقرأ له ابن أخته أو غيره من تلاميذه القدامى أو من محبيه من المتأدبين حاشيتي النهار وطرفاً من الليل، وكان يدير في رأسه في تلك الأيام ما عسى أن ينهض له من الشعر.
ففكر في أن يجعل موضوعه بطولة الملك آرثر، ذلك الموضوع الذي فكر فيه من قبل فينظم الآرثريادا كملحمة يسجل فيها فترة من تاريخ قومه؛ ولكن أكثر اتجاهه كان إلى موضوع آخر كما يذكر ابن أخته وذلك هو (قصيدة من قصائد البطولة عنوانها الفردوس المفقود) ، واقتصر جهده على التدبير في هذا الموضوع والصورة التي يصوغه فيها وقراءة ما يتصل به، وكان أول الأمر يريد أن يتخذ نوعاً من المسرحيات لباساً له؛ على أنه كما يذكر ابن أخته فيلبس لم يبدأ نظم قصيدته فعلاً إلا سنتين قبل عودة الملكية أي سنة ١٦٥٨. . .
وكانت الحكومة قد أسكنت ملتن هويت هول في أول عهده بالوظيفة، ولكنه لم يلبث هناك طويلاً فاستأجر بيتاً على مقربة من حدائق سان جيمس وعاش فيه منذ سنة ١٦٥٢، وفي هذا المنزل أقام ملتن حتى سنة ١٦٦٠ حيث أجبرته عودة الملكية إلى الاختفاء حينا لينجو بنفسه من الهلاك.
وكان يزوره في منزله أصدقاؤه، وهم بين تلميذ له جاوز مرحلة التعلم أو معجب به من المثقفين، وقل في زائريه من كان من المبرزين من رجال العصر في الأدب أو في السياسة أو في الدين، وذلك أن اعتداد ملتن برأيه وتعاليه بثقافته جعلا بينه وبين أكثر الناس ممن يرون أنفسهم أندادا له حجابا كثيفاً، فكان هؤلاء
يرمونه بالكبرياء والصلف ويكرهون منه أن ينظر إليهم من على نظرة ترفع وتحفظ وإعراض، هذا إلى أن آراءه الدينية قد باعدت بينه وبين النابهين من البرسبتيرنز، وميوله السياسية قد جعلت من الملكيين أعداء له، وعنفه في الخصومة قد ألقى في روع الناس أن من يتصل به لا يأمن أن يصبح من عدوه لأقل خلاف في الرأي أو العقيدة.
ويجب أن نضيف إلى تلك الأسباب محبته للعزلة منذ أيامه في هورتون وعكوفه على المطالعة والدرس؛ فقد كان ميله إلى العزلة من الظواهر الواضحة في حياته؛ وقد كرهت إليه محبة العزلة لقاء الناس وغشيان مجالسهم أو سوامرهم، وعنده من الكتب عن ذلك عوض. ففيها لنفسه ولعقله متعة حق متعة.
ونستطيع أن نتبين مقدار ما كان بينه وبين نابهى عصره من جفاء مما ذكرته أرملته عن رأيه في هوبز الفيلسوف الكبير قالت (لم تكن له معرفة به، وكان لا يحبه زوجي أبداً وإن كان يصرح أنه رجل ذو نواح عظيمة) .
وكان من احب أصدقائه إليه وأكثرهم اختلافاً إلى منزله وأقربهم مجلساً منه لورنس وسيرياك سِكَزْ ونيدهام وهارتلب وأولدنبرج وأندرومافل، وكان الأولان تلميذين له أما البقية فكانوا من ذوي المكانة الأدبية وعلى الأخص أخرهم ذلك الذي اختير مساعداً لملتن في وظيفته الرسمية سنة ١٦٥٧ ، وكان مارفل متين الخلق كصاحبه لا تضعضعه النوائب ولا تحني رأسه الفاقة، وكان أصغر من ملتن باثنتي عشرة سنة وكان مثله متخرجاً في كامبردج، وقد احب ملتن حبا شديداً وأعجب به إعجابا عظيما فتوثقت بينهما عرى المودة وظل مارفل على ولائه له حتى فرق بينهما الموت.
ويذكر فيلبس أنه كان يزور خاله أبان السنوات الثمانية التي قضاها فيما يشبه العزلة قبل عودة الملكية عدد كبير من ذوي المكانة ثم لا يشير إلا إلى اثنين: ليدي وانالا ودكتور باجت، وكانت ليدي رانالا على حظ من الذكاء غير قليل كما كانت ذات ثقافة وذات ميول حرة؛ وكانت قد وكلت إلى ملتن تعليم ابن أخ لها ثم ابنها من بعده، وقد أعجبت بالشاعر العظيم ولما كان لا يستطيع زيارتها كانت تزوره هي وتستمع في إكبار وإجلال إلى حديثه. . .
وحدثت عنه دبورا إحدى بناته فقالت: (إنه كان جليسا مؤنسا، وكان حياة حلقة من الصحاب تدور به، وذلك لأنه كان يتدفق بشتى الأحاديث والموضوعات وكان عذب الروح مرحاً ذا مودة في غير تكلف لشيء من هذا) .
والحق أن ملتن كان لين الجانب طلق المحيه محبب العشرة صادق المودة لمن يجلس منه مجلس التلميذ من أستاذه وهؤلاء هم خاصته الذين ذكرنا، وكانت لهجته في مخاطبتهم لهجة المعلم، وكان يتلو عليهم ما يظن أنهم في حاجة إلى معرفته ولا يجب أن يجادلهم أو يبادلهم حجة بحجة فليس هذا شأن الأستاذ مع تلاميذه، وما منهم إلا من يكبره ويخفض له جناحه ويغض عنده من صوته، وإن كثيراً منهم ليتنافسون من يكتب له إذا أملى ومن يقرأ له إذا طلب بحثاً من البحوث، ومن يقوده ويأخذ بيده ليمشي ساعة في الحدائق القريبة، وكلهم بذلك مغتبط أيما اغتباط.
وكان يزوره في منزله كثير من كبراء الأجانب ممن يهبطون إنجلترا، وكانوا يسمعونه عبارات التجلية والإعجاب، ويذكر اوبري أحد مؤرخي حياته في ذلك قوله (إن الحافز الوحيد الذي كان يحفز فريقاً من الأجانب لزيارة إنجلترة كان في الأكثر رؤية أليفر كرمول حامي الجمهورية ومنستر جون ملتن، وكانوا يرغبون أن يروا بيت الشاعر والحجرة التي ولد فيها فقد كان الإعجاب به خارج إنجلترة أشد منه في موطنه كثيراً) .
وكان يعينه في كثير من شؤونه إلى جانب أصدقائه أبنا أخته.
أما بناته الثلاثة فكن صغيرات فقد تركتهن أمهن حين ماتت منذ ثلاث سنوات أي سنة ١٦٥٢ وكبراهن في السادسة من عمرها ووسطاهن في الرابعة وصغراهن بنت شهر واحد.
وفي سنة ١٦٥٦ تزوج ملتن بزوجة ثانية، وقد جاءت كما أحب رجاحة عقل وصدق عاطفة، وأستثنى الشاعر نسيم المودة والرحمة بين يديها، وأحس كأنما يحيي حياة جديدة على الرغم مما يحيط به من ظلمة، وكان كمن ألقت به الصحراء المجدبة إلى واحة ظليلة؛ ولكنه لم يلبث في واحته هذه أو جنته إلا خمسة عشر شهراً ثم نكبته النكبة في زوجته فكأنما كان يكيد له الدهر حين أذاقه النعيم فما كان ذلك منه إلا ليعظم في نفسه الهول الجحيم وماتت الزوجة كسابقتها في سرير الوضع وتركت له كذلك أنثى
لم تعش بعد أمها إلا نحو شهر؛ وفزع الشاعر إلى قيثارته يخفف عن نفسه ما يعالج فيها من حزن، وكأنه من فرط ما في جوفه من حريق يحس كأن الجحيم نفسها تتنفس على كبده. قال الشاعر المحزون: (رأيت فيما أرى النائم أن قديستي التي تزوجت بها أخير قد أحضرت إلى من القبر كما أحضرت أليستس (١) التي أرجعها الابن الأكبر لجوف إلى زوجها الذي امتلأ فرحاً وقد نجاها ابن جوف من الموت بقوة ولو أنها ظلت شاحبة هزيلة، ولكن امرأتي جاءت كما لو أنها اغتسلت مما يتركه الوضع فتخلصت بذلك من التطهر وفق الوضع القديم؛ ونظرت فإذا بي كأني املأ منها عيني في الجنة بغير عائق ما، وقد خطرت في ثياب بيضاء نقية نقاء عقلها، ولكن وجهها كان مقنعا، بيد أنى أبصرتها بعيني خيالي فإذا الحب والجمال وطيبة القلب تضيء في هيكلها بصورة لن يكون أحسن منها وأبهج في وجه من الوجوه. . . ولكنها يا ويلتا ما كادت تميل إلي لتعانقني حتى صحوت فلم أجدها ووجدت النهار يحيطني ثانية بليلي المظلم).
هذا هو الشاعر يصف في هذه المقطوعة الجميلة مبلغ حزنه ولكن به كبرياء أن يصرعه الخطب؛ وإن صدق إخلاصه للشعر واعتقاده أنه خلق لعظيمة فيه ليرتفع به عن الحزن؛ وكان يجد عزاءه فيما يقرأ له أصدقاؤه وفيما تنطوي عليه نفسه وتختزنه ذاكرته؛ وإنه في هذا ليتداوى بالتي كانت هي الداء، فهذه الكتب هي التي أفقدته ناظريه؛ على أنه اليوم يقرؤها بعيني غيره.
وكان يقول لمن حوله إن خياله يضيء ويلمع في الظلمة أكثر مما يضيء في النور، وأن النور لم يذهب عنه ولكنه تسرب إلى داخله ليرهف مخيلته وعقله، وتلك تعلات كان لابد له منها لكي يقوى على ما كان يحيط به، وإنه لينهض على ما هو فيه لقصيدة تضعه في مستوى هوميروس ودانتي، وما نعرف شاعراً كانت حاله أكثر سوءاً من حال هذا الشاعر حين يضطلع بعبء كهذا العبء وفي هذا أبلغ شاهد على سمو روحه وقوة نفسه.
(يتبع)
