الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 678الرجوع إلى "الثقافة"

الشرق فى أدب الغرب

Share

ليس ما أكتبه اليوم بحثا بالمعنى الصحيح ، فلم أتبع فيه منهجا خاصا ولم أحاول الوصول إلى نتائج معينة . . وإنما هو سباحة في مجموعة من كتب غريبة شتى ، فيها حديث قد يطول أو يقصر عن الشرق والشرقيين . وقد أردت أن أجلو بعض صور الشرق التي رسمها المؤلفون الغربيون في كتبهم هذه . . أجل ، وهي صور عديدة قد يبدو الكثير منها غربيا بالنسبة إلى القارئ الشرقي نفسه ، لأن الكثير منها بعيد عن واقع الحياة ، ولكنها في مجملها تعبر عما كان ، وما يزال يختلج في ضمائر الغربيين من أفكار وتخيلات عند ذكر الشرق وأهله ووسائل الحياة فيه . ولم أراع في اختيار المؤلفات التي أتحدث عنها خطة معلومة ؛ وإنما هي كتب ورسائل ، وقعت تحت يدى اتفاقا فطالعتها ، ثم رأيت فيها شيئا يستحق النقل والنشر . .

في " الرسائل الفارسية " للكاتب الفرنسي مونتيسكيو

نحن في هذا الكتاب ننتقل إلي العقلية الغربية في القرن الثامن عشر للميلاد ، فنري كيف كانت تنظر إلى الشرق بمنظار ساذج في مظهره وإن كانت هذه السذاجة تخفي أغراضا بعيدة وأهدافا لا يدركها إلا القاريء اللبيب . أراد الفيلسوف مونتيسكيو أن ينقد فيه حياة أهل فرنسا وثقافتهم وفكرهم فاتخذ أسلوبا قصصيا بسيطا هو أن يتخيل زيارة رجلين من أعيان الفرس لمدينة الفرنسيين الكبرى باريس . . ولا يهمنا هنا في كثير أو قليل ما لاحظه الشرقيان من متناقضات في هذه المدينة الغريبة عنهم بنظامها المعماري والاجتماعي والاقتصادي والسياسي إلخ . . وإنما نحب أن نعرض تلك الصورة التى قرت في أذهان كتاب القرن الثامن عشر عن الشرقيين ، والتي أثبتها الفيلسوف في فصول شتي من كتابه . . والحق يقال أن هذه الصورة ليست من الصور المشرفة ،

وإن كانت هي الصورة التى استحوذت على العقول زمنا طويلا . . فأحوال الشرق نفسها في هذا القرن الثامن عشر لم تكن على خير ما يرام . والقاص يبدأ حكايته بوصف الحالة السياسية لمجموعة دول البلقان والبلدان التابعة لسلطة الأتراك ، وهذه الأقطار كان قد دب فيها الفساد وطغى عليها الحكام بشكل يدعو للعجب والسخط ، هذا على ما كانت تتصف به بعد ذلك من الضعف والإنهيار . والكاتب يستعمل في تحليله للدولة العثمانية كلمتي " الجسم المريض " ويقول عنها : " في هذه الأقطار نري الباشوات يحصلون على إمارة الولايات لا بالكفاءة ولكن ببذل المال ، فيعمدون إلى تخريب ولاياتهم ونهبهم لتعويض ما دفعوا مقابل الاستيلاء عليها . . الشرطة لا يعملون إلا حسب أهوائهم ، والحصون مهدمة مهجورة . . ولقد أعرض هؤلاء البرابرة عن كل فن حتى فن الحرب . . "

ولكن الفكرة التى لأزايل رأس المؤلف في كل فصل يخطه من الكتاب هي فكرة " حياة المرأة في الشرق " .

هنا يجدر بنا أن ننبه القاريء إلى أن هذه الفكرة عن المرأة الشرقية مازالت إلى يومنا هذا عالقة بأذهان الغربيين حتى المثقفين منهم ؟ فهم يعتقدون أن كل رجل في الشرق مهما كان مركزه تافها لابد له من حريم ضخم وأغوات يخدمون نساءه . وفي " الرسائل الفارسية " التى نحن بصددها نري بطل القصة الفتى أوسيك لاينفك بذكر نساءه وقصره المليء بالجواري ، ولا ينفك في خطاباته يوصي رئيس الأغوات بصيانة هذه الدرر الغالية ويحذره من التفريط في حراستهن . ونقرأ وصفا دقيقا لهذا الحريم ، فنراه كالبوتقة الكبيرة تغلي فيها العواطف الحبيسة على نار الحرمان واليأس ، ثم نري تلك العواطف تنفجر بغتة فلا تستطيع قوة على الأرض أن تضبطها . .

وناحية أخري من الشرق يتعرض لها المؤلف هي الناحية الدينية ، وأظنه لم يفهم الإسلام على حقيقته ، لأنه اتخذه

فقط وسيلة ميسرة لنقد الديانة المسيحية ، ولذلك فقد وقع في كثير من الخلط والإسفاف . وهناك بعد ذلك مقارانات طريفة بين الحياة في مدينة أصفهان ومدينة باريس . وتعليلات مختلفة للاختلافات الكثيرة بين الشرق والغرب .

في قصة " تائيس " للكاتب أنا تول فرانس

الإسكندرية . . في عصر سطوة المسيحية الأولى وسيطرتها على العقول ، رغم وجود الكثير من المشركين الذين ما زالوا مؤمنين بعقائد الأجداد : فهناك فريقان متقابلان متنافسان . . فريق المؤمنين بالمسيح وعلى رأسهم الكهان ورهبان الصحراء ؛ وفريق المشركين بالله ومن بينهم أغلب رجال الوظائف وأصحاب الثراء . والبون شاسع بين كلا الفريقين : فالمسيحيون ما زالوا في فورة الحماس الاول لدينهم يؤمنون به أقوى الإيمان ويضحون في سبيله بالنفس والنفيس ؛ والمشركون المترفون من السادة الأغنياء لا تهمهم آلهتهم بقدر ما تهمهم المحافظة على أموالهم وسلطتهم وحياتهم المنعمة الرخية .

ولا بد ، والحال هذه ، أن يكون الصراع سجالا بين أصحاب المسيح وبين المشركين ؛ وقد عمد هؤلاء ، المشركون في أول الأمر إلى اضطهاد المسيحيين والتنكيل بهم ، ولكن أعياهم أمرهم . فكفوا عن تعذيبهم بعد أن أصدر الإمبراطور الروماني ، صاحب السيادة على الإسكندرية في ذاك العصر قرارا بوقف الاضطهاد الديني . بيد أن الصراع انتقل إلي حيز الجدل والمناقشة . وكان الرهبان المسيحيون قد اعتزلوا في الصحراء الغربية وأسسوا لأنفسهم هناك شبه دولة قوية لها قوانينها ولواؤها ورؤساؤها ، وهي بعد ذلك ترسل إلى المدينة بين الفينة والفينة رجالا من أتباعها يدعون للدين الجديد ويعملون على تقوية سلطانه . .

وكان بافنوس من رؤساء الرهبان الذين اعتزلوا في الصحراء ، وكان مشهورآ بالتقوى والجد والزهد . وقد راوده خياله في يوم من الأيام أن يذهب إلى الإسكندرية ليحاول هناك أن يهدي إلي دين الله فنانة مشهورة من بائعات الهوي تعيش في المدينة عيشة فسق وفجور . ويرحل الرجل إلى حيث يجد الفنانة وتنجح محاولته في هدايتها ، وتستقر أخيرا

في دير من أديرة الراهبات تحيا فيه حياة القديسات وتموت ميتتهن ولكن الله لم يثب بافنوس على هذا العمل الجليل ، بل أوقعه في شرك الشيطان الذي جعله يحب فنانته حبا جنونيا ويكفر بالله والمسيح في سبيل الوصول إليها

وريشة الكاتب قد أبدعت حقا تصوير المناظر المصرية خلال رسمه لخوالج النفوس وصبوات القلوب . فنحن نري آيات شتى من جمال النيل والصحراء تنطق بالروعة في سحرها الساذج البسيط ، ونحن نري وصفا دقيقا لمدينة الإسكندرية في عهد الرومان ببذخها الفاجر في قصور السادة وفقرها المدقع في الأحياء الشعبية ، ثم نشهد أطرافا من حياة شعبها في دور اللهو وفي الأسواق . . ويعطينا القاص نماذج من البشر في ذاك العصر البعيد : منها الراهب المتبتل القانت الذي هجر أسرته وماله ووطنه ليحيا في دين المسيح حياة خشنة عسيرة ؛ ومنها الفيلسوف الذي لا يؤمن بشيء ولا يريد أن يؤمن بشيء . فيغرق في الملذات ويحاول إمتاع جسده في غير حياء أو تحفظ ، ومنها الفنانة التي بدأت حياتها بائعة للهوى وختمتها قديسة في دير وسط الصحراء . ومنها الموظف الكبير الذي ينظر إلي كل شئ من ناحية فائدته للدولة أو عدم فائدته .كل ذلك في إطار جميل يخلب آب القارئ : سماء مشرقة وصحراء مترامية الأطراف وآثار قديمة نثرت هنا وهناك وحياة لهو زاخر تقابلها حياة زهد شديد . .

خلاصة القول أن الإسكندرية في قصة " تانيس ، مثال حي للمدينة الشرقية إبان حكم الرومان في العصور الأولى لانتشار المسيحية . .

" في الشرقيات " للشاعر فيكتور هوجو

ديوان من الشعر نظمه الأديب الفرنسي الكبير في مستهل حياته ، فنقح فيه من حماس الشباب وفورة الصبا . . في هذا الديوان الذي اسماه ( الشرقيات ) جمع هوجو قصائد عدة مجمع بينها ما فيها من حديث الشرق . والشرق عند الشاعر يشمل بلاد اليونان وبلاد الإسبان وما بينهما من الأقطار الإفريقية والأسبوية الخاضعة للعرب أو للأتراك ويعترف الشاعر أنه لم يهدف من وراء ديوانه هذا إلى غرض معين . وإنما هي ( نزوة طارئة ) ورغبة غير مسببة من رغبات النفس دفعته إلى أن يسبح في بلاد الشرق المختلفة

ويخرج منها بصور شعرية فنية تتصل بأسباب إلي الواقع وبأسباب أخرى إلي الخيال . والكتاب في جملته يعبر عن التيار القوى الذي بدأ في أوائل القرن التاسع عشر يجذب الأنظار إلى الشرق ، وإلى مشاكله المختلفة وحضاراته المنهارة . ويقول الشاعر في مقدمة ديوانه : " وإذا تدبر القارئ الأمر - إن كان أمر ديواني يستأهل التدبر لوجد أن إخراج كتاب من الشعر عن الشرق ليس بالشيء ، الغريب كما قد يخطر على البال لأول مرة . فالاهتمام بالشرق في عهدنا الحاضر قد بلغ حدا لم يبلغه في أي قرن من القرون السالفة . .

كان العلماء في عهد لويس الرابع عشر يفخرون بمعرفنهم لآداب اليونان وحضاراتهم ، واليوم يفخرون بكونهم مستشرقين ؛ وهذا تقدم لا جدال فيه . . وقد كان من جراء ذلك أن اصبح الشرق فكرة ثابتة في عقول الناس أجمع وتيارا قويا في ثقافتهم ربما خضع له كاتب هذه السطور دون أن يشعر . . " وهناك أنواع ثلاثة من الصور يعود إليها الشاعر في أغلب

" شرقياته " . وهي : صور حرب الاستقلال اليونانية ، وصور الصراع العنيف الذي كان بين المسيحين والمسلمين في إسبانيا ، ثم صور الترف والتنعم في حياة السلاطين الشرقيين . وطبيعي من الشاعر أن يحمل في كل هذه الصور على العرب والمسلمين . وطبيعي أن يحاول بيان بطولة الغربيين المسيحيين وشجعاتهم في مكافحة أهل الشرق . . وبعض عناوين القصائد قد تعطى للقارئ فكرة عن محتويات الديوان ، وهاك طرفا منها : " ثمارينو ، بأس الباشا ، صرخة القراصنة ، الأسيرة ، النقاب ، السلطانة المحظية ، الدرويش ، المعركة الخاسرة ، غرناطة ، الدانوب الغاضب . . إلخ " ولكن إلى جانب هذه المقطوعات الكثيرة التي يحمل فيها الشاعر على أهل الشرق ، نجد قصائد أخرى ترسم في روعة وقوة أجواء الشرق وصور جماله ، ومن هذه القصائد أخص بالذكر قصيدة ( الجن ) التي بلغت من سمو الفن وإتقان الصناعة حدا يثير العجب . .

( المقال بقية )

اشترك في نشرتنا البريدية