الصلة بين الشعر والحياة وثيقة شديدة الاتصال ، بل إنك إذا أردت أن نفسر طبيعة الشعر وان تزنه لمعرفة قيمته ومنزلته ما استطعت إلى ذلك سبيلا إلا إذا اتخذت من الحياة أساسا لهذه الموازين .
ولعلك تسأل : ماذا تقصد بالحياة ، أهى الحياة النفسية ، أو الاجتماعية ، أو الطبيعية ، أو الحيوية ؟ إنها أولئك جميعا ، لأن الإنسان كائن حى ، له حياته الباطنة الخاصة به الذاتية له التي هى بالصندوق المغلق أشبه ، والتي ينفرد بها عن غيره من الناس في عواطفه ومشاعره والامه وأحزانه وخوفه ورجائه . وله إلى جانب ذلك حياته الاجتماعية التي يتصل فيها بالناس ويتعامل وإياهم ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم ويشاطرهم حماستهم وبأسهم ، وملاعيهم وملاهيم وما يعحبون به وما ينفرون منه . غير أن حياة الإنسان الباطنة إن هى في الواقع إلا صورة للحياة الاجتماعية تنعكس على مرآة النفس وإنما جاء الخلاف بين ما يشعر به أحدنا من اختلاف الظروف التي يعيش فيها ، والزاوية التي ينظر منها إلى الأمور
وقد شاع في الناس هذه الأيام مذهبان يتصب لكل منهما فريق : أما المذهب الأول فهو أن الفن للفن . يريدون بذلك أن الفنان كالشاعر مثلا ينظم قصائده للفن في ذاته لا يخضع في أدائه لحاجات الحياة وضرورات المجتمع حتى لا يكون فنه تابعا لغاية اخرى عبدا لها مسخرا في خدمتها ، وفي هذا اسفاف بالفن ونزول به من عالمه الأسمى إلى حضيض هذه الحياة المادية ، فإذا أضفت إلى ذلك أن الفن الصحيح ينبغي أن يصدر عن الطبع دون كلفة أو تصنع . فإذا تعملته فقد رونقه وروحه وذهبت عنه طلاوته وحلاوته وولى ما فيه من سحر وتأثير ، وأصبحت الفنون المختلفة أشكالا فارغة من الروح الصحيح ، فإذا بالشعر ينقلب نظما، والموسقى وزنا ، والرسم شكلا ولونا . وهكذا
أما أنصار المذهب الثاني ، وهو أن الفن للحياة ، أو الفن للمجتمع ، فيقولون : وما حاجتنا إلى هؤلاء ، القوم الذين
يعيشون في أبراجهم العاجية ، إنهم بعيدون عنا ، وقد حكموا على أنفسهم بالعزلة والهرب من الحياة ، وقطعوا الصلة بينهم وبين أهلهم الذين أخرجوهم إلى هذه الدنيا ، فنكصوا عن أداء الواجب ، وآثروا أنفسهم ، وإنما الفن الصحيح هو ذلك الذي ينبع من معين الحياة ، ليستمد قوة من قوتها ، والذي تكون صوره معبرة أصدق تعبير عن هذه الحياة الاجتماعية التى يشارك فيها الناس ويحسون فيها بمختلف المشاعر والأحاسيس ، وليس الفنان إلا الناطق بلسان هذا المجتمع . المعبر عما يشيع فيه من مشاعر .
وليس بين المذهبين هذا التناقض الحاسم الذي يصوره انصار كل مذهب منهما . بل الحق أن الفنان يبدل من نفسه للفن . وليست نفسه إلا صورة من المجتمع . فهو إذ يعبر التعبير الفني الذي يخيل إليه معه أنه قد تجرد عن المجتمع تجردا تاما، وانقطع تمام الانقطاع للعمل الفني الذي يقوم به ويؤديه انما يعبر في الوقت ذاته عن الصورة التي انعكست في مرآة نفسه عن هذا المجتمع الذي يعيش فيه . أو البيئة التي يوجد وسطها .
ومن شروط الفنان أن يكون حرا ، تفيض نفسه إذا امتلأت بشعور ما ، فيصوغ هذا الشعور في ثوب من الفن الذي يحسه وسبق له ان تعلمه كالشعر أو الموسيقى أو النحت والتصوير ، أو القصة والتمثيلية ؛ وأغرب ما نسمعه هذه الأيام أن يطلب الطالب من الفنان أن يصنع له قطعة فنية ، كأن الفنان نجار ما عليه إلا أن يمسك بالمنشار والقدوم ويصنع بهذه الآلات من الخشب قطعة من الأثاث .
إنما غرضنا أن نتكلم عن الفنان الأصيل كالشاعر المطبوع مثلا ، فإنه حين يبدع قصيدة أو بيتا ، يكون في ذلك متأثرا بالحياة ، عاكسا للبيئة في نفسه ، ثم هو لا يدرى في الواقع كيف ينظم . بل تتفاعل المشاعر والعواطف فيما نسميه بالاشعور ، فإذا هو يجد نفسه يترنم وينظم .
وأستطيع أن أطبق هذه المبادىء التي ذكرتها على
ديوان الأسمر الذي جمع بين دفتيه معظم ما نظمه خلال حياته . حتى الوقت الحاضر ، فهو سجل أودع فيه رأيه في هذه الدنيا شعرا ، او هو تاريخ مصر منذ الحرب العظمى حتى اليوم ولكنه منظوم ، وكما شعر به محمد الأسمر
وقدم لهذا الديوان بثلاث صفحات صور فيها كيف ينظم الشعر جد ان تأمل نفسه ، على طريقة علم النفس المسماة بالتأمل الباطنى أو الاستبطان .
يقول : " وليس لنظم الشعر عندي وقت خاص أو مكان خاص فإنه حينما تحضر شياطينه أو ملائكته ، يأخذ على كل وقتى حيثما كنت ، فأقول وأنا في المنزل ، وأقول وانا في الطريق ، واقول وأنا وحدى ، وأقول وأنا مع الناس ، كل ذلك وأنا في شبه غيبوبة " .
فانظر إلي تعبيره " وأنا في شبه غيبوبة " نجد أنه ينظم عن اللاشعور . وقد عاد إلى هذا المعنى نفسه فكرره في تشبيه طريف ، فقال : " وإنه ليخيل إلى أن مخى في أول عمل القصيدة انما هو " ساعة " أملؤها ، وهو بعد ذلك يؤدي عمله بنفسه ، ولا سلطان لي عليه . كما تؤدي الساعة عملها بعد ملئها . وقال في موضع آخر : " ولقد أفرغ من القصيدة ، أو تفرغ هى مني . فأقرؤها بعد ذلك ، وأعجب لما بها ، وكيف تمت صياغتها ، حتى كأني لست بصاحبها .
وليس غرضى الآن تفصيل عمل العقل في اللاشعور حتى يبدع ، فهذا شأن آخر وانما أود أن أنبه إلى هذه الظاهرة الغريبه التي يعترف فيها الشاعر بأنه يصدر عن اللاشعور ، ومعنى ذلك عن حياته الباطنة الخاصة . ومن هذا الوجه يرضى أصحاب مذهب الفن للفن . ويرضى أولئك الذين يطلبون أن يكون الشعر تصويراً للعواطف الشخصية فقط ، ومن ذلك ما يقوله في قصيدة جنوان ( وقفة بين المنى واليأس ) :
وأصبح في لج عريض من المنى
وأقبع في جحر من الياس ضيق
غير أن هذا الشعر ، وأمثاله مما نجده في الديوان ، إما هو صدى للحياة الخارجية ، التى أحس بها الأسمر . فوقع في الحيرة . ولم يستطع أن يفهم السر في الشقاء والسعادة على الوجه الصحيح . ففي قصيدة بعنوان ( دموع شاعر ) يقول :
ألا حدثوني هل جرى الرزق عادلا
أم الرزق لم يفتا يحابي ويظلم
قنعت بحظي ، واتهمت فضائلي
ولو أنها شمس تضئ وأنجم
وطلقت امالى وقلت لها اعزبى
فإن سبيل الباس أهدى وأقوم
ونحن نجد الشاعر يكثر من ترداد معنى الحظ العاثر ، والرضا حد ذلك بهذا الحظ . وهذه فلسفة تشيع في الشرق ، وفي مصر بوجه خاص . فهو محدثنا في قصيدته : " مملكتي " أن الدنيا حظوظ مقسومة ، وأن حظله منها البؤس والعذاب
وما نحن إلا كالنبات قناضر
وآخر في صحرائه جد يابس
حملت لواء البؤس في مصر وانضوى
مطيعا لأمري تحته كل بائس
غير أن الجانب الآخر من ديوان الشاعر ، الذي يمثل الحياة الاجتماعية لا الحياة الشخصية ، زاخر بالقصائد الطوال . وفي هذا الجانب يجد أصحاب الفن للمجتمع بغيتهم . ولو اننا نختلف وإياهم ، لأن الفن فيما نرى - ذاتى وموضوعي في آن واحد ، وقولنا إن الفن للحياة أصدق دلالة على ذلك . فالشاعر يتأثر بالحياة الاجتماعية في شتى مظاهرها ، السياسية والاقتصادية والعمرانية والأخوانية ، ثم ينظم ما تشعر به نفسه .
له في المناسبات السياسية الكبرى قصائد كثيرة . من ذلك ما نظمه بعد عودة سعد زغلول من مفاوضة مكدونالد بالفشل ، فذهب إلى بطلان المفاوضات والاعتماد على السيف ، وهو من المعاني التي تدور في خلد المصريين اليوم ، أي بعد ثلاثين عاما :
حري بمن لم يصحب السيف والقنا
إذا ما سعى أن يقبل الذل صاحبا
عليك بصدق الطعن والضرب في الوغى
وخل أكاذيب البراعة جانبا
فمن حمل الأقلام أصبح خاضعا
ومن حمل الأسياف أصبح غالبا
وأي شعوب الأرض نال لباتة
ولم يك طعانا ولم يك ضاربا
وعاد إلي هذا المعنى نفسه في قصيدة قبلت في بعض المظاهرات الوطنية ضد الاستعمار الإنجليزى ، وقد استشهد فيها كثير من الجماهير ، جاء فيها :
إذا أنت لم تحمل قناة وصارما
فما لك نحو المكرمات سبيل
رأيت صليل السيف أبلغ منطقا
إذا قام بعض القائلين يقول .
وكلنا نذكر البالية التي تغنتها أم كلثوم ، وهي التي نظمها الشاعر بمناسبة توقيع مندوبي الأمم العربية اليثاق العربي سنة ١٩٤٥ :
زهر الربيع يرى أم سادة نجب
وروضة أينعت أم حملة عجب
وقد سجل الأحداث السياسية التي هزت نفسه شعراً ، سواء أكانت عالمية أم وطنية . قال يرثى البطل أحمد عبد العزيز :
مصرع القائد في ميدانه هو للقائد عيش بل خلود
ونظم في الحرب العالمية الثانية عدة قصائد :
أقلب طرفي في الوجود فلا أرى
سوى الشر والأهوال أنثى أقلب
فتلك شعوب للقتال تأهبت
وتلك شعوب لم تزل تتأهب
وأدركت حربا كنت يافع عهدها
وها تفكمو أخرى ورأسي اشيب
ولا أود أن أنقل إليك نماذج من سائر ما قاله الشاعر في ديوانه الكبير الذي يزيد على ستمائة وخمسين صفحه ، فهو بحق سجل للحياة المصرية في مختلف مناحيها خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة .
بل لم يرفع الشاعر من ديوانه " الإخوانيات " التي تجرى بين أصدقائه من قبيل اللح والفكاهات ، وقد اختلف رأي النقاد في أمر هذا الشعر ، أيعدونه من جملة الشعر أم من سبيل النظم ، ونحن نرى أن الشعر إذا استكمل أدواته ، الظاهرة والباطنة ، أى الموسيقية والشعور الصادق والإحساس الدقيق ، والخيال البديع ، فهو شعر . خذ مثلا ما نظمه في مسبحة أهداها إليه أحد أصدقائه :
مسبحتى كأنها من عنبر وعنجد
ضمنت تباشير الصبا ح للظلام الأسود
كم صائم مسبح لسانه كالمبرد
ليس غرضى أن أدرس الديوان دراسة مستفيضة إلا بمقدار ما يوضح النظرية التي أذهب إليها ، وخلاصتها أن الشعر ضرب من ضروب الفن ، وان الشعر كسائر الفنون ظاهرة حيوية ، تشمل الحياة الباطنة النفسانية ، من جهة أنها تعبر عن الحياة الاجتماعية الخارجية ، حقا الشعر تعبير عما يدور في خلد صاحبه ، وما يشعر به ، ولكنه يعلو ويسير إذا كان هذا التعبير الشخصي معبرا كذلك عما يدور في خلد الناس ، وهذا سر إعجاب الناس بالشعراء حين يكون نظمهم عاماً خالداً يحكى ما في انفسهم جميعا ، ولا يكون كذلك إلا إذا كان متصلا بالحياة وصورة صادقة لها .
