تعصب صديقنا الأستاذ محمد عبد الغنى حسن لصناعته فرمى الفلسفة بقلة الجدوى فضلا عن الغموض والإبهام ، لأن كلام أبى الوليد فى العقل والعقول والمعرفة والاتصال لا يحل عقدة ، ولا يكشف قاعا ، ولا يروى القليل . وقديما قال الشاعر :
ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله
وأخو الجهالة فى الشقاوة ينعم
ولم تصير الفلسفة على هذا الاتهام ، فرمت الشعر بالتمويه والغواية ، واعتمدت على قول الله عز وجل : (( والشعراء يتبعهم الغاوون )) إلى آخر الآية الكريمة .
ونحن نرى أن الصناعتين من أشرف الصناعات وأكرمها ، ولا موجب للنزاع بينهما ، وقد عاشا دهورا طويلة ينعمان بالصداقة الصادقة ويستظلان ظل المؤاخاة والمعايشة والمبادلة ، وكفى ما نراه فى هذه الدنيا من خصومات بين المذاهب ، ومنازعات بين الدول ، وأحقاد بين الأفراد ، حتى ليندر أن تجد الحل الوفى أو تطمئن لحبيب .
وأنت تعلم أن الفلسفة صناعة يونانية ، وهى لأمثلة يعنون بها فى لسانهم إيثار الحكمة ، ثم نقلت إلى سائر اللغات . وقد جرت عادة أوائل الحكماء فى اليونان أن ينظموا حكمتهم شعرا . قيل ذلك عن طاليس أحد الحكماء السبعة وأول الفلاسفة فى بعض الروايات . قيل إنه نظم قصيدة فى الفلك والتنجيم أودعها بعض فلسفته .
هذا ما كان من حال الفلاسفة الطبيعيين ؛ أما المصدر الآخر الذى غذى الفلسفة بالذوق والخيال والصوفية ، فقد نبع عن أورفيوس ، وكان شاعر ومغنيا قرب بين العقل والقلب ، وجمع بين الفكر والشعور . وعنه أخذ فيثاغورس فلسفته ونزعته إلى الموسيقى وتفسير العالم بالنغم ، والموسيقى هيكل الشعر ، والنغم يسرى فى أعصاب الشعراء ، فكأنهم
حين اهتدوا إلى ضبط النغم بلغوا لب الحقيقة وعرفوا سر الوجود .
ومن الثابت أن بارمنيدس رأس المدرسة الإيلية ترك قصيدة فى الفلسفة تنقسم أقساما ثلاثة : مقدمة ، ثم الطريق إلى الحقيقة ، ثم الطريق إلى الظن . ويحكى باوتارك أنه عمد إلى الشعر كما عمد غيره من قبل ، لأن أسلوب الشعر يجرى كالعربة ؛ أما النثر ، فإنه من السهولة بحيث لا يعبر عن الحركة . وقيل إنه أراد أن يكسب فلسفته تأييدا من سحر الوزن وعذوبة الألحان . وأكبر الظن أنه رأى مذهبه مستمدا من الوحى ، فلا يليق بالتعبير عنه إلا الشعر ، وهو يستهل القصيدة بكلام على لسان إحدى إلهات اليونان تفتح له الطريقين وتلقى عليهما الضوء ، طريق الحق وطريق الباطل . ثم تعلمه أن طريق الظن فاسد يشتغل به أفراد الناس الذين يحل عليهم الموت والفناء ، ثم تنهاه عن السير فى هذا الطريق .
ويقال إن أنبادوقليس من فلاسفة القرن الخامس ، وصاحب مذهب العناصر الأربعة . النار والهواء والماء والأرض ، ثانى فيلسوف نظم فلسفته شعرا ، إذا أسقطنا من حسابنا شعر الفيثاغوريين ، ونظم زينوفان . وإذا صدقنا رواية قدماء المؤرخين ، فإن مجموع أشعاره تبلغ خمسة آلاف بيت ، بقى منها حول ثلثمائة وخمسين .
وقد نظم أرسطو الشعر وكادث إحدى القصائد التى نظمها تودى بحياته ؛ ذلك أنه بعد وفاة أفلاطون صاحب الأكاديمية هجر أرسطو المدرسة ، وكان من أبرز تلاميذها ، وذهب إلى هرمياس ، وكان تلميذا معه بالمدرسة ، وأصبح طائفية أنارنيوس ، فجمع حوله حلقة من التلاميذ ، وظل أرسطو معه إلى أن قتل . وسبب ذلك أن هرمياس ظل حائرا بين مقدونيا والفرس ، وكان ينحاز إلى إحداهما تارة وإلى الأخرى تارة ثانية ، إلى أن وقع فى شرك منثور القائد المقدونى فسلمه إلى عدوه وشنقه . وأثرت هذه الخاتمة
فى قلب أرسطو ، فسجل شعوره شعرا فى لحن بعنوان (( الفضيلة )) جاء فيه : أيتها الفضيلة ما أشق الحصول عليك ! أنت أثمن ما يطلبه المرء ما أجملك أيتها العذراء الصغيرة لقد اقتحم الإغريق الموت فى سبيلك وتحملوا أعظم الآلام والأرزاء إنك تملأين النفوس بثمار خالدة أغلى من الذهب وأفضل من روابط الدم وأحلى من النوم الهادىء
وكاد أرسطو أن يحاكم ويقتل كما حوكم سقراط من قبل بسبب هذه القصيدة ، لأن الآلهة فقط هم الذين يحظون بشرف النظم ؛ فإذا رثى أحد صديقا بالشعر ، فهذا من قبيل الإلحاد والتطاول على الآلهة .
ولما انتقلت الفلسفة إلى المسلمين كان منهم الشعراء ، فهذا يعقوب بن إسحاق الكندى ، فيلسوف العرب ، سمع رجلا ينشد قول ربيعة الرقى : لو قيل للعباس يا ابن محمد قل : لا ، وأنت مخلد ، ما قالها فقال : ليس يجب أن يقول الإنسان فى كل شىء نعم ، وكان الوجه أن يستثنى . ثم قال : هجرت فى القول لا إلا لعارضة تكون أولى بلا فى اللفظ من نعم
وعقب المرحوم مصطفى عبد الرازق باشا على ذلك بقوله : (( وهذه الشواهد تعرب عن منهج الكندى فى النقد الأدبى ، وهو مذهب فلسفى يقوم على العناية بسلامة المعنى من الوجهة المنطقية واستقامته فى نظر العقل )) .
وللكندى شعر آخر ، ولكن رأى فيه أنه لم يكن أديبا من الطراز الذى يعتد به . وقد ذهبت فى بحث لى نشرته منذ بضع سنين إلى أن فساد عبارته وغموضها مما دعا إلى إغفاله ، فلم يشتهر شهرة الفارابى مثلا .
أما أبو نصر الفارابى . فهو المعلم الثانى ، من حيث إن أرسطو هو المعلم الأول . وقد سمى أرسطو المعلم الأول لأنه وضع المنطق ، وسمى الفارابى المعلم الثانى لأنه وضع علم الموسيقى أو التعاليم الصوتية . فلا غرابة أن يكون الفارابى صاحب ذوق مرهف الحس حسن العبارة . روى ابن أبى أصيبعة له شعرا ، أو بعض قطع من الشعر تدل على رقة الطبع منها :
لما رأيت الزمان نكسا وليس فى الصحبة انتفاع
كل رئيس به ملال وكل رأس به صداع
لزمت بيتى وصفت عرضا به من العزة اقتناع
أشرب مما اقتنيت راحا لها على راحتى شعاع
ويبدو أن الفارابى كان يميل إلى العزلة والانفراد . جاء فى سيرته أنه (( لم يكن معتنيا بهيئة ولا منزل ولا مكتسب . ويذكر أنه كان يتغذى بماء قلوب الحملان مع الخمر الريحانى فقط ، ويرى الانفراد على شرب الخمر ولا يحب المنادمة عليها . . . )) ومن شعر له فى هذا المعنى :
بزجاجتين قطعت عمرى وعليهما عولت أمرى
فزجاجة ملئت بحبر وزجاجة ملئت بخمر
فبذى أدون حكمتى وبذى أزيل هموم صدرى
ويبدو أنه ندم على ارتكاب الإثم فطلب من الله المغفرة فى شعر فلسفى منه :
يا علة الأشياء جمعا والذى كانت به عن فيضه المتفجر
إنى دعوتك مستجيرا مذنبا فاغفر خطيئة مذنب ومقصر
أما أبو على بن سينا فقد أثر عنه شعر كثير منه قصيدته فى المنطق وهى طويلة نذكر منها . :
وفطرة الإنسان غير كافيه فى أن ينال الحق كالعلانيه
ما لم يؤيد بحصول آله واقية الفكر عن الضلاله
وهذه الآلة علم المنطق منه إلى جل العلوم ترتقى
وله الأرجوزة فى الطب التى مطلعها :
الطب حفظ صحة برء مرض فى بدن من سبب منذ عرض
وسوف ينشرها الأستاذ كونيز فى مطبوعات المعهد ( البقية على صفحة ٢٣ ) .
