كتب الكتاب فى حياة برجسن وموته ، وعرضوا طرفا من تواليفه ، وشرحوا شطرا من آرائه . وعندى أن القارئ العربى أحق بأن ينقل إليه شىء مما ابتدعه ذلك الفيلسوف الذى استطاع أن يستحدث فى فن ، قد قيل فيه ما شاءت الألسنة وسطر ما حلا للأقلام .
وبقراءة الأصول منقولة ، يقبض القارئ العربى المهذب على ناحية من نواحى الفكر عند برجسن ، ويتصل بفنه الفريد فى تصريف الكلام .
وإنى أدرى ، ويدرى من نظر فى كتب برجسن ، أن أسلوبه مما يكلف القارئ مشقة ، وذلك لإمعان فى
الروية واسترسال فى توليد المعانى ، إلى جانب الافتتان فى الآراء طلبا للرشاقة والأناقة ، وأذكر أنى كنت أنفق يوما أو بعض يوم فى تدبر صفحتين اثنتين ، وأنا أطلب الفلسفة فى السربون عاجا على مؤلف من مؤلفات هنرى برجسن . واليوم أقبل على نقل فصل ، قد حول النظر إلى الفن عموما من زاوية إلى زاوية ؛ وأنا أعلم بأنى أحاول أمرا غير قريب ، يزيد فى إبعاده ما يعوز الإنشاء العلمى عندنا من الجريان وثبات المصطلح . وإنما ينبغى لنا أن نحاول حتى نقرب الإحكام ! وقد ابتغيت النقل حرفا لحرف - بقدر ما تأذن لغتنا العزيزة فى ذلك - كى يلمس القارئ العربى خصائص برجسن فى التفكير والتعبير .
يقول برجسن فى كتابه : " محاولة فى مبذولات الوعى المباشرة " Essai sur les données
immedisics de le conscience ، الخارج سنة ١٨٨٩ ، الباب الأول : " فى شدة الأحوال النفسية " ، القسم الثانى من الفصل الثانى : " فى ألوان الشعور العميق " (١)
لعل الشعور بالجميل يتعذر على التحديد ، لأننا نعد ألوان جمال الطبيعة ، كأنها سابقة لألوان جمال الفن ؛ فلا تكون أساليب ألوان الفن إذا سوى وسائل يعبر بها الفنان عن الجميل ؛ وأما جوهر الجمال فيظل سرا مكنونا . على أنه لنا أن نسأل : هل الطبيعة جميلة بغير موطأة بين طائفة من أساليبنا فى الفن . أوليس الفن من بعض الجهات سابقا للطبيعة ؟ ولكن لم الذهاب حتى ذاك السؤال ؟ فإنه لأكثر مطابقة لقواعد منهج سليم أن نتفحص الجميل فى المصنوعات التى سوى فيها بنشاط واع ، وأن ننحدر بعد ذلك بنقلات غير محسوسة من الفن حتى الطبيعة ، الطبيعة الفنانة على طريقتها . فإن نحن وقفنا ذلك الموقف أدركنا ، فيما يلوح لى ، أن الفن وضع ليخدر القوى الفعالة من شخصيتنا - أو على الأصح - قواها المقاومة ؛ فينزلنا على طاعة تامة تحقق بها الفكرة التى يوحى بها إلينا ، ونأنس بالشعور المعبر عنه .
وفى أساليب الفن نتعرف الطرق التى بها تحدث حالة التنويم ، غير أن أساليب الفن ألطف شكلا وأبلغ صقلا ، وقل : أقرب إلى الروحانى . وتجرى الموسيقى هذا المجرى ، إذ يمسك الايقاع والميزان - إلى أجل - بالدوران الطبيعى لإحساساتنا وأفكارنا ، وهما يطوحان انتباهنا بين نقط ثابتة ؛ ويملكاننا بقوة ، حتى إن محاكاة غاية فى اللطف لصوت يئن كافية لتغمرنا حزنا بالغا . فان أثرت فينا الأنغام الموسيقية فوق ما تؤثر فينا أنغام الطبيعة
فذلك لأن الطبيعة لا تتجاوز التعبير عن ألوان الشعور ، على حين الموسيقى توحى بها .
ثم من أين يأتى سحر الشعر ؟ إن الشاعر هو من تنفرش لديه ألوان الشعور صورا عينية ، ترتد كلمات تخضع للايقاع لتؤدى هذه الصور . فان نحن تصفحناها جاء دورنا فى الاحساس بشعور يكون كالمعادل الاضطرابى لها . ولكن تلك الصور لا تتحقق لنا بقوة من غير حركات الايقاع المنتظمة ؛ والايقاع يهدهد الروح فتغفو فيفلت أمرها من قبضتها كأنها حالمة ، فتفكر وترى مع الشاعر .
والفنون التصويرية تؤثر على نحو تأثير الشعر ، بفضل الثبات الذى تفرضه على الحياة فجأة ، وينتهى الثبات إلى انتباه الناظر بعدوى جسمانية ، فان عبر النحت القديم للتماثيل عن اضطرابات هينة تكاد تمس تلك التماثيل مس النسيم ، فما يقابل هذا أن الجمود الشاحب فى الحجر يضفى على الشعور المعبر ، أى على الحركة المستأنفة ، شيئا مبهما داخلا فى النهائى والأزلى ، شيئا يغيب فيه فكرنا وتضل إرادتنا . ثم إنا نصيب فى فن العمارة بعضا من التأثير المماثل لتأثير الايقاع : فان اتساق الأشكال والترديد الدائم لرسم عمارى معين يجعلان ملكة الادراك فينا تتأرجح بين الشىء ومثله ، وتفلت من اعتياد التبدلات المستمرة التى تعود بنا من غير انقطاع فى الحياة الجارية إلى الشعور بالشخصية . فالاشارة إلى فكرة ، مهما دقت الاشارة ، كفيلة أن تملأ جنبات روحنا بتلك الفكرة . وعلى هذا النحو يقصد الفن إلى أن يركز فينا ألوانا من الشعور فوق تعبيره عنها : إنه يوحى بها إلينا ، ويعرض إعراضا عن محاكاة الطبيعة متى وجد وسائل أفجع . والطبيعة مثل الفن ، أدائها الايحاء ! إلا أنها يعوزها الايقاع . فإذا بها تتدارك النقص بتلك المرافقة الطويلة التى تحدثها بيننا وبينها الشركة فى
الانفعالات ، فتجذينا إلى الطبيعة عند أخف إشارة إلى لون من ألوان الشعور على نحو ما ينجذب النوم المرتاض إلى إيماء المنوم ؛ ويقع هذا الانجذاب خاصة ساعة تعرض الطبيعة لنا موجودات صحيحة النسب ، بحيث يتوزع انتباهنا بالسوية بين أجزاء الشكل جميعا غير مستقر فى إحداها . فتهتز ملكة إدراكنا بفضل هذا الضرب من التلاؤم ، فلا يهب شىء دون انطلاق الحساسية التى لا ترقب سوى زوال العائق حتى تضطرب منجذبة .
ومما يستخلص من هذا التحليل أن الشعور بالجميل ليس بشعور خاص ، وأن كل ما نشعر به كائنا ما كان يتخذ خاصية الشعور بالجمال ، على شريطة أن يكون من الموحى به لا من المسبب ، ولذلك ندرك لم يحتمل الاضطراب المتعلق بالشعور بالجمال درجات فى الشدة وفى الارتفاع أيضا . فالتحقيق أن الشعور الموحى به تارة يكاد يقطع النسيج المحبوك الذى يلأم الأحوال النفسية المكونة لتاريخنا . وتارة يغنى عنها انتباهنا دون أن يغيبها عنا ، ثم أخرى يحل محلها فيشغلنا ويستأثر روحنا كلها .
وعلى ذلك فان لارتقاء الشعور بالجمال أطورا متميزة ، كما هو الأمر فى التنويم . وهذه الأطوار أكثر مطابقة لتباين فى الحال والطبيعة منها لتفاوت فى المرتبة . ولكن قيمة العمل الفنى تقدر بحسب فيضان الشعور الموحى به فوق ما تقدر بحسب شدة استيلاء هذا الشعور علينا ؛ ومفاد هذا أننا نتبين بالغريزة درجات عمق وارتفاع إلى درجات شدة . وإذا نحن حللنا هذا وضح لنا أن الأفكار وألوان الشعور التى يوحى الفنان بها إلينا تعبر عن جانب كبير أو صغير من حياته وتجمله .
وإذا كان الفن الذى لا يثير إلا الاحساسات فنا وضيعا ، فعلة ذلك أن التحليل لا يستبين من الاحساسة فى غالب الأمر ، سوى الاحساسة نفسها ، ولكن أكثر
الاضطرابات تزخر بالعدد الجم من الاحساسات إذ تداخلها معان أو ألوان من الشعور : فكل منها حال فريدة فى نوعها ، تلتوى على التحديد . وأكبر الظن أنه لابد لك من أن تحيا من جديد حياة الذى أحس بها حتى تدركها بطرافتها المعقدة ؛ غير أن الفنان يقصد إلى أن يدفع بنا فى هذا الاضطراب الزاخر جدا ، الشخصى جدا ، الطريف جدا ، وإلى أن يجعلنا نحس ما لا يقوى على شرحه لنا . فلذلك يعنى بأن يدون من بين مظاهر شعوره الخارجية تلك المظاهر التى إن لمح إليها جسمنا حاكاها من غير روية ولو محاكاة ضئيلة ، بحيث ينزلنا دفعة واحدة فى الحال النفسانية التى أثارت تلك المظاهر ، وهى حال تستعصى على التبيين . وكذا يتقوض الحاجز الذى أقامه الزمان والمكان بين واعيتنا وواعية الفنان . وعلى قدر ما يزخر الشعور الذى أدخلنا الفنان فى محيطه ، بالمعانى والاحساسات والاضطرابات ، يزيد الجمال المعبر عمقا وارتفاعا .
فللشعور بالجمال درجات شدة متلاحقة توافق إذا تبدلات أحوال حدثت فينا ؛ على حين درجات العمق توافق عددا يكبر ويصغر من الأحوال النفسانية البدائية التى تنكشف لنا على غير توضح فى الاضطرابة الأساسية (١) .
