الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 586الرجوع إلى "الرسالة"

الشوامخ. . .

Share

كان المرحوم شوقى يقول:   (إن الذين لم يصلوا أعداء  للذين وصلوا) . والأولون كثيرون فى مصر وفى كل بلاد الله.  فى كل زمان ومكان، وكان البحترى ينافسه عند الخلفاء طائفة  من الشعراء المهرجين الذين كانوا يأخذون الجوائز رغما من حقارة شعرهم، وكان البحترى يضج من هذه الحال ويكثر التبرم  والشكوى، وهو القائل:

على نحت القوافى من مقاطعها ... وما على لهم أن تفهم البقر وكان بعض النقاد الفرنسيين يزعم أن فكتور هيجو ليس شاعراً  وأنه ينهق نهيق الحمار، على أن هذا وذاك لم يمنع العبقريات فى  كل جيل من الثبات والاستقرار كالطود الذى لا يعبأ بطنين  الذباب وترهات الأغبياء والدجالين وأنصارهم وصنائعهم

على أن الذى يراقب الحالة من كثب فى مصر منذ ثلاثين  عاما يجد أن الحركة الأدبية قد دبت إليها فى العهد الأخير عين  الفوضى التى اجتاحت الميدان السياسى فأصبح كثيرون من  أنصاف المتعلمين والمتأدبين يشرفون على الصحف ويزنون  الكتاب وكتاباتهم بموازينهم، ويفسحون صدورهم للتهريج ومحاربة الأدب العالى الذى يجهلونه. والذى زاد فى طغيان تلك الفئة  إقبال الجمهور على ما يكتبون. وسواد الجماهير فى كل أمة ميال  إلى هذا النوع من الأدب الرخيص

فيجب على أدبائنا أن يعالجوا هذه الحال التى أصبحت كالسيل  تجرف الحدود وتقلب المقاييس والأوضاع، وهذا الواجب يقع  أولاً على عاتق مجلاتنا الكبرى، فمن نكد الدنيا أن تجارى  بعض هذه المجلات التيار العام فتفقد اتزانها وتزور عن أهدافها أقول ذلك بمناسبة مقال نشرته مجلة   (الثقافة)  لدكتور  تخرج حديثا فى كلية الآداب وأراد أن يظهر ذكاءه الخارق

وأدبه فى مقال عن   (الشوامخ) . فكان كناطح صخرة،  وإنى لا يضيرنى أن يكتب هذا وذاك فالقافلة تسير، وليس من  العسير على أى إنسان أن يتهكم ويقول إن الكتاب الفلانى  لا يساوى شيئاً، ولكن العسير أن يرزقكم الله قدرة على الفهم  ولا ذنب لى إذا لم تفهموا

وإذا كان جل فحول القدماء لم يفهموا امرأ القيس، وقد  سجلنا آراءهم تسجيلا كما سجلنا آراء بعض كتاب العصر،  فهل ينتظر من ذلك النفر أن يفهموا ما يكتب عن امرئ القيس،  ذلك الغواص المنقب فى حدود الطبيعة عن أبدع الصور والمعانى

خير لأولئك أن يثبتوا أولاً أن لهم ذوقا أدبيا أو إدراكا  أدبيا قبل أن يتعرضوا لنقد الكتب التى لم تكتب لأمثالهم  فلسنا من تجار الأدب الرخيص، ورحم الله الزمن الذى كان  يقف فيه كل عند حده، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه

وإنى لأسمح لنفسى وأستسمح   (الرسالة)  فى نشر قطعة من  كتابى ليقرأها من لم يقرأ الشوامخ، ويحكموا عن بينة:

(وليس لأحد من المتقدمين والمتأخرين تحليقاته فى أفق  الطبيعة الواسع، وتلك النظرات المترامية بين حباب الماء  وكواكب الظلماء. وله فى لمعان البرق واختلاجه فى السماء آيات  لا هى من الوصف الحسي، ولا هى من الوصف الخيالي، وإنما هى تصوير فقط، هى وحى شاعر ملهم عاش وجرب وتأمل فى الوجوه  فرأى بواسع فطنته وقوة ملاحظته ذلك السبب الدقيق الذى  يصل بين اختلاجات النفس البشرية فى أبعد أغوارها، وبين  كل حركة وسكنة ترتسم على وجوه الرجال وأيديهم. . . ثم أنشأ  بين هذه الاختلاجات واختلاجات الطبيعة خيطا من الخيال  وصل بينهما وجعل منهما وحدة كبرى، قال:

أصاح ترى برقاً أريك وميضه ... كلمع اليدين فى حبى مكلل

وقال:

أعنى على براق أراه وميض ... يضيء حبياً فى شماريخ بيض

ويهدأ تارات سناه وتارة ... ينوء كتعتاب الكسير المهيض

وتخرج منه لامعات كأنها ... أكف تلقى الفوز عند المفيض

لمح الشاعر بحسه المرهف فى وميض البرق وتبوجه لمعان أكف  المقامر الفائز أو الذى يتناول الظفر بين المقامرين. فوفق بين  الحقيقة والخيال، وأبدع أيما إبداع فى جمعه بين الكون  والإنسانية التى تعيش تحت سقفه، الإنسانية التى تلهو وتجد،  وتضحك وتبكي، وتقامر وتغامر. . ,. فإذا اتصلت الأرض  بالسماء: الأولى بحركات أيدى لاعبيها، والثانية بلوامع بروقها،  وظهرت تلك الصلة الدقيقة بينهما فى شعر، كان ذلك الشعر  ترجمان الحياة، لأنه يلقى من أعلى عليين شعاعاً على أغوارها). هذا مثل من الكتابة   (الهينة)  التى كتبناها، وقد أراد  هذا الكاتب أن يتظرف فقال أننا قرأنا   (بعض)  شعر  أمرئ القيس فإذا كانت كتابته ثمرة من تعليم الجامعة  وأساتذتها. فقل على الدنيا السلام. . .

اشترك في نشرتنا البريدية