الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 423الرجوع إلى "الرسالة"

الشيخ عباس

Share

أويت إلى مرقدي حين الظهيرة فلمحت العدد الأخير من  مجلة الرسالة فأخذته آنس بمطالعة عناوينه إلى أن يُريح عليّ النوم  راحتي وجمامي، ووقع بصري على حديث أخي الدكتور زكي  ذي الشجون والأشجان فسارعت إلى الفصل الذي عنوانه: (الشيخ عباس الجمل)  أرجو أن أطلع فيه على بشرى أو فكاهة  أو دعابة فقرأت ما روّعني وعزب بسروري وراحتي  وأقض مضجعي

قرأت قول الدكتور وهو يعنى على أدباء مصر تجافيهم:  (فجع الشيخ عباس الجمل بغرق ابنه طاهر وهو يقارع أمواج  البحر في دمياط فما تحركت يراعة أديب لمواساته في ذلك الرزء  الجليل)

(وبترت ساق الشيخ عباس منذ أسابيع فما بكى شاعر  ولا تأثر كاتب لمصيبة الأديب) الخ

فأما المصيبة الأولى فقد عرفتها من قبل وراعني  نبؤها وأنا في اسطنبول منذ أربع سنين؛ وأما المصيبة  الأخيرة فما عرفت نبأها الفاجع إلا من كلام الدكتور زكي  وقد وقعت من نفسي وقلبي موقعاً مفظعاً أليماً

وإذا بي أجلس واجماً تسير بي الذكَر في عالم من مصائب  الماضي والحاضر، وتسرح بيَ الفكَر فيما أصاب الرجال الكبائر  من أحداث وأرزاء، فذكرت فيما ذكرت عقبة بن أبي وقاص حينما  قطعت رجله في الموقعة يوم صفين فلبث يقاتل مرتجزاً:

الفحل يحمي شوكه معقولاً

وتذكرت هذا الفارس العربي عبد الله بن شبرة الجُرَشي  وكانت يده قطعت في موقعة فلطاس إحدى وقائع الروم فقال يرثيها  في أبيات أولها:

ويل أم جار غداة الروع فارقني   أهْونْ عليْ به إذ بان فانقطعا

يميني يديْ غدت مني مفارقة        لم استطع يوم فلطاس لها تبعا

ثم إذا بي أسير إلى خزانة كتبي ألتمس عروة بن الزبير لأقرأ  ما قال حين أصيب برجله، وأتأسى بما عزاه به أصحابه، وذكرت  قول أحد المعزين له:   (يا أبا محمد والله ما أعددناك للصراع  ولا للسباق، ولقد أبقى الله لنا أكثرك: عقلك وعلمك) وطلبت  بقية هذا الكلام في مظانه فلم أهتد إليه، ولكني وجدت في ابن خلكان خبر عروة حين صبر لقطع رجله لا يتحرك ولا يتأوه  ووجدت فيه هذه الكلمة:

وكان أحسن من عزاه إبراهيم بن محمد بن طلحة فقال له:  (والله ما بك حاجة إلى المشي ولا أرب في السعي، وقد تقدمك  عضو من أعضائك وابن من أبنائك إلى الجنة؛ وقد أبقى الله لنا  منك ما كنا إليه فقراء، وعنه غير أغنياء، من علمك ورأيك  نفعك الله وإيانا به. والله ولي ثوابك، والضمين بحسبك)

يا أخانا العباس! إن لك في أرزاء الرجال وخطوب الزمان  أسوة وعبرة؛ وإن لك من دينك وعقلك وعلمك ما يغنيك  أن تساق إليك الأسى والمواعظ. وإنا لنعرفك كبيراً أبياً  عزيزاً، وإنا لنرجو أن نجدك اليوم أكبر وآبى وأعز من

أن يضعضعك خطب، أو يبهظك رزء. وأنك لتعلم أن الحر  الأبي يسير في هذه الحياة صابراً على لأوائها، مستكبراً على  أرزائها مشى الجمل الثقال بالحمل الثقيل لا يرزح ولا يرزم ولا يعيا  ولا يقف دون غايته

يا أخانا العباس! إن لك من دينك وعقلك وعلمك وأدبك  ما يؤنسك بالصبر والرضا، ويوطن نفسك للحادثة وإن جلت،  والخطب وإن فدح، وإن لك من إبائك وشممك ما يربأ بك أن  تضيق بالرزء الشديد، وتطأطأ للنازلة الجليلة

والله يجعل هذا آخر محنك، ونهاية بلائك ويبقيك لآلك  وإخوانك موفور العقل والعلم، معافى في نفسك وبدنك وأسرتك وأما الأخ الدكتور زكي فقد صدق حين نعى على الإخوان  تقاطعهم وغفلة بعضهم عن بعض. وإنَّا يا أخي زكي  - ولا تؤاخذني بهذا التشبيه - لنسير من مشاغل هذه الحياة  جليلها وسفسافها في مثل طريق الساقية أو مدار الساقية: حركة  دائبة في مضطرَب متشابه ضيق، لو سارت فيه الدابة أبد الدهر  ما خرجت منه وإن توهمت - وهي محجوبة العينين - أنها أبعدت  المسير، وتناءى ما بين مبدئها ومنتهاها. ولست أدري إلام  تشغلنا الشواغل عما هو أعظم من التقاء أخ بأخ، وتفقد صديق  صديقاً، ومذاكرة أديب مثله؛ وفي أولئك من قضاء الحق  ومتعة النفس وربح العقل وفقه الأمور، مالا نجد وإن حرصنا  في هذه الحركة العاجلة التي كادت تسلب الإنسان عقله وإرادته.

اشترك في نشرتنا البريدية