الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 127الرجوع إلى "الثقافة"

الشيخ محمد عبده، وتعدد الزوجات

Share

المدرس بكلية الآداب

لعل من أنظمة الاسلام التى عنى بها كتاب الغرب عناية خاصة نظام الزواج . فلقد تصدى الكثيرون من مفكريهم ، منذ زمان طويل ، لدراسة هذا النظام بحسب ما فى الشريعة الإسلامية . وانتهى البحث ببعضهم إلى القول بأن الدين الإسلامى حين أباح تعدد الزوجات ، قد قوض الأساس الصحيح الذى يجب أن تقوم الأسرة عليه ، وقضى فى الوقت نفسه على قيمة الزواج من ناحية الأخلاق .

ولم يقصر النابهون من علماء المسلمين فى دفع المطاعن ، وتفنيد الشبه التى أثيرت حول الإسلام من أجل تعدد الزوجات ، بل لقد حاول بعضهم أن يبرروا نظرية التعدد هذه ، وساقوا لذلك حججا ترجع فى صميمها إلى وجهة النظر الاجتماعية ، وهى وجهة بدت لها وجاهتها وطرافتها ، فكان لها من أجل ذلك بريق خاص .

وليس من قصدنا أن نخوض مع الخائضين فى لجة ذلك الخلاف بين أنصار التعدد وخصومه . وحسبنا اليوم أن نبين رأى علم من أعلام المسلمين ، وزعيم من زعماء التجديد الدينى والاجتماعى فى مصر الحديثة ، وهو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ؛ فلعل أولى الأمر فى وزارة الشئون الاجتماعية ينتفعون برأيه فيما يرسمون من مشروعات ، وما يسنون من قوانين .

كانت حركة الإصلاح التى قام بها الشيخ محمد عبده ترمى إلى تقويم الفساد الذى طرأ على الأخلاق فى العالم

الإسلامى عموما ، وفى المجتمع المصرى خصوصا . وإذ كانت الأسرة عماد المجتمع ، فقد اتجه - رحمه الله - إلى إصلاح نظام الأسرة المصرية . فكانت مشكلة تعدد الزوجات من المشكلات التى حاول حلها حلا يلائم الإصلاح المنشود مع مطابقته لروح الشرع الاسلامى . وهاك بيان ذلك :

من المعلوم للناس أن الاسلام أباح تعدد الزوجات ، وأن القرآن حدد عددهن بأربع إذ قال : " وإن خفتم ألا تقسطوا فى اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع . فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم . ذلك أدنى ألا تعولوا " (١) . - فالقرآن إذا أخذ على ظاهره ربما فهم منه ما يخالف اتجاهه نحو الوحدة فى الزوجية . وهذا ما صرح به جمهور المفسرين ، وغير واحد من الباحثين من أهل الأديان الأخرى . لكنا سنرى أن الأستاذ الإمام يفسر هذه الآية تفسيرا لا يخلو من طرافة ، وهو على كل حال يدل على نزعة راسخة فى التجديد الدينى ، وميل قوى إلى مطاوعة الشعور الأخلاقى . قال رحمه الله فى دروس التفسير :

إن القرآن إنما نص على تعدد الزوجات فى معرض الكلام على حقوق اليتامى ، والنهى عن اغتصاب أموالهم ولو بواسطة الزوجية . فنبه القرآن المسلم إلى أنه إذا خاف من نفسه أن يأكل أموال الزوجة اليتيمة ، وجب عليه حينئذ ألا يتزوج بها ، إذ أن الله أحل له أن يتزوج بغيرها من واحدة إلى أربع . ثم عاد القرآن فقرر أنه إذا خاف المسلم ألا يعدل بين الزوجتين ، أو بين الزوجات ، فقد حق عليه أن يلتزم زوجة واحدة . وصرح الأستاذ الإمام بعد ذلك بأن الذى يباح له أن يتزوج أكثر من واحدة ،

إنما هو الرجل الذى وثق من نفسه أن يقوم بالعدل الذى أوجبه الله ، بحيث لا يشك ولا يتردد ، ولا يعلن عدم القدرة عليه .

ثم أشار الإمام إلى أن القرآن يقرر فى آية أخرى من السورة نفسها حكما آخر إذ يقول : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " . ورجح أن يكون المقصود هنا هو النص على أن ميل القلب إلى واحدة من النساء ، وإيثارها على غيرها ، أمر يصر فيه توخى العدل ، إذ لو لم يكن ذلك هو المقصود لكان مجموع الآيتين منتجا منع التعدد إطلاقا .

ثم قال الأستاذ الإمام مجملا رأيه فى تلك المسألة بما لا وضوح بعده : إن من تأمل الآيتين - يعنى آية " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة " وآية " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " - علم أن " إباحة تعدد الزوجات فى الاسلام أمر مضيق فيه أشد التضييق ، كأنه ضرورة من الضرورات التى تباح لمحتاجها بشرط الثقة بإقامة العدل والأمن من الجور " (١) .

أضف إلى هذا أن قانون الميراث الذى شرعه الاسلام يدل - فى نظر محمد عبده ومدرسته - على أن الأصل هو الزواج بامرأة واحدة . فالاسلام جعل حظ الذكر مثل حظ الأنثيين فى الميراث . ومع أن الرجل لا ينقص نصيبه من أرث امرأته بحال من الأحوال ، فان من ترك زوجين , أو ثلاثة أو أربعا ، كان لهن جميعا نصيب الزوج الواحدة . فلا تطرد فيهن قاعدة " وللذكر مثل حظ الأنثيين " . فلعل حكمة الشرع فى ذلك أن ينفق الرجل على نفسه ، وعلى امرأة يتزوجها . فلو كان من مقاصد الشريعة الاسلامية أن يتزوج الرجل أكثر من امرأة ، لجعلت للذكر من الأولاد أكثر من حظ الأنثيين ،

ولجعلت للزوجين أو للزوجات أكثر من حظ الزوج الواحدة . فهنا أيضا دليل - فى نظر محمد عبده ومدرسته - على أن التعدد غير مقصود فى الاسلام . وإذا كان الشرع أباحه فلضرورة تسوق إليه ، وبشروط تقيده ، وتجعله من الأمور النادرة التى لا تدخل تحت الأحكام العامة (١)

إذا كان الأمر كذلك فكيف تفسر إباحة الاسلام مثل هذا التعدد ، وما المصلحة منه ؟

يجيب الأستاذ الإمام فى دروس التفسير بقوله : " كان للتعدد فى صدر الإسلام فوائد ، أهمها صلة النسب والصهر الذى تقوى به العصيبة ، ولم يكن له من الضرر مثل ما له الآن ؛ لأن الدين كان متمكنا فى نفوس النساء والرجال ، وكان أذى الضرة لا يتجاوز ضرتها . أما اليوم فان الضرر ينتقل من كل ضرة إلى ولدها ، إلى والده ، إلى سائر أقربائه ؛ فهى تغرى زوجها بهضم حقوق ولده من غيرها ، وهو بحماقته يطيع أحب نسائه إليه ، فيدب الفساد فى العائلة كلها " (٢) .

وقبل دروس التفسير بطيف وعشرين سنة كتب الشيخ محمد عبده نفسه فى " الوقائع المصرية " مقالا تحت عنوان " حكم الشريعة فى تعدد الزوجات " قال فيه : " أباحت الشريعة المحمدية للرجل الاقتران بأربع من النسوة ، إن علم من نفسه القدرة على العدل بينهن . وإلا فلا يجوز الاقتران بغير واحدة " (٢) . ثم قال فى المقال نفسه : " إن هذا الالتزام بالعدل أمر حتمى لا يحتمل تأويلا . فكيف يسوغ لنا الجمع بين نسوة لا يحملنا على جمعهن إلا قضاء شهوة فانية ، واستحصال لذة وقتية ،

غير مبالين بما ينشأ عن ذلك من المفاسد ، ومخالفة الشرع الشريف ؟ " (١)

وبعد أن قص الشيخ شيئا مما هو مشهور من المآسى المفزعة والمفاسد الأثيمة التى تحيق بالمجتمع المصرى نتيجة تعدد الزوجات قال : " فهذه معاملة غالب الناس عندنا ، من أغنياء وفقراء فى حالة التزوج بالتعددات ، كأنهم لم يفهموا حكمة الله فى مشروعيته ، بل اتخذوه طريقا لصرف الشهوة واستحصال اللذة لا غير ، وغفلوا عن القصد الحقيقى منه ؛ وهذا لا تجيزه الشريعة ولا يقبله العقل .

فاللازم عليهم حينئذ ، إما الاقتصار على واحدة ، إذا لم يقدروا على العدل كما هو مشاهد ، عملا بالواجب عليهم بنص قوله تعالى : " فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة " . . .

وإما أن يتبصروا قبل طلب التعدد فى الزوجات فيما يجب عليهم شرعا من العدل ، وحفظ الألفة بين الأولاد ، وحفظ النساء من الغوائل التى تؤدى بهن إلى الأعمال غير اللائقة ؛ ولا يحملونهن على الاضرار بهم وبأولادهم . ولا يطلقونهن إلا لداع ومقتض شرعى ، شأن الرجال الذين يخافون الله ويؤثرون شريعة العدل ، ويحافظون على حرمات النساء وحقوقهن ، ويعاشرونهن بالمعروف ، ويفارقونهن عند الحاجة " (٢) .

ولقد صرح الأستاذ الامام أخيرا فى دروس التفسير بتصريحات بليغة خطيرة ، ولها دلالتها على نزعته فى الاصلاح .

قال رحمه الله : إن من تأمل ما يترتب على التعدد فى هذا الزمان من المفاسد " جزم بأنه لا يمكن لأحد أن يربى أمة فشا فيها تعدد الزوجات " (٣) ، وسبب ذلك

بين عند العقل وعند التجربة ؛ فان مفسدة التعدد تنتقل - كما هو المشاهد - من الأفراد إلى البيوت ، ومن البيوت إلى الأمة بأسرها .

والأستاذ الإمام يهيب أخيرا بعلماء المسلمين - خصوصا الحنفية منهم الذين بيدهم الأمر - أن ينظروا إلى هذه المسألة بعين الاعتبار . فهم لا ينكرون أن الدين إنما جاء لمصلحة الناس ، وأن من أصوله منع الضرر والضرار . فاذا ترتب على شىء مفسدة فى زمن لم تكن تلحقه فى زمن قبله ، فلا شك فى وجوب تغير الحكم وتطبيقه على مقتضيات الحال الحاضرة ، جريا على قاعدة : " درء المفاسد مقدم على جلب المصالح " (١) .

وجملة القول أن الأستاذ الامام كان ينكر أشد الانكار تعدد الزوجات . إذ كان يعلم ما ينتج عنه من فساد فى العلاقات الزوجية التى تقوم على نظام يمحو الثقة بين الرجل أو المرأة ، ويوغر صدور الضرائر بالأحقاد ، وينقل جراثيم العداوة منهن إلى أبنائهن وبناتهن وعشيرتهن . . . ولم يكن يخفى على الأستاذ الامام مبلغ الأضرار التى تلحق بمجتمع يسود التباغض أفراده وبيوته وأسراته ؛ وكان يشفق على أمته من ضعة المكانة التى تنزل إليها التربية إذا بقيت على ذلك الأساس . فلم يكن بدعا أن يرى ذلك المصلح فى الاكثار من الزوجات خروجا عن جوهر الشريعة الخالصة ، على ما فيه من مطاوعة الهوى ، واستفراغ شهوات البدن (٢) ، والميل مع النزوات الحيوانية ، التى تنكرها الأخلاق الانسانية العليا ، وينبو عنها الضمير الحى السليم .

اشترك في نشرتنا البريدية