المدرس بكلية الآداب
لعل من أنظمة الاسلام التى عنى بها كتاب الغرب عناية خاصة نظام الزواج . فلقد تصدى الكثيرون من مفكريهم ، منذ زمان طويل ، لدراسة هذا النظام بحسب ما فى الشريعة الإسلامية . وانتهى البحث ببعضهم إلى القول بأن الدين الإسلامى حين أباح تعدد الزوجات ، قد قوض الأساس الصحيح الذى يجب أن تقوم الأسرة عليه ، وقضى فى الوقت نفسه على قيمة الزواج من ناحية الأخلاق .
ولم يقصر النابهون من علماء المسلمين فى دفع المطاعن ، وتفنيد الشبه التى أثيرت حول الإسلام من أجل تعدد الزوجات ، بل لقد حاول بعضهم أن يبرروا نظرية التعدد هذه ، وساقوا لذلك حججا ترجع فى صميمها إلى وجهة النظر الاجتماعية ، وهى وجهة بدت لها وجاهتها وطرافتها ، فكان لها من أجل ذلك بريق خاص .
وليس من قصدنا أن نخوض مع الخائضين فى لجة ذلك الخلاف بين أنصار التعدد وخصومه . وحسبنا اليوم أن نبين رأى علم من أعلام المسلمين ، وزعيم من زعماء التجديد الدينى والاجتماعى فى مصر الحديثة ، وهو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ؛ فلعل أولى الأمر فى وزارة الشئون الاجتماعية ينتفعون برأيه فيما يرسمون من مشروعات ، وما يسنون من قوانين .
كانت حركة الإصلاح التى قام بها الشيخ محمد عبده ترمى إلى تقويم الفساد الذى طرأ على الأخلاق فى العالم
الإسلامى عموما ، وفى المجتمع المصرى خصوصا . وإذ كانت الأسرة عماد المجتمع ، فقد اتجه - رحمه الله - إلى إصلاح نظام الأسرة المصرية . فكانت مشكلة تعدد الزوجات من المشكلات التى حاول حلها حلا يلائم الإصلاح المنشود مع مطابقته لروح الشرع الاسلامى . وهاك بيان ذلك :
من المعلوم للناس أن الاسلام أباح تعدد الزوجات ، وأن القرآن حدد عددهن بأربع إذ قال : " وإن خفتم ألا تقسطوا فى اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع . فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم . ذلك أدنى ألا تعولوا " (١) . - فالقرآن إذا أخذ على ظاهره ربما فهم منه ما يخالف اتجاهه نحو الوحدة فى الزوجية . وهذا ما صرح به جمهور المفسرين ، وغير واحد من الباحثين من أهل الأديان الأخرى . لكنا سنرى أن الأستاذ الإمام يفسر هذه الآية تفسيرا لا يخلو من طرافة ، وهو على كل حال يدل على نزعة راسخة فى التجديد الدينى ، وميل قوى إلى مطاوعة الشعور الأخلاقى . قال رحمه الله فى دروس التفسير :
إن القرآن إنما نص على تعدد الزوجات فى معرض الكلام على حقوق اليتامى ، والنهى عن اغتصاب أموالهم ولو بواسطة الزوجية . فنبه القرآن المسلم إلى أنه إذا خاف من نفسه أن يأكل أموال الزوجة اليتيمة ، وجب عليه حينئذ ألا يتزوج بها ، إذ أن الله أحل له أن يتزوج بغيرها من واحدة إلى أربع . ثم عاد القرآن فقرر أنه إذا خاف المسلم ألا يعدل بين الزوجتين ، أو بين الزوجات ، فقد حق عليه أن يلتزم زوجة واحدة . وصرح الأستاذ الإمام بعد ذلك بأن الذى يباح له أن يتزوج أكثر من واحدة ،
إنما هو الرجل الذى وثق من نفسه أن يقوم بالعدل الذى أوجبه الله ، بحيث لا يشك ولا يتردد ، ولا يعلن عدم القدرة عليه .
ثم أشار الإمام إلى أن القرآن يقرر فى آية أخرى من السورة نفسها حكما آخر إذ يقول : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " . ورجح أن يكون المقصود هنا هو النص على أن ميل القلب إلى واحدة من النساء ، وإيثارها على غيرها ، أمر يصر فيه توخى العدل ، إذ لو لم يكن ذلك هو المقصود لكان مجموع الآيتين منتجا منع التعدد إطلاقا .
ثم قال الأستاذ الإمام مجملا رأيه فى تلك المسألة بما لا وضوح بعده : إن من تأمل الآيتين - يعنى آية " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة " وآية " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " - علم أن " إباحة تعدد الزوجات فى الاسلام أمر مضيق فيه أشد التضييق ، كأنه ضرورة من الضرورات التى تباح لمحتاجها بشرط الثقة بإقامة العدل والأمن من الجور " (١) .
أضف إلى هذا أن قانون الميراث الذى شرعه الاسلام يدل - فى نظر محمد عبده ومدرسته - على أن الأصل هو الزواج بامرأة واحدة . فالاسلام جعل حظ الذكر مثل حظ الأنثيين فى الميراث . ومع أن الرجل لا ينقص نصيبه من أرث امرأته بحال من الأحوال ، فان من ترك زوجين , أو ثلاثة أو أربعا ، كان لهن جميعا نصيب الزوج الواحدة . فلا تطرد فيهن قاعدة " وللذكر مثل حظ الأنثيين " . فلعل حكمة الشرع فى ذلك أن ينفق الرجل على نفسه ، وعلى امرأة يتزوجها . فلو كان من مقاصد الشريعة الاسلامية أن يتزوج الرجل أكثر من امرأة ، لجعلت للذكر من الأولاد أكثر من حظ الأنثيين ،
ولجعلت للزوجين أو للزوجات أكثر من حظ الزوج الواحدة . فهنا أيضا دليل - فى نظر محمد عبده ومدرسته - على أن التعدد غير مقصود فى الاسلام . وإذا كان الشرع أباحه فلضرورة تسوق إليه ، وبشروط تقيده ، وتجعله من الأمور النادرة التى لا تدخل تحت الأحكام العامة (١)
إذا كان الأمر كذلك فكيف تفسر إباحة الاسلام مثل هذا التعدد ، وما المصلحة منه ؟
يجيب الأستاذ الإمام فى دروس التفسير بقوله : " كان للتعدد فى صدر الإسلام فوائد ، أهمها صلة النسب والصهر الذى تقوى به العصيبة ، ولم يكن له من الضرر مثل ما له الآن ؛ لأن الدين كان متمكنا فى نفوس النساء والرجال ، وكان أذى الضرة لا يتجاوز ضرتها . أما اليوم فان الضرر ينتقل من كل ضرة إلى ولدها ، إلى والده ، إلى سائر أقربائه ؛ فهى تغرى زوجها بهضم حقوق ولده من غيرها ، وهو بحماقته يطيع أحب نسائه إليه ، فيدب الفساد فى العائلة كلها " (٢) .
وقبل دروس التفسير بطيف وعشرين سنة كتب الشيخ محمد عبده نفسه فى " الوقائع المصرية " مقالا تحت عنوان " حكم الشريعة فى تعدد الزوجات " قال فيه : " أباحت الشريعة المحمدية للرجل الاقتران بأربع من النسوة ، إن علم من نفسه القدرة على العدل بينهن . وإلا فلا يجوز الاقتران بغير واحدة " (٢) . ثم قال فى المقال نفسه : " إن هذا الالتزام بالعدل أمر حتمى لا يحتمل تأويلا . فكيف يسوغ لنا الجمع بين نسوة لا يحملنا على جمعهن إلا قضاء شهوة فانية ، واستحصال لذة وقتية ،
غير مبالين بما ينشأ عن ذلك من المفاسد ، ومخالفة الشرع الشريف ؟ " (١)
وبعد أن قص الشيخ شيئا مما هو مشهور من المآسى المفزعة والمفاسد الأثيمة التى تحيق بالمجتمع المصرى نتيجة تعدد الزوجات قال : " فهذه معاملة غالب الناس عندنا ، من أغنياء وفقراء فى حالة التزوج بالتعددات ، كأنهم لم يفهموا حكمة الله فى مشروعيته ، بل اتخذوه طريقا لصرف الشهوة واستحصال اللذة لا غير ، وغفلوا عن القصد الحقيقى منه ؛ وهذا لا تجيزه الشريعة ولا يقبله العقل .
فاللازم عليهم حينئذ ، إما الاقتصار على واحدة ، إذا لم يقدروا على العدل كما هو مشاهد ، عملا بالواجب عليهم بنص قوله تعالى : " فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة " . . .
وإما أن يتبصروا قبل طلب التعدد فى الزوجات فيما يجب عليهم شرعا من العدل ، وحفظ الألفة بين الأولاد ، وحفظ النساء من الغوائل التى تؤدى بهن إلى الأعمال غير اللائقة ؛ ولا يحملونهن على الاضرار بهم وبأولادهم . ولا يطلقونهن إلا لداع ومقتض شرعى ، شأن الرجال الذين يخافون الله ويؤثرون شريعة العدل ، ويحافظون على حرمات النساء وحقوقهن ، ويعاشرونهن بالمعروف ، ويفارقونهن عند الحاجة " (٢) .
ولقد صرح الأستاذ الامام أخيرا فى دروس التفسير بتصريحات بليغة خطيرة ، ولها دلالتها على نزعته فى الاصلاح .
قال رحمه الله : إن من تأمل ما يترتب على التعدد فى هذا الزمان من المفاسد " جزم بأنه لا يمكن لأحد أن يربى أمة فشا فيها تعدد الزوجات " (٣) ، وسبب ذلك
بين عند العقل وعند التجربة ؛ فان مفسدة التعدد تنتقل - كما هو المشاهد - من الأفراد إلى البيوت ، ومن البيوت إلى الأمة بأسرها .
والأستاذ الإمام يهيب أخيرا بعلماء المسلمين - خصوصا الحنفية منهم الذين بيدهم الأمر - أن ينظروا إلى هذه المسألة بعين الاعتبار . فهم لا ينكرون أن الدين إنما جاء لمصلحة الناس ، وأن من أصوله منع الضرر والضرار . فاذا ترتب على شىء مفسدة فى زمن لم تكن تلحقه فى زمن قبله ، فلا شك فى وجوب تغير الحكم وتطبيقه على مقتضيات الحال الحاضرة ، جريا على قاعدة : " درء المفاسد مقدم على جلب المصالح " (١) .
وجملة القول أن الأستاذ الامام كان ينكر أشد الانكار تعدد الزوجات . إذ كان يعلم ما ينتج عنه من فساد فى العلاقات الزوجية التى تقوم على نظام يمحو الثقة بين الرجل أو المرأة ، ويوغر صدور الضرائر بالأحقاد ، وينقل جراثيم العداوة منهن إلى أبنائهن وبناتهن وعشيرتهن . . . ولم يكن يخفى على الأستاذ الامام مبلغ الأضرار التى تلحق بمجتمع يسود التباغض أفراده وبيوته وأسراته ؛ وكان يشفق على أمته من ضعة المكانة التى تنزل إليها التربية إذا بقيت على ذلك الأساس . فلم يكن بدعا أن يرى ذلك المصلح فى الاكثار من الزوجات خروجا عن جوهر الشريعة الخالصة ، على ما فيه من مطاوعة الهوى ، واستفراغ شهوات البدن (٢) ، والميل مع النزوات الحيوانية ، التى تنكرها الأخلاق الانسانية العليا ، وينبو عنها الضمير الحى السليم .
