قرأت ما كتبه الأستاذ الجليل محمد عبد الله عنان في عدد الرسالة الغراء (٢٠٨) تحت هذا العنوان - مصر خاتمة القرن السابع عشر كما رآها العلامة عبد الغني النابلسي - فرابني منه قوله (ثم يحدثنا الرحالة عن الجامع الأزهر وعن شيخه وهو يومئذ الشيخ منصور الشافعي الضرير) وحدثتني نفسي أن هذا الاسم لم يمر عليها في شيوخ الأزهر، فأخذت على عادتي أرجع إلى مصادري التي قرأتها لأحقق هذا الأمر الذي استغربت فيه، وأدركني الشك في صحته.
فرجعت إلى الخطط التوفيقية وإلى تاريخ الأزهر فوجدتهما متفقين على أن الذي كان شيخاً للأزهر في تلك السنة التي رحل فيها الشيخ النابلسي إلى مصر، وهي سنة ١١٠٥هـ - ١٦٩٣ - هو الشيخ محمد النشرتي المالكي. وقد كان شيخاً للأزهر من وفاة الشيخ عبد الله محمد بن عبد الله الخرشي سنة ١١٠١هـ إلى أن توفي سنة ١١٢٠هـ.
وقد ذكر الجبرتي وفاة الشيخ الخرشي في سنة ١١٠١هـ وقال عنه إنه الإمام العلامة والحبر الفهامة شيخ الإسلام والمسلمين وارث علوم سيد المرسلين الشيخ محمد الخرشي المالكي شارح خليل وغيره، ويروى عنه والده الشيخ عبد الله الخرشي وعن العلامة الشيخ إبراهيم اللقاني، كلاهما عن الشيخ سالم السنهوري المالكي، عن النجم الغيطي عن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري عن ابن الحافظ الحجر العسقلاني بسنده إلى الأمام البخاري.
ثم ذكر وفاة الشيخ محمد النشرتي في سنة ١١٢٠هـ وقال عنه إنه الإمام العلامة الشيخ محمد النشرتي المالكي، وهو كان وصياً على المرحوم الشيخ الوالد بعد موت الجد، توفي يوم الأحد بعد الظهر، وأخر دفنه إلى صبيحة يوم الاثنين، وصلى عليه بالأزهر بمشهد حافل، وحضر جنازته الصناجق والأمراء والأعيان، وكان يوماً مشهوداً.
أما الشيخ منصور المنوفي فقد ذكر الجبرتي وفاته سنة ١١٣٥ وكان قد جاوز تسعين سنة، وقال عنه أنه الشيخ
العلامة الفقيه المحدث الشيخ منصور بن علي بن زين العابدين المنوفي البصير (1) (لا الضرير) الشافعي، ولد بمنوف ونشأ بها يتيماً في حجر والدته، وكان باراً بها، فكانت تدعو له، فحفظ القرآن وعدة متون، ثم ارتحل إلى القاهرة وجاور بالأزهر وتفقه بالشهابين البشبيشي والسندوبي، والشمس الشرنبابلي والزين منصور الطوخي، ولازم النور الشبراملسي في العلوم وأخذ عنه الحديث، وجد واجتهد وتفنن وبرع في العلوم العقلية والنقلية. وكان إليه المنتهى في الحذق والذكاء وقوة الاستحضار لدقائق العلوم، سريع الإدراك لعويصات المسائل على وجه الحق، نظم الموجهات وشرحها، وانتفع به الفضلاء وتخرج به النبلاء وافتخر بالأخذ عنه الأبناء على الآباء.
وقد رأيت بعد أن ارجع إلى المصدر الذي نقل عنه الأستاذ عنان، فذهبت إلى دار الكتب وطلبت رحلة الشيخ النابلسي (الحقيقة والمجاز في رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز) فوجدته قد ذكر في صفحة (٢٠٢) أنه طلع عليه صباح يوم الأحد ٢٨من شهر ربيع الثاني فحضر عنده الإمام العام الهمام الشيخ منصور المنوفي الأزهري الشافعي الضرير شيخ الأزهر ومعه الجماعة والطلبة وكثير من المجاورين بالجامع الأزهر، وحصل بعض أبحاث وفوائد علمية.
ثم ذكر في صفحة (٢٠٤) أنه أصبح صباح يوم الاثنين ٢٩ من شهر ربيع الثاني، فجلس على عادته يستقبل من يأتي إليه من الأصحاب والأخوان، ثم قام من مجلسه إلى مجلس الشيخ زين العابدين بدعوة منه، فرأى عنده صديق فخر العلماء الأعلام الشيخ أحمد المرحومي شيخ الأزهر، ومعه بعض أصحابه الكرام، فجلس يتذاكر معهم في مسائل العلوم ويتطارح الكلام من منطق ومفهوم.
ثم ذكر في صفحة (٢٧٥) أنه أصبح يوم الجمعة ١٠ من جمادي الثاني فاجتمع بالشيخ الأمام العلامة منصور المنوفي الشافعي الضرير شيخ الأزهر.
ثم ذكر في صفحة (٢٨٤) أنه اصبح يوم السبت ٢٥ من جمادي الثاني فذهب بعد الظهر إلى عيادة صديقه العلامة
الشيخ أحمد المرحومي شيخ الجامع الأزهر.
وهذه هي المواضع التي جاء فيها ذكر هذين الشيخين المتعاصرين في كتاب الشيخ النابلسي، وهو يعطيهما فيها صفة الشيخ الأزهر في الزمن الذي قضاه بمصر في رحلته إلى الحجاز وكان ذلك سنة ١١٠٥هـ كما سبق. فلو أخذنا هذا الكلام على ظاهره لكان للأزهر في تلك السنة شيخان مجتمعان معاً وهذا غير مقبول، مع مخالفته لما ذكره من أن شيخ الأزهر في تلك السنة كان الشيخ النشرتي المالكي، فلم يبق إلا أن الشيخ النابلسي تبرع بتلك الصفة لذينك الشيخين، ويجب أن تؤخذ على هذا لا على أنها حقيقة تاريخية.
وقد ذكر الجبرتي وفاة الشيخ أحمد المرحومي في سنة ١١٢ وقال عنه أنه السيد عبد الله (لعله أبو عبد الله) الإمام العلامة الشيخ أحمد المرحومي الشافعي.
وهذا رأيي في تحقيق هذه المسألة التاريخية أنشره على صفحات الرسالة الغراء، ولعله يكون للأستاذ عنان رأي آخر في تحقيقها ينشره علينا فيها، والله يتولانا جميعاً بتوفيقه.
