اعتذار !
كم أسبوعا ، بل كم شهرا والباب مغلق بيني وبين الدنيا ، مغلق بيني وبين نفسي ؟ ...
ما أقسى سخرية الدنيا بناسها !
لكأن بيني وبين ماضي أعواما وأعواما ، وعمرا طويلا من الآلام ، وأجيالا من التجارب والذكريات كأنها حديث أمم وتاريخ أقوام ؛ وكأن ليس بين يومي وأمسي صلة من الزمن كالصلة بين كل يوم وأمسه ؛ فأنا من ذلك الماضي القريب كالمستيقظ في أعقاب حلم ساحر كان حقيقة تسعده فصار وهما يشقيه ؛ فليس نور النهار في عينيه إلا ظلمة متدجية تضرب بين حياتين من عمره بسور ليس له باب ، من ورائه ركام من الذكريات وحطام من الأماني وأشتات من الأباطيل والأوهام !
وهل كان يقوم بنفسي يوم بدأت الكتابة في هذا الباب منذ بضعة أشهر ( * ) ورسمت خطتي ووحدت نهجي - أن سيقطعني عنه ما قطعني من بغتات القدر ، فلا أكاد أضع القلم بعد الكلمة الأولى حتى يغشاني ما غشيني ، فلا أملك أن أقرأ بعد ولا أن أكتب ، ويغلق الباب بيني وبين الدنيا ، وبيني وبين نفسي ؛ وتظل موعدتي للقارئ بلا وفاء ؟ ...
... وكانت موعدة صدق فكذبها القدر ! واليوم - وبعد بضعة أشهر - أحاول أن أعود إلي موضعي من الحياة والناس ؛ ولكني لا أعد ولا أتمني ، فاني لأخشي ؛ أفيعذرني القارئ مما كان ، ويحسن بي الظن فيما سيكون ؟
مهرجان الربيع :
هذه نفس تئوب إلى الحقيقة رويدا رويدا ، وهذه
الظلمات تنقشع عن عيني قليلا قليلا ، وهذه هي الدنيا ... ... هنا غناء ورقص وموسيقي وأفراح ؛ وهناك نواح وجراح وأنات وأحزان .
هنا ... على الشاطئ الريان " ليلة من ألف ليلة " تترنم فيها الأقداح ، وتترنح الأرواح ، وتخافت العيون بالكلمة الهامسة ، والنظرات الضاحكة والعاببسة ؛ لتجمع من ثمن ذلك كله بضع مئات من الجنيهات معونة لمن هناك ...
وهناك ... وراء خيال المتخيل ، دور خالية ، وظلمات داجية ، وأطفال يتضاغون من الجوع ، وأمهات يقفقفن من العري ، ورجال تتجاذبهم اسباب الموت والمذلة والتشريد والجريمة ...
ليت شعري أيعرف من هنا حقيقة من هناك ؟ . . ألا إنه لو لم يكن هؤلاء هنا ما كان أولئك هناك !
انظر ! هذا عديد من صور أولئك وهؤلاء ، وهذه أشتات من أخبار أولئك وهؤلاء ... في صحيفة واحدة من صحف الأسبوع ...
أفرأيت كيف تهزأ الدنيا بناسها ، وكيف يسخر ناسها من ناسها ... !
ويقول لي قائل : على رسلك يا صاحبي ، هذه هي الدنيا . بلي هي الدنيا ، وإن وراء كل غفوة صحوة ، وبعد كل نشوة صداع من خمار :
رجعية !
كتب الأستاذ أحمد الصاوي محمد في " إبر النحل " من المصري يوم ١٩٤٢/٤/٢٥ يقول : " ... كنت أول عودتي من أوربا نصير لبس القبعة تمشيا مع التقدم والراحة والصحة ، حتى دلتني تجارب العيش في بلادى على ضرورة تمسكنا بالطربوش ، حتى نعلم كل أجنبي في هذا البلد ، كبر أو صغر ، كيف يحترمه وينحني له ...
فليعرف المصري أنه في بلاده ، وليدرك أنه مستقل ، وليحرص على الزهو بحريته والاعتداد بكرامته ، ولا يمكن كائنا من كان أن يشعر بأن له أي فضل عليه أو أي حق عنده .. "
وهذا الذي يقوله الأستاذ الصاوي اليوم ، هو ما كنا نقوله - وما نزال نقوله - منذ سنين ؛ ليس يعنينا الطربوش أو القبعة في ذاتهما ، ولكن في المعنى القومي الذي يوحيان به في النفس ...
فإلي الأصدقاء " الذين لا يملكون من أساليب الجدل إلا كلمات : " الجمود والرجعية " أن يحسبوا حساب الغد، يوم يتكشف لأعينهم ما لا يرون اليوم ، فيعودون إلي آرائهم القديمة بالمحو والإثبات ."
على أنه مما لا ينبغي إغفاله هنا ، هو التنبيه إلي خطأ الكلمة المشهورة : " الثبات على المبدأ " واعتبارها فضيلة ؛ وما نراها تدل إلا على الجمود الحق والخطأ المتجدد ، وإنما يثبت الفكر نشاطه ويثبت الأدب الحق صلته بالحياة - بالرأي الجديد وإن كان يخالف قديمه .
رجعية أخرى !
وجاء في الأهرام يوم ١٩٤٢/٤/٢٤ أن وزارة المعارف التركية أصدرت أمرا إلى المدرسات والتلميذات فى مدارسها أن يلتزمن جانب الاعتدال في ملابسهن ، ويستغنين من مظاهر البذخ والترف ... وفي جملة ما حرم عليهن نفسه : الجوارب الحريرية ، والأحذية ذات الكعوب العالية ؛ وكذلك منعهن من تجميل وجوههن بالأصباغ وتمويج شعورهن ... ...
هذا في تركيا التي قالوا فيها ما قالوا ، فماذا في مصر ؟ أتراني أستطيع أن أقول كل ما أعرف في هذا الباب ؟ لقد أتيح لي أن أري وأعرف - عن قرب - ما لا يعرفه إلا الأقلون من شئون المعلمات والتلميذات في مدارسنا ؛
لكني مع ذلك أوثر أن أسكت ؛ فمتى ... متى أراني ونفسي على وئام فيكون سكوتي عن اقتناع لا عن تأدب واحتشام ؟
شاعر الوحل :
في العدد ٤٦٠ من الرسالة أبيات " للشاعر المجهول " عنوانها : " إلي ... " ، والمجرور محذوف ؛ منها :
أبحتك من قلبى نفائس عطفه
وحررت فيك المال من ريقة الضن
فلم تر صدري من سهامك في رحمي
و لم تر جيبي من نصالك في أمن
إلي أن قال :
مضيت إلي غيري جهارا وخنتني
فمن أي وحل صيغ طبعك خبرني !
وهذا الذي يقوله الشاعر المجهول هو لون جديد من ألوان الغزل يستحق التسجيل فيما أري ؛ وما ظنك بالشاعر الذي يحاول الغزل فيمن على حبيبه بما أباحه من نفسه وما يبذل له من ماله ؛ ثم يكون خاتمة شعره إليه : " فمن أي وحل صيغ طبعك ! "
لقد كان القدماء يلقبون الشاعر بكلمة من بيت من قصيدة ينظمها ، أفتري من حقنا - قياسا على ذلك - أن نسمى شاعرنا المجهول : شاعر الوحل ... ؟
و يغريني الشيطان بأن اسأل سؤالا آخر : لتكون هناك صلة بين " الشاعر المجهول " الذي يتغزل في الوحل ويمن بما أنفق على حبيبه من ماله وما أباحه من جيبه ، وبين " الكاتب المعروف " الذي كتب منذ أسابيع في الرسالة يقول : " رحم الله أبي - يعني أباه - فقد كان لا يفكر
في شراء حذاء جديد حتى يبلي حذاءه القديم على رأس أحب زوجاته إليه ، وكانت أمي - يعني أمه - احب زوجاتة إليه !! "
والذوق نعمة :
