أزمة الرأي :
غضب صديقي " فلان " وتعتب ، لأن رأيا من رأيي عارض رأيا من رأيه في بعض ما كتبت في هذا الباب ؛ وأسلس لغضبه العنان ، " فتأول " ، ثم " استنبط " ثم " حكم " واتهمني تهمة . . وكتب كتابا إلي واحد من أصفيائي يقول . .
وصديقي " فلان " علم بين أهل الآدب لا ينال منه النقد ، ومثال بين أهل الخلق لا تنال منه التهمة ، ونموذج بين أهل الحياء لا يجبه بالظنة ؟ فليت شعري كيف ساغ له أن يقول . .
والأدب كالدين إيمان وعقيدة : أساسه الخلق ، ودعامته الصدق ، ونوره اليقين ؛ والرأي فيه وليد العقل المدرك والوجدان النابض ، فلا صداقة الصديق ولا عداوة العدو . . فإن كانت غضبة صديقي للحق فما احراه ، وإنه لذو لسان وبيان . . وإن كانت غضبته لنفسه فلا علي منه ولا عليه ، وتبقى صداقة الصديق وإن تدابر الرأيان ؛
ويسألني سائل : ولم لا تكتب اسمك صريحا وقد فرضت نفسك رقيبا على الكتاب والأدباء ، ونزلت منزل الخصم لكل ذي رأي وفكرة ؟ أهجوما وتتقنع ؟ . .
ولا والله بيا صديقي ما تقنعت مخافة الناس ولكن مخافة نفسي ؛ فإن لكل رأي في الناس لونين : لونه في ذاته ، ولونه منسوبا إلى كاتبه ؛ ولكل فكرة في رأس صاحبها رأيان : رأي العقل المدرك والوجدان
النابض ، ورأي البيئة والزمان والخلان ؛ وإني لضنين برأيي أن يظهر في الناس بلونين ؛ وإني لحريص على فكرتى ان أجلوها " مجردة " لا تتحيفها جواذب البيئة والزمان والخلان ؛ أفلا يكون الرأي رأيا إلا أن يكون له غلاف وعنوان ؟ . . ألا إن الرأي الحر لا يقع موقعه إلا أن تقرأه بلا غلاف ولا عنوان
المرأة المصرية
سألت " آخر ساعة " الأستاذ توفيق الحكيم - فيمن سالت - أن يقترح وسيلة عملية لإنهاء الحرب ؛ فأجاب :
" أحسن طريقة لإنهاء الحرب هي إبعاد هتلر عن التفكير في الحرب ، والشيء الوحيد الذي يبعده عن التفكير في كل شئ ، حتى عن التفكير في نفسه ، هو أن يتزوج فتاة مصرية ؛ إنه لا يلبث أن يسأم كل شئ ويزهد في كل شئ حتى حياته
" . . فلو أرسلنا إليه فتاة مصرية فانها لا تلبث أن تبتليه بالهم والغم ، فلا يتفرغ للتفكير في الحرب دقيقة واحدة . . لأنه لا يستطيع الحرب في جبهتين . . " وجواب الأستاذ الحكيم لا يخلو من قصد الفكاهة ، ولكن له دلالته الجدية على رأيه " الصريح " في المرأة المصرية ، وهو رأي يحلو له ان يكرره وإن لم يستند إلي تجربة ولا برهان .
تري ماذا بين توفيق الحكيم والمرأة المصرية ؟ إنه ليخيل إلي أن هنا " عقدة عصبية " تملي عليه الرأي من وراء " الواعية الباطنة " في كل ما يكتب عن المرأة ، وتقفه منها ذلك الموقف في حياته وفي أدبه !
ولكني هنا لست بسبيل البحث عن هذه العقدة العصبية التي تركت في نفسه كل هذا الأثر الغائر ، فلذاك مكانه في تاريخ الأدب يوم يهم الباحثون بالكشف عن المؤثرات النفسية في أدباء الجيل ؛ ولكن الذي يعنيني
هنا هو " المرأة المصرية " نفسها لا توفيق الحكيم
أحقا أن المرأة المصرية على ما يصف ؟ ومن أين له أن يعرف فيصف فيحكم هذا الحكم العام الذي ينتظم كل سيدة وفتاة وطفلة في مصر ؟
لعله يعني هذه الطائفة المشهرة التي يقرأ من أخبارها ويشاهد من صورها في مجلات اللهو والعبث ؛ او لعله يعني تلك الطائفة الآخرى التي تتوزعها عيون السابلة على أرصفة الشوارع فيما بين الازيكية وعماد الدين ؛ أو لعل صديقا شكا إليه ، أو لعل امرأة حاولت ان تتودد إليه ، أو . أو ماذا ؟
. . ولكنه أصدق نظرا من أن يفوته الفرق بين امرأة مصرية وامرأة في مصر ؛ إنه ليعرف أن " المرأة المصرية " ليست هي هذه الفتاة التي تدفع " الثمن " لنشر صورتها في المجلة كما تدفع اجرة " إعلان " وليست هي هذه الثانية تتخايل لعيون الرجال على أرصفة الشوارع في ثياب تشف وتصف ، وليست هي زوجة ذلك الصديق الذي شكا إليه ، وليست هي هذه المفتونة التي توددت إليه ، وليست . . ليست واحدة ممن يعرف . .
بلي ، في الصحف والمجلات صور نساء وفتيات ، وعلي أرصفة الشوارع نساء وفتيات ، وفي المسارح ودور اللهو نساء وفتيات ؛ ولكن " المرأة المصرية " ليست هناك ، ولم يتح لتوفيق الحكيم أن يعرفها بعد ، ولعله يعرفها " في يوم قريب " فيعتذر إليها مما رمي به المرأة المصرية
أسبوع الأدب
ولا أسميه " أسبوع البر " ، كما ارتضي دعاته أن يسموه ، فاني لأحصي ما ربحه " الأدب " وما ربحه " البر " في هذا الأسبوع فترجح كفة وتشيل كفة ؛ وما ظنك بأسبوع يتحاور المذياع فيه عدة من وزراء الدولة وكبرائها ليخطبوا في موضوع واحد لغرض واحد ، وكل خطيب يحاول أن يفز ويسبق ويكون
ابلغ تأثيرا في عواطف السامعة وقلوبهم !
ولو كان الموضوع الذي تحاور الخطباء الحديث فيه مما يحتمل المفاضلة في الرأي ، او الموازنة في الفكرة ، أو المعاوضة في الحساب ، او المناقشة في الأسباب والمسببات ، أو المعارضة في النتائج - لكان مجال القول ذا سعة ، ولكان ربح الحقيقة المجلوة أكثر من ربح الأدب ؛ ولكن الموضوع لم يكن مما يحتمل شيئا من ذلك ؛ فما هو إلا الدعوة إلى الاحسان وبر الفقراء ؛ فماذا يقول قائل بعد قائل في الدعوة إلى الاحسان وبر الفقراء ، إلا ان يكون له معرض وبيان ، وفي حديثه شعر وموسيقي ، وفي مقاله فن وعاطفة ؟ وهل هي إلا صنعة الأدب وفن الأديب ؟
وصبر كل وزير وكل كبير منهم على حرفة الأدب ساعة ، وأحس إحساس الأديب وقلقه وحيرة نفسه ، حين يعالج . موضوعه ويسأل نفسه : ماذا يقول للناس ، وماذا يقول الناس ؟
على أن ربح الآدب في هذا الأسبوع لم يكن من ناحية الموضوع " ولكن من ناحية " الشكل " ، وإنه لأجدي على الأدب ؛ فبحسب الأدباء أن يحس وزراء الدولة إحساسهم ساعة من نهار ، فيعلموا أي رجال هم ، وكم يبذلون من جهد ، وماذا يؤدون للأمة
يحسبهم من ربح في " أسبوع البر " أن يعترف بهم " عمليا " أساطين الدولة وأصحاب الحكم والسلطان في وقت يوشك فيه الأدب أن يكون في حكم الخاصة ترفا من الترف لا جدوي فيه ولا منفعة .
الدبلوماسي
كتب كاتب في العدد ٤٦٤ من الرسالة يجيب جواب الأستاذ حافظ عامر بك عن نسبة كتاب " رسالة الحج " ودعوي انتحاله ؛ ولكن ماذا قال ؟ إنه ينفي عنه دعوي الانتحال ، ويثبت له حق التأليف ، ولا ينكر أن " رسالة الحج " و " أسرار
حج " هما كتاب واحد ، وإن كان أحدهما بالعربية والآخر بالأردية ، وإن اختلف اسم المؤلف على النسختين ؛ ولكن كيف يصح في الذهن ذلك ؟
ويجيب الكاتب - فيما يروي علي لسان الأستاذ حافظ عامر - فيحكى حكاية ويقص قصة ؛ وتخرج من الجواب بإتهام السيد عبيد الله السندي ، والشيخ عبد الوهاب الدهلوي ، وينقلب المدعي مدعي عليه ، أو كما قال . .
ولكن أسئلة ثلاثة تتحير على شفتي :
١ - لماذا لم يرد الأستاذ حافظ عامر نفسه وإنه لقاض يعرف حكم السائل والمجيب ، ويفرق بين اعتراف الأصيل واعتراف الوكيل ؟
٢ - وما قوله فيما نسب إليه صاحب " حياة الرافعي " وأسند علمه إلى الأستاذ الزيات صاحب الرسالة ، وهو أن المرحوم مصطفى صادق الرافي هو " منشئ العربية " في هذا الكتاب ؟
٣ - وكيف يعلل ظهور الترجمة الإنجليزية " في السوق ، وراء البحار ، لكتاب " اسرار حج " الاردي قبل أن يتسامع الناس بالنسخة العربية " لرسالة الحج " ! ولكن من حق السادة : عبد الوهاب الدهلوي ، وعبيدالله السندي ، وحسين نصيف - ان يجيبوا كذلك ؟ فهل بلغهم النبأ ، وهل نسمع منهم الجواب ؟
قرأت في هذا الأسبوع :
" كل لؤلؤة على صدر امرأة غانية دمعة لا تنضب في عين احد الفقراء ، وكثيرا ما تكون شركا خفيا لسقوط امرأة اخري ، أو إعلانا صامتا عن مذلة عدد كبير من أشباه الرجال
" إنها لتنظر إلي نفسها وهي منتشية بضجيج الرجال السكاري ، كما ينظر المحارب الزنجي إلي القلادة المعلقة في عنقه منظومة من أصابع الرجال الذين قتلهم . إن كل لؤلؤة صغيرة تمر بين إصبعيها تساوي بحساب المال جمجمة
رجل صريع ! إنها اشبه الأشياء على صدرها بالجائزة الموضوعة لرأس الفضيلة الأنصار : ١٧
" إن برنامج تعليم البنات في المدارس الثانوية في حاجة إلى إصلاح ، فأنا لا اريد زوجة تعرف حساب مثلثات ، وتحفظ نظريات الهندسة ، و تكر " نظرية ارشميدس . . ثم لا تعرف كيف ترنق جوربا ، أو كيف تنظم بيتها ، أو كيف تملي بطفلها ! " نريد قاسم أمين جديدا يرفع عن عقول الفتيات الحجاب ، كما رفع قاسم أمين الحجاب عن الوجوه ) " الاثنين : ٤١٤ كاتب اليوميات
" كيف أربي ابنتي ؟
" لن أقول لها لا تتحدثي إلي شاب إذا التقيتما في حفلة أو مكان ما . كلا ، بل سأقول لها : كلمية ، وبادليه الرأي بالرأي والحجة بالحجة ؟ ولكن حذار يا ابنتي من نوع خاص من الرأي والحديث ، حذار من الحديث الذي لن يكون في استطاعتكما أن تتبادلاه ، لو كان معكما شخص الثالث
" ولن أقول لها لا تراقصي شابا ثم أسكت . كلا ، بل سأقول لها : لن يراقصك شاب يا ابنتي إذا كنت دميمة ، وان يراقصك إذا كنت مع أقربائك وكانت رقابتهم دقيقة ، ثم هو لن يراقصك إذا كان نور القاعة وهاجا أكثر مما يجب ، أو كانت أركانها قريبة أكثر مما يجب
" وأخيرا لن اهتم بثقافتها الدنيوية بقدرا اهتمامي بثقافتها الدينية ؛ فليس في تعليمها الجبر والحساب والهندسة غناء كثير ، وليست هي في احتياج إلى هذا النوع بقدر حاجتها إلي الارتواء من علوم الدين ، ففي تشبع روحها بمبادئ الدين درع متينة تقيها شر الأحداث والحوادث " آخر ساعة : ٣٩٨
