حق الشعب _وحدة العرب - آخرة شاعر
حق الشعب:
نساء ورجال ، وفتيات وفتيان ، وبنات وصبيان ، وبازاء ذلك كله سد من الحراس والجند والحجاب ، يدفعون هذا الزحام بالأيدي تارة وباللسان ؛ هذه امراة تبكي ، وهذا شيخ يتوسل ، وهذا بني ، وهذه بنية ؛ كلهم يحاول أن يتخذ طريقا في هذا الزحام إلي مكتب الوزير ، أو حجرة الوكيل ، أو مجلس المستشار .
لو وصف لي هذا الزحام على باب وزارة التموين لما أنكرت ما سمعت وإنني لأنكر الساعة ما أري ؛ هذا
مشهد لم ار مثله قبل ولا بلغ إليه وهمى ؛ فلا ازمة الخبز وقد اشتدت حينا منذ أشهر حتى بات اطفال علي الطوي ؟ ولا ازمة البترول وقد اضطرت طائفة من ذوي اليسار والترف إلي أن يطبخوا على " الكانون " في القصور ؛ ولا أزمة السكر وقد حملت ابن البدراوي بإشا علي ان يشرب الشاي بالعسل ؛ ولا أزمة الرز وقد عاف اطفالي الطعام يوما لأن منزلي لم يكن فيه حبة رز . )
لا أزمة الخبز ، ولا أزمة البترول ، ولا أزمة السكر ، ولا أزمة الرز أرتني من بعض مشاهدها مثل هذا الزحام ، وإني لأشهده اليوم في وزارة المعارف .
هؤلاء آباء وأمهات ، وتلاميذ وتلميذات ، قد جاءوا يسعون إلي باب الوزير يلتمسون التخفيف عنهم في هذا الضيق الخانق بإعفائهم من مصروفات التعليم .
واستجاب الوزير للنداء ففتح الباب وتدفقت الجموع ؛ ونفذت منحة الوزير ولم تهدأ صرخات
الشاكين ؛ وعاد الزحام ، وعاد دفاع الحراس والجند بالأيدي تارة وباللسان !
وبلغ صوت الشاكين حيث أرادوا ، وتوسع المانح فيما منح وفتح المصراعين ، ولم يخف الزحام ولن يخف . .
أكل أولئك الآلاف من طلاب " المجانية " ذوو حق فيما طلبوا ، وفيما نالوا ؟ . . أكلهم عاجز عن دفع عشرة أو عشرين جنيها من أجل تعليم ولده ؟ . أكلهم صادق الدعوى فيما قاله من الغلاء والأزمة وقلة المورد ؟ . . أليس فيهم جزار ، ولا خباز ، ولا رزاز ، ولا بزاز ، ولا سكري ، ولا فرصي أغنته الحرب من فقر واتخمته من جوع ؟ . . اليس في كل أولئك واحد من هؤلاء ؟ بلي ، وإن فيهم لعشرات من كل مائة ، وفيهم الغني والفقير ، والوجيه والمنبوذ ، والمحتال والمحتاج ، والمختال والمتعثر في الأسمال ولكن ماذا يعني كل ذلك ؟ أليس معناه أن كل أولئك طلاب علم وراغبو معرفة ؛ فحسبهم ذلك عذرا من كل ما ركبوا في سبيل التعليم من الكذب والاحتيال
ألا إن العلم حق لكل طالبه ، فلا عليه أن يركب إليه كل سبيل ولو كذب واحتال
إن طلب العلم فضيلة تمحو كل سيئة في الوسيلة ؛ وما دامت حكومتنا لم تؤمن بعد كما آمنت حكومات ودول أن العلم كالهواء والماء حق لكل حي ، ومرفق مبذول لكل مرتفق ، وملك مشاع لكل مستمتع ما دامت حكومتنا لم تؤمن بعد بذلك فلا على أحد يؤمن به أن يطلب حقه منه حيث قدر وكيفما قدر ! وليس على بواب وزارة المعارف من بأس إن فتح الباب مصراعية وئام
لقد عمل وزير المعارف في هذا العام عملا نرجو أن يكون له ما بعده ، فيتوسع في نسبة ما يمنح من " المجانية ؟ في التعليم العام حتي تبلغ . . تبلغ ١٠٠ % ، وله من الشكر
بمقدار ما أدى من الواجب إن كان في أداء الواجب شكر !
وحدة العرب :
سافر السيد تحسين العسكري وزير العراق ، وسبقه السيد نوري السعيد كبير الوزراء ؛ فهل رأيت كيف ودع الشعب وسراته وصحافته وزيري القطر الشقيق وما خلفا وراءهما من صدى يهزج بالثناء والحمد ؟
وقد حل في مصر قبل تحسين العسكري ونوري السعيد سفراء ووزراء وأضياف عظام ؛ ولكن أحدا ممن سبق لم تحتفل الصحافة المصرية والصفوة من رجال مصر بمقدمه ووداعه ما احتفلت سرجلي العراق !
ولم يسافرا حتي خلفا في نفس كل من رآهما أو اتصل منهما بسبب شوقا إلى لقاء قريب ، وحتى حملا طائفة من سراتنا وكبرائنا لم يكونوا يعرفون مما وراء الحدود غير فيشي ، وإكس لا بان ، وساحل الريفيرا - على التفكير في زيارة بغداد والموصل وبلاد هاروت وماروت ! حبذا أن تتبادل الزيارات بين الزعماء والوزراء وقادة الرأي في الأقطار الشقيقة حينا بعد حين ؛ إن زيارة واحدة لتقرب شعبا إلى شعب أكثر مما تقربه عشر معاهدات وعشرة مواثيق
إنهم إخوتنا هناك ونحن إخوتهم هنا ، وإن وشائج عديدة لتربط بينهم وبيننا ، وإن صوتا من التاريخ ليهتف بهم وبنا ، وإن لغة ودينا توارثناهما ليجمعان بيننا لسانا وقلبا ، ويؤكدان بيننا مودة وحبا ، ويصوران مفاخر الماضي وأماني الغد لهم ولنا !
ولم يقم السيد تحسين العسكري طويلا في مصر ، ولكن إليه وحده يرجع فضل ما توثق من روابط الثقافة بين مصر والعراق ؛ فبجهده وما بذل بلغ عدد الطلاب العراقيين في مصر ما بلغ ، وبجهده ما بلغ عدد المعلمين المصريين في العراق ؛ فما كان المبعوث السياسي لحكومته
في مصر ، ولكنه كان مبعوث " الوحدة الثقافية العربية " ؛ ولن يغفل له المصران حق ما بذل ، يوم تصير هذه الوحدة الثقافية حقيقة من حقائق التاريخ تعمل عملها في تكوين الوحدة العربية العامة
ويوم تبرم " المعاهدة الثقافية " التي شارك في وضع أساسها بين مصر والعراق ، ثم بينهما وبين سائر بلاد العربية - سيذكر الناس في مصر والعراق وسائر بلاد العربية ما كان للسيد تحسين العسكري من جهد في وضع اللبنة الأولى
فإليه في حله وترحاله تحية العروبة !
آخرة شاعر !
قرأت في جريدة الأهرام : " عين الشاعر المعروف الأستاذ عبد الحميد الديب في إحدى وظائف القسم الرياضي بوزارة الشئون الاجتماعية . وسرني ما قرأت ؟ فإني أعرف عبد الحميد الديب وأتذوق شعره ، وأعرف من حياته ما يسر وما يؤلم ؟ ولكن جمهرة من أصدقاء " الشاعر البائس " لم يسرهم ما سرني ؛ لأن البلبل النواح سيهجر ناديهم إلي غير معاد ، وكان تواجه سلوتهم وتسرية أحزانهم !
أتراهم أصدقاءه أم أصدقاء أنفسهم ؟ ألم يكفه ويكفهم ما غني لهم من شعره الباكي سنين لم يذق فيها من ألوان الحياة غير البؤس والحرمان ؟ . .
وقالوا : هذه آخرة شاعر ؛ فلن نسمع عبد الحميد الديب بعد اليوم مغنيا بلياليه الشريدة ، ثملا بكأسه المحطمة ، متحلب اللعاب على المائدة الخاوية . ربان بالسراب
. وهل كان عبد الحميد الديب شاعرا إلا بلياليه الشريدة ، وكأسه المحطمة ، ومائدته الخاوية ، والسراب المترفرف لعينيه على الظمأ في أوهام البيداء
وقالوا : ومن ذا يستطيع غير عبد الحميد الديب " البائس " ان يصف حجرة كان هو فيها كل الأثاث ، وليلة كان هو فيها الفريد اليقظان ، ومائدة كان هو إليها الجائع المتلهف ، وكأسا أسكره الأمل بها وما لمستها شفتاه ، وبدلة عند الرفاء أودعها صاحبها فوقف الديب عندها يناجيها نجوي المتشوق ، وينفس على صاحبها ما ملكت يداه
أترى عبد الحميد الديب " الموظف " يستطيع أو يقدر على ذلك الذي كان يستطيعه فيجيده عبد الحميد الديب الذي كان . . ؟
وقالوا . . وصدقوا ، فلن يستطيع عبد الحميد الديب بعد اليوم شيئا من ذلك ولو تكلف له ؛ إلا إن تمرد على ما أرادوا له وهجر الوظيفة ، وهيهات !
ليت شعري أيعرف القراء جميعا عبد الحميد الديب كما عرفته وكما يعرف نفسه ويعرفه صحابته ؟
إذن لجاز لي أن أسأل كل قاريء الرأي فيما صنعت وزارة الشئون الاجتماعية : أأخطأت أم أصابت ؟ . . فما أملك أن أجيب !
فأما إن كانت وزارة الشئون الاجتماعية قد قصدت الاعتراف به أدبيا كامل الأداة ، صادق التعبير ، قوي الإحساس بما في نفسه ، فنان الشعور بكل ما يحيط به فكل ذلك كان عبد الحميد الديب!
وأما إن كانت قصدت إسعاد شقي ، وراحة مجهود ، وتنعم محروم - فقد بلغت وأصابت وما جاوزت
وأما إن كانت أرادت تشجيع نابغة ، وإمداد عبقرية ، وتكميل أداة - فما أراها بما فعلت قد أسدت يدا أو بلغت غاية !
فأي ذلك أرادت لنعرف ما أخطأت وما أصابت ؟ أما عبد الحميد الديب الشاعر فهذه آخرته ، ولكنه كذلك حقه ؛ لقد سلخ الرجل من عمره بضعا وأربعين
سنة يوقع على قيثارته ما يوقع من ألحانه ، فتلمع دموعه بسمات على شفاه الناس ، وتتردد زفراته الموجعة في الصدور قهقهات وضحكات ؛ وإنه ليبتسم معهم ويقهقه ، ويصدر به مابهم من مرح وبشر ولا يعديهم ما به ؟ فإذا خلا من الناس وخلوا منه عادوا وعلى شفاههم بسماته وعاد وفي عينيه دموعه
أفتبلغ الأثرة بي وبالناس أن نأسف على خير يناله لأنه يحرمنا لذة كانت تنالنا ؟ فلا كان الشعر ولا الشعراء !
تهانينا إلي عبد الحميد الديب الموظف بما نال من عطف ومودة بعد طول الحرمان ، وعزاء إلى اصدقاء عبد الحميد
الديب الشاعر الذي كان يرحمه الله لقد آن للتاريخ أن يثبت فصلا في تاريخ أدب الجيل !
حاشية : أشكر لأصدقائي الأساتذة : إبراهيم علي ، وعبد الفتاح متولي ، وعبد الجواد محمود هلال ، ومن لا أذكر من قراء هذا الباب - جميل ما نالني من برهم وحسن مودتهم ؛ وارجو ان استطيع جزاءهم على ما أحسنوا بي الظن توفيقا يوفقنيه الله فيما أعالج من فنون الحديث في هذا الباب !
