الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 217الرجوع إلى "الثقافة"

الصحافة والأدب في أسبوع :، "....هذا رأييى ، وعلي تبعته وحدي.... ... "

Share

الهارية ) في الصمت خرافة التاريخ - تراجم المعاصرين ...

الهاربة !

أقرأت يوماً صفحة " الإعلانات المبوبة في الأهرام ؟ أما أنا فلم أقرأها يوماً ، ومن أين لي الصبر والطاقة إن وجدت الحاجة ؟ وما حاجة مثلي إليها وما وجدتني يوماً على وفر من المال ألتمس له مصرفاً ، أو وفر من الزمن أبتغي له مشغلة ؛ وما تعودت أن ألتمس أسبابي إلا بأدنى الوسائل وأخف المئونة ...  ؛ ولكني أمس قد قرأت صفحة " الإعلانات المبوبة " في الأهرام ، قرأتها جميعا ًكأنما التمس فيها سبباً إلى حاجة ، وما كان لي بها حاجة ، ولا كنت على وفر من المال أو وفر من الزمن ! .... وقرأت شيئاً جديداً فيه تسلية من السأم ، وفيه أسباب إلي أمل ، وفيه ذكريات وأحلام ، وفيه أقاصبيص غامضة مثيرة وإن لم يكتب منها غير العنوان .. ...

ماذا وراء كل إعلان من هذه الإعلانات المنشورة من أماني ، ومن أحزان ، ومن حوادث ، ومن دلائل نفسية وخلقية واقتصادية ؟ . وددت لو كان وراء كل سطر من سطور هذا الباب قارئ يحصي ويحسن أن يعد المقدمات لنتائجها ، ويرد المسببات إلي أسبابها ؛ إذن لوجد المجال لحديث له ذيول ...

وقرأت فيما قرأت الإعلان الثاني من باب " الإعلانات الشخصية " :

" ابنتي . .

" ورد خطابك ، عودي . . طلباتك أجيبت ! " . وتلبثت برهة ، وأعمضت عيني ، وسرحت في واد عميق ؛ ابنته ، أو ابنتها . . من يدري أين هي الساعة ؟ وما خطبها ؟ وما دعاها إلي الفرار والتخفي ؟ وما خطابها إلي أبيها ، أو إلي أمها ؟ وما طلباتها ؟ وهل تعود ؟ . .

ولكل سؤال جوابه الواحد ، ولكن حين تغيب الحقيقة وراء ستار من الكتمان يكون لكل سؤال ألف جواب كلها في وهم المتخيل صدق واقع ما دامت في حدود الإمكان ، وكذلك أجابتني نفسى عن كل ما سألت ولم أظفر بجواب واحد !

يا لها قصة ، بل يالها قصصاً يسرح فيها الخيال ويثوب ؛ ولكنها جميعاً حقائق واقعة ، لأنها جميعاً من حياتنا العامة التي نحيا ، بلا تقاليد ، ولا آداب ، ولا خلق عام يجتمع رأي الشعب على فضيلته ورذيلته !

أيريد القاريء أن أقص عليه قصة هذه الهاربة كما زورها لي خيالي ؟ ولكن لا ، إن في نفس كل قارئ جواب ما سألته وسألت نفسى ، وإنه ليستطيع أن يقص لنفسه قصتها !

لم ينقص هذا الإعلان من وسائل الطرافة إلا عبارة واحدة كان ينبغي أن تزاد في آخره ، كبعض الإعلانات في أبواب أخري ، هي عبارة : " ...  ... ومستعد لدفع خلو رجل ! " .

رد الله غربتك أيتها المسكينة !

فن الصمت !

وقرأت فيما قرأت من المباحث البرلمانية في الأسبوع الماضي ، أن مجلس شيوخنا اتخذ قراراً بتحديد حق

العضو في التكلم بنصف ساعة ، لا يسوغ له أن يعدوها في تقرير رأيه ؟ حرصاً على الإيجاز في الزمن ... ....

وهو قرار له دلالته وأثره ، ومن حق أهل الأدب أن يذكروه حين يذكرون العوامل المؤثرة في أدب الجيل ؛ فإن مجلس الشيوخ ، أو البرلمان بجملته هو حلبة الخطباء الأولى في هذا الجيل ، وخطباؤه بما يتناولون من الموضوعات العامة أدني مكانة إلي الشعب ، ومذهبهم في الخطابة أقرب ما يحتذي ...

وليس تحديد الزمن بنصف ساعة أو أكثر أو أقل ، هو ما يعنينا ؟ وإنما يعنينا ما يكون من أثر هذا التحديد في ألسنة الخطباء والمتكلمين ، فإن المكثر المطنب منهم سيحرص منذ اليوم على أن يؤدي كل ما يريد من معنى في تقرير رأي أو معارضة فكرة في زمنه المحدود حتي لا يرتج عليه قبل أن يتم بيانه ؛ وسيحمله ذلك على الإيجاز والقصد إلي الهدف من أقرب الطرق إليه ؛ وليس يتأتي ذلك لكل أحد ، ولكنه خليق بأن يحمل العاجز على التماس أسبابه ؛ فهذا أثر ذلك التحديد الزمني في ألسنة خطباء الشيوخ ومن يحتذيهم ؛ ومن ثم يكون أثره في الأدب .

ولست أشك أن هذا القرار - من الناحية الموضوعية - قد اغضب واحداً ، أو آحاداً ، كان يحلو لهم أن يقولوا فيكثروا ، وأن تتناقل المطبوعات والناس عنهم ما قالوا فأكثروا ، لأنهم يملكون من أساليب البيان بضاعة ، أو لأنهم لا يملكون... .... ... . ولكنهم رابحون بهذا القرار على الحالين : رضوا أم غضبوا ، لأنه سيحملهم على خطة لم يألفوها بعد ولكنها أجدي : سيحملهم على تجويد البيان والإيجار في العرض والاستدلال إن أطاقوا ، أو يحملهم على الصمت ؛ والصمت في بعض الأحيان أغلي البضاعتين !!

ليت المدارس إذ تعلم تلاميذها " فن الكلام " تعلمهم إلي جانبه " فن الصمت " فإنه ليكون أبلغ بياناً في بعض المواقف من كل بيان ؛ ولكنه فن عسير على طالبه وعلي معلمه ! !

خرافة التاريخ !

وقرأت في العدد ٤٥٣ من مجلة "الاثنين " من حديث زيور باشا وقد سأله سائله : لماذا لا تدون مذكراتك ؟ فأجاب :

إن هناك ذكريات حكم عليها أن تموت مع صاحبها ، ومن بينها ذكريات أحمد زيور ...

" لقد كتب نوبار باشا مذكراته ، وهي على جانب كبير من الخطورة ، ومحفوظة عند أحفادة بل ستبقى محفوظة عند أحفاد أحفاده ، لأن أحدا لن يجسر على نشرها . .

وذكرياتي لا تقل خطورة عن ذكريات نوبار باشا ؛ ولذلك سأصحبها في قبري حتي لا أتعب بها أحفادي ! "

وابتسامة السخرية واضحة الملامح في فكاهة الوزير الشيخ ، وإنه ليعترف من حيث يريد ان ينكر ، فلولا ما يملأ فاه من ماء لقال ! ...

ولو أن سائلاً سأل كل وزير من وزرائنا ورجالنا العامين هذا السؤال الذي سئله زيور باشا لكان الجواب جوابه وإن لم يصرح به ؟ وما يسكت من يسكت منهم إلا وفي فمه ماء أو في فمه دم !

أليس ذلك شاهداً عن بينة علي نفاق التاريخ يزعزع الإيمان به . والركون إليه ، ويؤيد كلمة قالها منذ قريب عبد العزيز فهي باشا فأنكرها عليه من أنكر حين زعم أن التاريخ خرافة !

إن شواهد كثيرة لتؤكد لي معني أحذر أن أصرح  به , وإنه ليخيل إلي أن  "الكذب " هو الأصل في

طبيعة الإنسان وأن " الصدق "  تطبع ؛ وليس كل الكذب هو ما يقال خلافاً للواقع أو خلافاً للمعتقد ؛ فان هناك " الكذب الصامت " وهو السكوت عن ذكر الواقع أو ذكر المعتقد ، وهو أرذل الكذبين !

تراجم المعاصرين

ويذكرني شيء شيئاً ؛ فقد قرأت منة أسابيع مقالًا للأستاذ أحمد أمين بك في الثقافة عنوانه " تراجم المعاصرين " يجيب به سائلاً ، أو مقترحاً ، يري أن يقوم كل عين من أعيان الجيل فيضع لنفسه ترجمة " لئلا يكون لأحد عليه تقول أو تزيد !! "

وقد أجاب الأستاذ أحمد أمين بك سائله ونشر مقترحه وجلاه ، ثم قال :

" ونحن يسرنا هذا الاقتراح ونرحب به ، ونفتح صدر " الثقافة " له  ؛فهل نجد من يلبي ؟ "

أما " تراجم المعاصرين " فليس يشك أحد في وجوب العناية بها ، وقد كتبت في ذلك بضع مقالات في هذه المجلة منذ أكثر من عام ، وتناولتها بعد ذلك مرة أومرات في هذا الباب ؛  وأما الوسيلة ... ...

ويسأل أحمد أمين بك : هل من يلبي ؟

وإني لأسأل معه : وهل يغني ذلك غناءه لو وجدت من يلبي ؟ .

وفي بعض ما قدمت جواب ما سألت !...

على ان في هذا الاقتراح طرافة ، وفيه جدوي ، للأدب الفني الخالص لا للتاريخ ؛ ولست أذكر في قديم الأدب شيئاً بعد من هذا اللون إلا ما كتب ابن خلدون عن نفسه ، وإن منه في الأدب الحديث كتاب الأيام ، على اختلاف المذهب بين ابن خلدون والدكتور طه حسين بك فيما كتبا ؛ فلو أننا ظفرنا إلي هذين بطائفة أخرى

من " تراجم العظماء لأنفسهم " لكان لنا فن جديد في أديب اللغة العربية ؛ ولكن هل نجد من يلبي ؟ ...

ليست الوسيلة إلي هذا أن تعلن " الثقافة " أنها تفتح صدرها ، فإنك لا تجد كثيراً من أدبائنا يؤمن بنفسه إيماناً يحمله علي التحدث عن نفسه علانية ، ولو كان لما وجد الجرأة ؛ وإنما عليها أن تقترح على من تشاء أن يكتب عن نفسه ، وأن تحمله بما تملك من الوسائل الأدبية على الإجابة ، فإذا أفلحت في اجتذاب بضعة نفر فقد أفلحت في إحياء فكرة ، وفي إنشاء فن ، وفي تزويد الأدب العربي بجديد ، وفي تقديم شواهد للاستدلال في التاريخ ومقدمات لنتائج ، ولعلها أن تبلغ بذلك مبلغاً ، فإن لم يربح التاريخ فقد ربح الأدب ؟

وأحسب " الثقافة " لن تجد علي ذلك اعتراضاً بذكر ؛ فإن كثيراً من مجلاتنا الأسبوعية قد خطت خطوة في هذا الشأن وإن لم تقصد إلي هذه الغاية ، بما تقدم لقرائها حيناً بعد حين من أحاديث لبعض سادتنا وكبرائنا عن أشياء من خاصة أنفسهم كان العرف يأبـي عليهم أن يذ كروها منذ قريب ، بل ما زال العرف ينكر بعضها ويعيب الحديث عنها .

وقد هيأت لنا التطورات السياسية منذ ربع قرن أن نسمع كثيراً من ساستنا يتحدثون أو يخطبون ، أو يكتبون أحيانًا ، عن أشياء مما عملوا أو مما يرجون أن يعملوا ، تكثراً بالفضل وقربي إلي الشعب أو إلي التاريخ ؛ فهذا تطور في تقاليدنا يمكن أن يفيد منه الأدب لو وجدت الدعوة من يستمع ، وإني لآمل أن نجد من يستمع فيحسن أن يستمع ويحسن أن يقول .

اشترك في نشرتنا البريدية