الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 213الرجوع إلى "الثقافة"

الصحافة والأدب في أسبوع :، هذا رأيي ، وعلي تبعته وحدي .

Share

عسكري المرور - ضمير القاضي - فن النقد  

عسكري المرور

يتساءل الأستاذ أحمد أمين بك في العدد الماضي من " الثقافة " عن سر القوة في عسكري المرور في الميادين العامة ؛ كيف يطيع الناس أمره وإشارته طاعة لا يجد مثلها المعلمون من تلاميذهم ، ولا الآباء والأمهات من أبنائهم وبناتهم ، ولا المصلحون من قومهم ، ويسأل أذلك لشخصية عسكري المرور ، أم لأن وراءه قوة القانون ، أم لأن تنفيذه تحت سمع الجمهور وبصره ، أم لماذا

وما لشئ من ذلك كانت طاعة الناس لامر عسكري المرور وإشارته وما كان له من قوة في ذاته أو من ورائه تفرض له علي الناس طاعة راضية أو ساخطة ، وما أراه هو نفسه يشعر ان له امرا حين يأمر او نهيا حين ينهي فيطيعه  الناس على الحالين راضين او ساخطين ، ولو انه كان يحس إحساس الآمر الناهي ، المطاع فيما يأمر وينهي ، لغلبته طبيعة الإنسان الحي فتغطرس وتجبر واصطنع الأمر والنهي لغير وقته وأوانه ، إدلالا بقوته وإيغالا في بسط سلطانه ، وإن بعضهم ليفعلها حين يخيل إليه

بل ما أراه يأمر وينهي كما يوهم ظاهر قوله وإشارته ، وإنما يؤمر به وينهى ، شأنه في ذلك شأن المصباح الأحمر علي حافة هاوية !

وما أري صدوع الناس بأمره وإشارته طاعة كما يوهم ظاهر حركاتهم وسكناتهم ، وإنما هو التوقي والحذر

ومخافة الهلكة  فقد جبلت البشرية على العصيان والتمرد ومحاولة الاستعلاء بالإرادة الفردية المطلقة ، وما تطيع حين تطيع  إلا ما تأمر به النفس في باطنها ، فإن وافق هذا " الأمر الباطن " أمرا في الخارج كان ما نسميه الطاعة . وإلا فالعصيان الظاهر ، أو العصيان المتربص في مظهر من مظاهر الرضا والطاعة ، وإنما هما لون آخر من " طاعة النفس اسمه العصيان

وعلي اعين الناس في كل يوم حادثة أو حوادث من مصارع العصاة تحت عجلات السيارات ومراكب الترام ، فكيف بهم وإنهم ليحرصون على الحياة ، ولكل نفس من داخلها امر يصدر عما يسميه علماء الغرائز غريزة النوع " أو " حب البقاء فلهذه الغريزة طاعتهم لا لصفارة عسكري المرور وإشارته

فلو أن كل معلم ، وكل أب ، وكل مصلح ، حرص على أن يعرف ما في نفس تلميذه ، أو ولده ، أو ناصحه ، قبل ان يتوجه إليه بأمره ونهيه - لعرف اين يصيب منه موضع الإقناع ويظفر بطاعته ، طاعة النفس لا طاعة الجوارح ؛ فانما الغرائز في كل نفس زوجان : آمرة وناهية ، وقلما يلتفت امرؤ إلي ما في داخله من عراك الغرائز  وصراع الرغبات ، وإنما يلتفت إلي ذلك المعلم الناجح ، والآب المربي والمصلح الموفق  ، فيقصد كل منهم في درسه وأمره وموعظته إلي حيث يوافق غريزة من غرائز الخير في النفس فيوقظها وينفخ فيها الحياة ويسلحها بأسلحته لتثبت على المقاومة ، ثم يأمر أمره أو ينهي ، فهنا يجد الطاعة الراضية المطمئنة ، لأنها طاعة النفس للنفس حين يوافق الأمر في الخارج " أمر الباطن " الذي هو أمر الغريزة المسيطرة الغالبة

ومن هنا يكون اختلاف أثر المعلم والأب والمصلح في التلاميذ والأبناء والناس ، فيطاع بعضهم ويعصى

بعض والأمور واحد والأمر واحد !

إلا إن الناس لا يطيعون عسكري المرور ولا يصدعون بأمره . ولعلهم لا يلقون بأعينهم ولا  بآذانهم إليه ، وإنما يطيعون " داعي الحياة .

ضمير القاضي

وقرأت مقالة القاضي الفاضل الأستاذح . ج عن " القاضي وضميره : " في العدد نفسه من الثقافة ، فأذكرني حديثه حديثا ، وقد كان لي في الأسبوع الماضي قضية في المحكمة ، وأنا رجل قد سلخت من العمر بضعا وثلاثين سنة ولم ادخل المحكمة قط إلا مسوقا إليها تدعوي ، وما أنا والله أهل لذلك ولكن الناس له أهل بل لعلني أهله ، فإن الناس لا يتجرءون في الدعوي إلا على من لا يحسين أن يدخل المحكمة مدعيا ومن ذلك كنت أنا الخاسر أبدا في كل ما يقاضيني به الناس

ودخلت المحكمة يصحبني محامي ، وإنما صحبته لاستوثق من صدق دفاعه عن حقى ، ولأشهد لونا من حياة الناس حبب إلى أن أشهده ؛ واتخذت مقعدي بين طائفة من المحامين يعدون عدتهم للدفاع او للدعوي ، والقيت إليهم سمعى اتسقط حديثهم ومحاوراتهم ومادبروا ؛ وكانوا إلي العبث والمجانة أقرب منهم إلي الوقار والجد ، ولم أجد حرجا فيما سقط إلي من حديثهم ، إذ كانوا يجهرون به وإني إلي جانبهم ، بل لعلهم لم يسترسلوا فيما أخذوا فيه إلا لآني بينهم أسمع وأتتبع الحديث في عجب خيل إليهم أنه الإعجاب

وشغلني ما سمعت وما اجتمع لي من الرأي عن النظر في عواقب قضيتي ، ونوديت فلم اكد اسمع ، وسألني القاضي فلم أكد أجيب ، وقال محامي المدعي ، وأجاب محامي ، وحكم القاضي حكمه ، وغرمت بضعة جنيهات

كانت هي كل ما معي في ذلك اليوم !

وخرج محامي وصديقي يزم شفتيه أسفا ، وسألني في الطريق : كيف رأيت ؟

قلت : لقد أفدت في هذا اليوم علما !

قال : وخسرت مالا

قلت : ولكني الرابح بما حصلت من معرفة

وصمتنا برهة ، ثم عاد يسألني : كيف رأيت ؟

قلت : أريد أن أعرف قبل يا صديقي ، من أي طوائف المحامين  انت ؟ لقد عرفتك قبل اليوم صديقا  وأريد أن أعرفك اليوم محاميا ينتسب إلي حرفته !

قال : ماذا تعني ؟

قلت : لقد عرفت اليوم من المحامين أربعة ، لم يكونوا فيما في الجلسة ولكني عرفتهم واريد ان اعرف مكانك بينهم .

عرفت محاميا يؤمن بالحق  ، ومحاميا يؤمن بالقانون ، ومحاميا يؤمن بالمهنة ، والمحامي الرابع

فالأول الذي يؤمن بالحق ويستيقنه في قضيته ويتطوع للدفاع عنه وإن لم يملك من الأسباب الظاهرة ما يؤيده ، وإن كان القانون لا يظاهره ، وإن كان يعرف بديا أين وسائله من وسائل خصمه ، وأين رأي المحكمة من رأيه ؛ فهذا محام !

والثاني الذي يؤمن بالقانون ويحسن تطبيقه حرفا حرفا ومادة مادة ، فيتكلف للقضية ويتهيأ فيها للدفاع أو للدعوي على أساس مواد القانون ، لا يعنيه اين يكون الحق ما دامت الأسباب الظاهرة تؤيده ، و " مواد القانون تظاهره والميزان الذي نصبته الحكومة للعدالة يرجح بقضيته فماله فى قضايا الناس ميزان غيره ؛ وهذا محام يختلف إيمانه بمعني العدالة على اختلاف القوانين ، ويتراوح بين الإيمان والكفر علي قياس ما تثبت القوانين أو تتغير

والثالث الذي يؤمن بمهنته ، ويعرف أن منطوقها ومفهومها ان " يحامي  و أن " يدافع " وان يلتمس أسباب الغلبة بكل سبيل ، وان يعد لكسب القضية كل وسيلة ، وأن يلزم نفسه الإيمان بما لم يكن يؤمن ، وان ينكر ما قد يكون عنده حقا إن كان ذلك يؤدي إلي غاية ، وأن يتنكر  للقانون ويسفه منطقه إن بلغ به ذلك مبلغه ؛ وبالجملة : أن يعد نفسه في دعواه أو في دفاعه  ليكون هو نفسه برهان قضيته ولا برهان لقضيته شئ غيره فهذا المحامي الثالث !

وأما الرابع .

قال محامي وصديقي : وأما الرابع فإني اعرفه وإن اجتهد الا يعرف ، على انه يوشك ان ينقرض بين هذه الطائفة الكريمة ، ولكن قل لي : لماذا تحدثني هذا الحديث الساعة ؟ أتريد أن تطيب نفسي علي ما سببت من خسارتي قضيتك

قلت : لا ، ولكنه علم  حصلته أحببت ألا يفوتك شئ منه !

قال : أفرأيت هذا في المحامين وحدهم وانتم معشر الكتاب

قلت : صه ، أتريد أن تجعلها قضية ؟

وضحك وضحكت ، وعدت أسأل نفسى : أي أولي بالاعتبار والتقدير الحق أم القانون ؟ وأجابني مجيب : بل ضمير القاضي

وحيا الله القاضي الفاضل الأستاذ ح.ج ، فلولا حديثه الممتع ما ذكرت هذا الحديث ولا خطر لي بعد في بال .

وددت لو كانت احاديثه دروسا تلقي علي طلاب القانون في كلية الحقوق ، إذن لعرفت اين مكان " المحكمة المصرية " من نفوس المتقاضين جميعا بعد جيل !

فن النقد

وسألني سائل : أقرأت مقالة الأستاذ أ . أمين في العدد ٢١١ من الثقافة عن كتابي " الصديق أبي بكر " " عبقرية عمر فأين رأيك من رأيه ؟

قلت : ولكني لم أكتب رأيي ولا أحسب أحدا يعرفه ، فكيف قلت

قال : ولهذا سألتك ؛ فأنت في هذا المكان منذ عام كامل قد وعدت قراءك وعدا ان تتناول في باب الصحافة والأدب كل ما تخرجه المطبعة العربية مما يستحق العرض والتعليق ، وما أراك وفيت بشيء مما وعدت إلا هذه النقدات التي تبجل  بها من تشاء وتعفو ؛ فأين أنت وقد مضي عام  .

أليس قبيحا أن يظهر في السوق كتابان مثل الصديق أبو بكر " و عبقرية عمر إلي كثير من امثالهما فلا يعرض لهما كاتب برأي إلا كلمات عابرة في صحيفتين أو ثلاث ، وإنها جميعا لتشبه ان يكون الدافع عليها مكانة المؤلفين من الأدب والسياسة والاجتماع لا مكانة الكتابين وإنهما لكتابان ؟

ليس يكفي لمكانة هذين الكتابين العظيمين أن يكون كل ما يستحق القراءة مما كتب عنهما كلمة يكتبها  الأستاذ أ. أمين ، وإني لأحسبه قد أجاد وانصف ولكن الكتابين لم يزالا يطلبان حقهما على الأدباء من القراء وعلي المنصفين من النقدة ؛ واحسبك بما وعدت قبل مسئولا عن كثير من هذا التقصير !

وصديقي محق فيما ادعي ، وإني لأذكر ما وعدت قرائي في هذا الباب عند عام وما نعيت على الكتاب والنقدة فينالني الأسف ، على أنني كنت  على النية والقدر يتربص بي ، فما كدت امضي فيما اخذت نفسي

به حتى وجدتني لفي علي الطريق لا يمد احد إليه يدا ، فسعفت ما كان شهيا إلي وانصرفت عن نفسى وعن الناس

وإني لأعلم - كما كنت أعلم قبل - أين يقع النقد الصادق من نفوس الكتاب والمؤلفين في مصر ، وإنه لينشيء عداوات ويؤرث بغضا ، وما أنا في حياتي الراهنة بالرجل الجلد علي احتمال شئ من ذلك ولا بي طاقة عليه ، وما لي نافذة استروح منها نسيم الأنس والمحبة غير هذا الباب ؛ فمن اين لي إذا ثار الغبار وانعقدت عجاجته فسدت هذه النافذة ؟

علي أني قد رأيت - وما صنعت جليلا كيف

عاداني كثير ممن كنت أحب لان كلمات تتناولهم من بعيد أو من قريب في بعض ما كتبت من هذا الباب ؛ وما أريد أن أسمى أحدا ، فكيف لو وفيت بكل ما وعدت !

أنت معجب يا صديقي بكلمة الأستاذ أ. أمين عن كتابي هيكل والعقاد ، وإنني لمعجب ؛ فهل تضم صوتا إلي صوت لنطلب إليه أن يجعل النقد بابه في هذه المجلة ؟ . لقد فسدت موازين الناس في هذا الباب فليس يصلحها إلا إمام كبير يملك الرأي والجاه والكياسة ولا تناله التهمة ولا تنال منه ؛ وإني لأراه بكل ذلك يصلح أن يكون

اشترك في نشرتنا البريدية