لا مركزية بيوت الطلبة - بين العقبة وعمان ،
لا مركزية
قالوا : لا مركزية في التعليم ، فما ينبغي أن " تتركز " السلطة جميعا في يد وزارة المعارف ، فتدير المدارس جميعا على نظام واحد ، وفن واحد ، وإن حاجات المناطق لتختلف ، وإن ألوان التعليم لتعدد ، وإن لكل معلم فنه ، ولكل فن نظامه
قلنا : هذا حق ، فاصنعي صنيعك يا وزارة المعارف لنري . .
وصنعت وزارة المعارف صنيعتها ، فقبضت قبضة من كبار رجالها فبعثرتهم في الأقاليم ، وقالت : كونوا رؤساء ،
وكونوا مديرين ، وكونوا إرادة مستقلة في الفن والإدارة ، وكونوا مراكز علمية في كل مركز ، وكونوا سلطة إدارية في كل إقليم . . فماذا كانوا ؟
قالوا : وتفرق الرؤساء في المناطق ، وزعم واحد منهم لنفسه ان من حقه ان يجدد ويبتكر ، فابتدع نظاما ووضع خطة ورسم نهجا ، وكتب إلي الوزارة يسألها الرأي فأجابت ، وكان جوابها صريحا قاطعا : " ليس لك ان تبتدع في النظام والخطة والمنهج ؛ ذلك حق الوزير والوكيل والمراقب العام ) "
وانهار ركن من أركان " اللامركزية " في الفن ، وظل التلميذ في مدرسة " أسوان " يدرس على مثل نظام زميله في مدرسة " رأس التين " !
وقال رئيس آخر لنفسه : لا بأس ، فليكن للوزارة ما تريد في النظام والخطة والمنهج ، ولا علي أن انظر في غير ذلك من شئون الإدارة وطرائق العمل ؛ إن ذلك جدير بأن يحقق غرضا عظيما من أغراض " اللامركزية " والسلطان درجات
وكتب إلي مرؤسيه يأمر وينهي ، ويقترح ويمنع ويمنى ويوعد ، وحان ميعاد الجزاء والمثوبة ، فلما هم بما وعد كتبت إليه الوزارة تقول : ولا هذا ؛ إنما انت عين لابد ، فليس لك ان تمنح او تمنع ، فإنما ذلك إلينا ، وما عليك إلا أن تري وتصف ، ثم تنفذ ما يأمر به الديوان
وانهار ركن من أركان " اللامركزية " في الإدارة كذلك ، وظل الديوان الصغير " في طنطا صورة من " الديوان الصغير " في أسيوط ، لو حل واحد هنا محل واحد هناك لما اختلفت طريقته في العمل بين هنا وهناك
ورأي ناظر مدرسة ما يتعرض له التلاميذ الغرباء في مدرسته من سوء العيش واختلال الحياة ، فرأي رأيا ينقذهم به من التعرض لفساد العيش والخلق ، فلم يملك من
وسائل التنفيذ إلا أن يكتب إلى " مراقب المنطقة " . وكتب مراقب المنطقة إلى " المراقب العام في الديوان ، وكتب المراقب العام إلي " وكيل الوزارة ، وكتب وكيل الوزارة إلي " الوزير "
ورأي الوزير رأيه فكتب به - غير وانٍ ولا متريث إلي الوكيل ، وكتب الوكيل إلي المراقب العام ، وكتب المراقب العام إلي مراقب المنطقة ، وكتب مراقب المنطقة إلي ناظر المدرسة ، فما بلغة الكتاب إلا والعام الدراسي في اخرياته والطلاب الغرباء علي اهبة الرحيل إلي أهليهم . .
وآل نظام اللامركزية إلي أن يكون محطات يقف بها ساعي البريد من مرحلة إلي مرحلة إلي مرحلة ؛ وظلت السلطة الفنية والعلمية والإدارة " متركزة " في يد الوزير والوكيل والمراقب العام علي بعد المسافة وطول الشقة ووعثاء ، الطريق . . !
أمن أجل ذلك أنشئ نظام اللامركزية في وزارة المعارف . . أم هي أسماء علي أضداد ؟
وبلغت " التجربة " غايتها وأذنت بالإخفاق ، فأقر وزير المعارف قراره والغي منطقة أو منطقتين ، وأمل بافي المناطق سائرة على الأثر ، فينتهي هذا النظام
جميل من وزارة المعارف أن تفكر في إلغاء هذا النظام ، فليس من حقه ان يبقى بعد وما تحققت به فائدة ولا أتي بنتيجة ؟ ولكن من الخطأ أن يتوهم متوهم أن هذا النظام هو " اللامركزية
إنما يتحقق معني " اللامركزية " ويؤتي ثمرته يوم يستقل كل رئيس في منطقته بالفن والمنهج والإدارة ، ويستقل كل ناظر في مدرسته بالرياسة والسياسة والتوجيه ، ويستقل كل معلم بين تلاميذه في الكتاب والخطة والطريقة ، ويستقل كل تلميذ في درسه بوسائله ومرجعه وطريقته في التحصيل والتجربة
اللا مركزية هي الاستقلال والإرادة العاملة النافذة ؛ فهي عبث وضلال حين يفرض كل معلم على كل تلميذ كتابا يعينه في مادته لا يأذن له ان يستبدل به غيره وهي عبث وضلال حين يفرض المفتشون جميعا على كل معلم طريقة بعينها في تدريسه لا يسمحون له ان يتجاوزها ؛ وهي عبث
وضلال حين لا يملك ناظر المدرسة أن يمنح " المجانية " من يشاء من تلاميذه النابهين ويحرمها غيره من الكسالى والمتبلدين ؛ وهي عبث وضلال حين لا يملك " مراقب المنطقة ان يرقي مدرسا احسن أو يخفض مدرسا اساء ؛ وهي عبث وضلال حين يقوم في وهم احد من القائمين عليها ان معنى اللامركزية هو تقسيم هذه " المناطق وإنشاء هذه " المحيطات ليقف بها " سعاة البريد " !
ويسألني سائل : و تضمن لي ان تعد بين رجال التعليم عديدا تسمح لهم كفايتهم وإيمانهم بفنهم وبأنفسهم ان يحملوا تبعة هذا الاستقلال ليقوم نظام اللامركزية على ما تريد ؟ ؟
ويمنعنى الحياء ان اجيب . .
بيوت الطلبة
ذكرت في هذه الآيام ما كان من شأني وأنا طالب في القاهرة منذ بضع عشرة سنة ؛ كنت يومئذ فتى فى باكر الشباب لم أفارق أهلي قبل ولم يفارقوني ؛ فلما حان موعد رحيلى عنهم إلي القاهرة لاتمم ما بدأت من العلم وأتروود للغد ، دمعت عيناي . . ولكني كنت فرحا ،
لأني كنت مقبلا على حياة جديدة ، وحسبك بها من حياة ، وبما يتراءي من أخيلتها وأوهامها لفتي في الثامنة عشرة لم يذق قبل لذة " الاستقلال ولم يحمل تبعته !
وبهرتني أنوار المدينة - وكانت يومئذ ذات أنوار - فمضيت انتقل في مرائعها واستنشي شذاها ، يوما ويوما وأياما ، فلم أشعر بالوحدة ومرارة الاغتراب إلا بعد أسابيع . .
وأويت إلي ركني وحيدا أدبر أمري وأعد ما معى وأحصي حاجاتي ، واستطعت بعد لأي ما أن أوازن بين
الدخل والصرف من غير أن أثقل على أهلي بطلب علاوة ، ولكن علي حساب ايامي وساعات درسي . . وعلي حساب اعصابي
اين أتناول فطوري ؟ ؟ هذا أمر صعب التدبير ، ما ايسر على طالب غريب ان يغدو على مدرسته بلا فطور ، إن احتمال الجوع ساعات اخف عليه من الجلوس إلي الطعام وحيدا بين أربعة جدران ، ومن الغدو علي مطعم عام في بكرة النهار !
وأين أتناول عشائي ؟ . وهذا أيضا أمر صعب التدبير ؛ فان نفسي لتهفو إلي لون من الطعام ليس في هذا المطعم ، ولا يحسن صنعه ذاك المطعم ، وقد تناولته ذات مساء في ذلك المطعم فغنيت نفسى ليلة بحالها وعقت الطعام يومين !
وقد تقذرت ثيابي ، فمن يغسلها ويكويها ويعدها لى نظيفة انيقة على المشجب في الحمام ؟ وهذا اصعب الجميع ؛ فإنه لآهون على أن اشتري ثيابا جديدة فألبسها بشوكها من أن أفكر في الغاسلة والكواء
وهذا فراشى ، وهذه حجرتي ، وهذا متاعي ، وتلك حقيبتي ، وهؤلاء الضيوف من اصدقائي ، واولئك الجارات والجيران...........
يالها مشاكل
وضقت بالمدرسة ، وبالبيت ، وبالحياة ، ولم يمض علي في القاهرة إلا شهر وبعض شهر ؛ ولكني تجملت بالصبر .
وأتخذت زميلا ، واصطنعنا خادما يسقينا ويطعمنا ويمهد لنا الفراش ؛ ومضى اسبوع ، أو أسابيع ، وأوشكت أن أسئ الظن يزميلي وأوشك . . حين افتقدت ثيابي ذات يوم وافتقد بعض ثيابه ؛ وزعم الخادم انها طارت من الغسيل فوق سطح الدار ، والطريقة نفسها طارت من جيبي ومن جيب زميلي نقود
وطردنا الخادم اللص لنصطنع خادمة عجوزا ، فما أقامت بيتنا إلا أياما ثم ودعناها بسلام ، خشية أن ينالنا
ما قال صديقا لنا كانت تخدمه قبلنا فلم تتركه إلا منهما بريبة ! إني لا ذكر اليوم تلك السنين التي مرت بي في
القاهرة منذ بضع عشرة سنة فأسأل نفسك أكذلك يعيش كل طالب غريب ام هي كانت حياتي وحدي
وإني لأذكر إلي ذلك أصدقاء أعرفهم عرفاني بنفسي واذكر ما كانوا يصفون لي من حياتهم ، ما يسر منها وما يسوء ؛ واعرف لهم حادثات هي جزء من تاريخهم يوم كانوا ، وهي الوان من حياتهم إلي اليوم وإلي الغد ، لأنهم كذلك تلونوا منذ كانوا
ذكرت ذلك كله في هذه الآيام وقد قرأت ما نشرت الصحف في هذا الأسبوع عن بيوت الطلبة في القاهرة وفي الإسكندرية وفي قنا ، فتمنيت امنية
ليست هذه مهمة وزارة الشئون الاجتماعية وحدها ، ولكنها مهمة وزارة المعارف قبل ؛ إن وزارة المعارف لا تتسع شيئا إن كان كل ما تصنعه للطالب هو ما تصنعه في المدرسة ؛ إن عليها ان تعرف كيف يعيش كل طالب ، وكيف يأكل ، وكيف ينام ، وكيف يقضي وقت فراغة !
لن يصنع العلم شيئا للتميذ إذا فسدت نفسه بسوء العشرة ، أو ساءت صحته بسوء التغذية ، أو فسد ميزانه العصبى بسوء التصرف في أوقات فراغه
ومن أين للتلميذ أن يتقن عمله وإنه لمشغول الفكر والقلب بأشياء لا تتصل بدرسه وعمله ؟
وددت لو كان حقا ما سمعت ؛ إذا لرأيت كثيرا من تلاميذنا في حياة اجتماعية تبنيهم بناء جديدا للغد المأمول ، وتعدهم إعدادا صحيحا للمستقبل المنتظر ولكنها امنية
بين العقبة وعمان
بين العقبة وعمان مواقع اقدام النبيين من عهد موسي ، ومعالم آثار البطولة منذ رحلة بني يعقوب ، وجند سليمان ، وغزاة الرومان ، وقادة العرب وان لها ذكرا في التوراه والإنجيل والقرآن ، فكم رجلا في مصر جثم نفسه أن براها وإنها من مصر في مشرق الشمس كل صباح ؟ .
سؤال سألته نفسى وقد قرأت ما كتب الأستاذ الدمرداش محمد في العدد ٢٠٤ من الثقافة عن رحلته إليه منذ سنين ؛ وإني لأعيد السؤال ثانية وفي نفس معان شتى ؛ فما اعرف بلدا كمصر يقذفه الم كل يوم بألوف من الغرباء بجوسون خلاله او يتخذونه طريقا في رحلاتهم إلي الشرق والغرب فلا يحرك الغيرة واحدا من أهله او تدفعه
إلي شئ من الرحلة في طلب العلم أو طلب المتاع . . فلولا طائفة من الرواد لم يشغلهم ما يحملون من تبعات الحياة عن التماس وسائل الكشف والرحلة كلما انفسح لهم الوقت ، لما عرف مصري اين هو من جيرته وأهله في الشرق القريب .
والرحلة معرفة ولذة ورياضة للنفس والجسد ، وإن سطرا تخطه الريح السافية على صفحة الرمل في الصحراء لأبقي اثرا في العقل والقلب والخلق من كل ما يسطر العلماء في الكتب والموسوعات !
كانت وزارة المعارف تعلم ! . بلى ، إنها لتعلم ؟ فماذا عليها لو جعلت في مناهج التعليم دروسا يتلقاها التلاميذ عن الطبيعة في رحلات مفروضة على كل تلميذ مرة أو مرتين في العام ؟
لماذا لا يحاول أن تستفيد من هذه العطلة الطويلة التي يفرضها الجو على التلميذ المصري وتمنع مضرتها برحلة مفروضة عليه يفيد منها ما لا يفيد طول العام من المعلم والكتاب والنظام المدرسي الصارم ؟
ومن ذاق لذة الرحلة مرة فقد أمن الضلال والمتاهة على طول الحياة
