الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 232الرجوع إلى "الثقافة"

الصحافة والأدب في أسبوع :

Share

"...هذا رأيى ، وعلي تبعته وحدي ... ..." عبد الحميد الديب ! - الصحيفة المصرية - العاقل المتوكل ! - قانا صلصفا - رسائل الرافعي ... ... ...

عبد الحميد الديب

مات عبد الحميد الديب !... ... و لعته " الأهرام " إلي قرائها في صباح الخميس الماضي أكرم منعى وفسحت صدرها للقائلين فيه ؛ فلو كان شئ في هذه الدنيا ببعت البيت من رقدته فينبض قلبه نبضة الفرح والرضا بما لم يكن يأمل أو ينتظر ، لخفق قلب عبد الحميد الديب في مرقده فرحا ورضا بما نشرت الأهرام غداة منعاه ...!

وظفر الشاعر اليائس ميتا بما لم يظفر ببعضه حيا ؛ وتلقي عارفوه نعيه - وليس في مصر من ينكره - آسفين محزونين ، وجاد كل قائل منهم بمقال يؤتيه ويذكر ما كان من إملاقه ومسقبته وعرب به وينكر على مصر ما صنعت به ، كأن لم يعرفه قائل منهم إلا يوم منعاء ! وغامت برهة على وجوه اصحابه غيمة من الهم والأسي ، ثم أخذوا في حديثه وفي خيره فاكهين ؛ وماذا يذكر الذاكر من حديث الديب ومن خبره إلافكاهاته ونوادره ؟ لقد كان - رحمه الله - فكاهة حزينة في كل مجلس ، وابتسامة عابسة على كل شفة ، ودمعة ضاحكة في كل عين !

لقد عاش ما عاش في الكرب والضيق ، وفي الإملاق والجوع ، وفي العرى والحفا ؟ فهل كان عند الناس في كربه وضيقه ، وفي إملاقه وجوعه ، وفي حفاء وعربه - إلا سببا إلي إفراحهم ومسراتهم ، ومادة لتسليتهم وسمرهم ؟ . . وهل كان منعاء الباكي إلا مبعثا للذكريات

الضاحكة ؟ . . وتشابه أثره في الناس حيا وميتا ! . .

وكان شاعرا ملء نفسه ، فإنه ليستشعر كل معاني الحياة من حوله بكل ما في نفسه من " إحساس الحرمان " فكأنما عزت عليه الحياة مادة لتمكنه من نفسها إحساسا وفكرا وقوة شعور ؛ وكان من قوة الإحساس بالحياة في نفسه كأنما يملك منها ما لا يملك حي من الأحياء ؟ ومن ذلك كان شعوره المضاعف بما هو فيه من الحرمان ، وإسرافه في الاستمتاع بكل ما يمكنه من لذائذ الحياة ، ومن هذا الشعور المضاعف بالحرمان ، وهذا الإسراف الجارف في الاستمتاع بالحياة - كان شعره ، وكان به شاعرا ملء نفسه ، صادق التعبير عن كل ما في نفسه

وكان علي مقدار إيمانه بالحياة كافرا بالناس ؛ فلم يكن يبالي أحدا أو يحذر شيئا ؛ وأعانه ذلك على صدق الشعور ، وصدق التعبير ؛ حتى لتكاد تجزم أن ذلك الشاعر هو ذلك الشعر ، اقرأ شعره كله تعرف خيره كله وترمي صورته !

ولكن أين شعره ، و منذا يستطيع أن يجمعه ، ومن ينشره إن استطاع جمعه ، ومن يسبقه كله إن جرؤ تناشر أن ينشره ؟ .

إننا لنتبذل في حياتنا الخاصة تبذلا ننكر مثله علي غيرنا ، بل ننكره على أنفسنا ... فأين من يستطيع في هذا الجبل أن يخرج علي " آداب النفاق " في هذه الجماعة فينشر ديوان عبد الحميد الدين كاملا لا يستر شيئا من عوراته أو يكتم شيئا من مبادلة ؟ .

لست أدعو إلي شيوع الفاحشة ولكني لا أسوغ النفاق على التاريخ ! أكان هاتف من وراء الغيب يملي علي القول يوم كتبت في هذا المكان منذ بضعة أشهر عن آخرة الشاعر  البائس عبد الحميد الديب (١) ؟ ...

وحسده من حسد يوم النفت إليه وزير الشئون الاجتماعية فرتب له " وظيفة " ولم يخل على

الموت من الحسد يوم نعمته " الأهرام " إلي قرائها أكرم متسعي ، وقال القائل . أكان يحلم بذلك عبد الحميد الديب ؟  ...فلعل حسد الحاسدين عند الله يكون كفارته عن معاصيه !

الصحيفة المصرية :

كتب إلي من كتب يقول : " . وكأنك في جملة ما كتب عن الصحافة المصرية تنكر ما بلغ " الفن الصحفي " فى مصر ؛ وإنك بذلك لتتجني علي الحقيقة وتنكر الشمس في ضوء النهار ... وقد بلغت " الصحافة المصرية " من قوة الفن في أمد قصير ما لم تبلغ صحافة في الشرق كله ، بل إن من الصحف المصرية ما بعد نموذجا فاخرا في الفن يقاس إلي أرقي الصحف في الغرب ويدل على مدي تفوق الصحافة المصرية وسبقها ، فتتكيف تأني لك أن تنكر كل هذا ؟ ..."

وأنا فلست انكر شيئا من هذا الذي كتبه الكاتب ، ولم أعرض يوم عرضت للصحافة من حيث " الفن " ولكن من حيث " الموضوع " ...

... بلى ، ليس في مصر صحيفة مصرية من حيث الموضوع ، تصور مصر الحاضرة شعبا وفكرا ، وترمي في جهادها للمستقبل إلي هدف وغاية ؛ أما في الفن فنعم ولكن ماذا ينسني فن الصحيفة وقد بلغ الغابة إن كانت الصحيفة نفسها تعمل بلا غاية ؟ ... نريد أن نتفق بديا على معنى الصحافة ورسالتها : أهي فن من ترف الحياة ، أم جهاد للنفع العام ؟ ... إن كانت الأولى فهي شئ في غير أوانه ، أو في غير موضعه ؛ وإن كانت الثانية فالرأي ما رأيت وما قلت ، وليس في مصر صحيفة مصرية ، لأنه ليس في مصر صحيفة تعبر عن حقيقة مصر الحاضرة وعن أمانها المستقبلة!

ماذا في هذا من التجنبي علي الحقيقة ؟ ألا ما أشبه هذا الفن بالنقش على تابوت الميت : إنه

فن ، ولكنه على تابوت ميت ! أرأيت لو أنك ذهبت إلي صيدلي ليجهز لك دواء لمريض على حافة الموت ، فأغفل شأن الدواء وتركيبه وقدم إليك قارورة ينعكس على زجاجها سبعة ألوان الطيف - أكان يغنيك ما في القارورة من جمال الفن وعامة عن دوا المريض المشرف على الهلكة ؟... ... ...

وليس في افكاري وجود الصحيفة المصرية معني يحمل على الموازنة بين صحافة في مصر وصحافة في الشرق ؛ فأملي أجد الجرأة على أن أقول إنني لم يخطر لي قط في بالي أن يكون في بلد من بلاد الشرق صحيفة أمتثل مثالها حين أنكر على الصحافة المصرية ما أنكر ؛ فليس ثمة وجه المفاضلة والتنظير ، وليس يعيب ذلك بلدا من بلاد الشرق وأنا أنكر عليها ما أنكر على مصر أخيها الكبرى !

وما زلت أقول أسفا : إن مصر لم تزل في حاجة إلي الصحيفة التي تصور مثالها وتمتثل أمانيها ، وإلي الصحفي الذي يعرف غابته كما يتقن فيه ، أو أكثر مما يتقن فنه !

العاقل المتوكل !

كتب محرر " المصور " في العدد ٩٧٢ من مقال عنوانه " بعد النظر " يقول :

"... ولكن محمدا صلى الله عليه وسلم قال : " اعقلها وتوكل ! " ومعنى هذا أنه واجب على كل فرد أن يعمل ويفكر ويدير ، ثم يتوكل علي الله ..."

ويبدو أن الكاتب لم يفهم قول النبي " اعقلها " وفسرها تفسير العامة بمعني " التفكير والتدبير " وليس ذلك خطأ ذا بال ، ولا هو مما يرجي أن يعصم منه مثل محرر المصور ، ولكنه حديث كريم ، وليس بعسر على أحد أن يرجع إليه في مظانه من كتب السنة ليعرف القصد منه حتى لا يتورط في خطا أفحش ؛ ولهذا الحديث قصة امله لو عرفها لوجد فيها فكاهة ولها مناسبة ... ... على أني لم أعقب هنا علي هذه الكلمة لأصوب

خطأ ، وإنما ذكرت شيئا بشيء ؛ ذكرت أن ذلك المحرر نفسه كتب منذ بضعة أشهر بعيب خطيبا من وزراء الدولة لم يعجبه أسلوبه " لأنه كان أسلوب الجاحظ وعبد الحميد الكاتب والحريري ..." إلي آخر ما قال يومئذ ...

وذكر هؤلاء الأعلام الخالدين من أدباء العربية في مثل هذا المقام لا يعدو أن يكون نوعا من " التعالم " - أعني ادعاء العلم - لبوهم قراءة أنه يعرف هؤلاء الأعلام بأساليبهم وخصائصهم الأدبية ، وليس يعنيه في سبيل هذا " التعالم " أن يسيء إلي الحقيقة أو إلي التاريخ ؛ ومن هذا الباب ما جاء في حديثه اليوم من تفسير الحديث الكريم ؛ فما أراء قد جاء به إلا لذاك !

قاعا صفصفا ...

وهذا " متعالم " آخر كتب في باب أخبار المسارح من آخر ساعة - العدد ٤٥٢ - يقول :

" في أحد الأيام عاد أحد الموسيقيين إلي منزله فوجده قاعا صفصفا كما قال شاعر عربي بإنخ لا أذكر اسمه ... ..."

وهذا " المتعالم " الثاني يوهم قارئه أنه يعرف ذلك الشاعر الذي أعاره وصف " القاع الصفصف " ، وأنه قرأ له فيمن قرأ ، وأن له من قوة الإدراك الأدبي ما يتيح له أن يحكم عليه بأنه شاعر " بإنخ " ؛ فهو " تعالم " يتدرج في ثلاث مراتب ... أو هو جهل مركب من ثلاث طبقات ؛ لأنه جهل ، وكذب ، وسوء ادب !... فلم يرد هذا الوصف العجيز في كلام عربي غير قوله تعالى في سورة طه : " ويسئلونك عن الجبال ، فقل ينسفها ربي نسفا ، فيذرها قاعا صفصفا ، لا تري فيها عوجا ولا أمتا " .

فانظر كيف أساء الأدب ، وكذب ، وكشف عن جهله ، لغير سبب إلا دعوى العلم على المساكين من عامة القراء !

ماذا نسمى ذلك اللون من " فن " الصحافة ؟ أذلك ما عداء ذلك الكاتب الذي كتب إلي يقول ... ماذا قلت وماذا قال ...؟

ليت الذين يعيبون على رأيى في الصحافة المصرية يعرفون عمن يدافعون ؟

رسائل الرافعي

في العدد ٥١٦ من الرسالة كلمة للأستاذ محمود أبو رية يقدم بها لنشر مجموعة من الرسائل كتبها إليه المرحوم مصطفى صادق الرافعي في طائفة من الشئون الأدبية العامة بين سنتي ١٩١٢-١٩٢٧ ؛ ولست أتعجل فأستبق الحكم على " موضوع " هذه الرسائل قبل نشرها ، وإنما يعنيني هنا أن أنوه بهذا العمل ، فإن نشر الرسائل الخاصة بعد موت أصحابها باب جديد في اللغة العربية ، وقد كان جديرا بأن يفتح منذ بعيد ، لولا بعض الترست في آدابنا الاجتماعية ؛ ولقد يعترض معترض على مثل ذلك محتجنا بأن الرسائل الخاصة إنما كتبها كاتبها ليقرأها فرد واحد ؛ فلها من الخصوصية معني لا يتيح إذاعتها على الناس عامة ؛ وهو اعتراض له وجه من الحق ، ولكن حق العلم والتاريخ أقوي منه وألزم ؛ وليس على التاريخ سر !

ولقد تكون حجة المعترض أن هذه الرسائل - وإن كان كاتبها قد صار ملكا للتاريخ - قد تحتوي علي معلومات وأشياء لها صلة ببعض الأحياء من المعاصرين ، فليس ينبغي التعرض لهؤلاء الأحياء قبل أن يلزمهم حق التاريخ - وهي حجة قد يكون لها سناد من آدابنا الاجتماعية ، ولكنه سناد لا يجعل حقها أكبر من حق العلم ، ولأن يقال القول في وجه الحي وهو يملك الدفاع والرد ، خير من أن يرمى به وهو مدرج في أكفائه لا يملك دعما ولا ردا ... والمرء في خلوته أصدق منه بين الناس ، فلا جرم أن يكون - على هذا القياس - في رسائله الخاصة أصدق حكما منه في رسائله العامة ، وأصدق دلالة على نفسه .

لقد ضيعنا حق التاريخ في كثير مما فرضت علينا الآداب الاجتماعية كتمانه ؛ فما أجدر أن نخرج من هذا التوفر المصنوع شيئا بعد شئ إن كنا نؤمن بفضيلة الصدق ويحق التاريخ !

اشترك في نشرتنا البريدية