حملتك الأمواج غصنا من الأر ... ز كسيراً يفوح منه العبير
فتعاليت فى الجلاد صبوراً ... علم الناس كيف يحيا الصبور
وتراميت من سما المجد صقراً ... علم الدهر كيف تفضى الصقر
فليكس فارس
عزيز على النفس أن تتحدث عنك ميتاً، وقد كنت (بالأمس) ملء القلب، ملء الفؤاد، ملء السمع والبصر ملء هذه الحياة الفارغة. . .
انطوى هذا الفكر الوقاد، وانطفأ هذا القبس اللامع، وانحبس هذا الصوت الرنان، وثوى العبقرى الثائر فى رمسه، وفى قلوب صحابه آهة عميقة وفى أعينهم عبرات حرى
هذا النغم الحادي كان حلواً تتطرب له النفس! هذه النفس العالية كانت طيبة رفافة لم تشبها نزوة من نزوات الكبرياء!
هذا القلب كان كبيراً. . . كبيراً لم تفسده ثرهات الحياة! ففى ذمة الله أيها النغم الحادى، وأيتها النفس العالية، وأيها القلب الكبير!
فليكس فارس! هذا هو الرجل! أخ العلم من كتاب الحياة فما تشرّب روح المدرسة، وفى المدرسة عسف وظلم، وفيها إغضاء عن النبوغ الفطرى، وفيها كَبْت للمواهب المتأججة، فسما بنفسه، وعلا بروحه، وتفتح الكمْ
عن زهرة يانعة وهو ما يزال عند التاسعة عشر، شاباً ريْق الشباب وفتى غضّ الفتوة؛ فدخل المدرسة - أول ما دخل - أستاذاً للبيان العربى فى مدرسة عبية؛ ثم لمعت أول مقالاته الأدبية فى جرائد سوريا ولبنان.
وأعلن الدستور العثمانى سنة ١٩٠٨ فتدفق البيان على لسانه، وتراءى خطيباً تتقطع دون بلاغته ألسنة الخطباء، فتألق نجمة. ثم ألقى عن نفسه عبء التدريس ليخوض غمار السياسة عضواً فذاً فى جمعية الاتحاد والترقى العثمانية، واختارته لجنة سالونيك - بعد حين - ليكون عضواً عاملاً فيها يؤسس الجمعيات الدستورية فى أرجاء البلاد.
وجرفته السياسة فى تيارها فأصدر جريدته (لسان الاتحاد) تتحدث عن نوازع نفسه، وآمال قلبه فى السياسة والأدب جميعاً. ثم. . . ثم عُيّن أستاذاً للخطابة والأدب الفرنسى فى المدرسة السلطانية بحلب.
واستعرت نار الحرب العظمى فما برح مكانه حتى دخل الجيش العربى البلاد فتخيرته الحكومة الهاشمية سكرتيراً لحكومة حلب، ثم مديراً عاماً لإدارة حصر الدخان، فما شغله المنصب عن أن يقوم - بين الفينة والفينة - خطيباً يدعو إلى الوحدة العربية وإلى رفض الانتداب الأوربى
وفي سنة ١٩٢٠ أبحر إلى أمريكا يطلب إلى المهاجرين من بنى وطنه العودة إلى بلادهم، وقد عزّ عليه أن ينأى جماعة من أفذاذ قومه عن ديارهم أحوج ما تكون إليهم، وفيهم العالم والصانع والتاجر، فقضى سنة يضرب فى أنحاء أمريكا يخطب المهاجرين بالعربية مرة وبالفرنسية أخرى، علّهم يثوبون؛ وهناك تعرّف إلى أعضاء الرابطة العربية جميعاً ووصل بينه وبينهم برباط من المحبة، وتوثقت بينه وبين جبران خليل جبران العبقرى الفنان صلات من الهوى والصداقة.
وعاد إلى لبنان وفى خياله أن يستطيع أن يقنع الجنرال بيرو المندوب السامي الفرنسى بوجوب التفاهم مع العناصر الوطنية، وتشجيع المهاجرين على العودة إلى وطنهم. ومال الجنرال بيرو إلى رأي الأستاذ غير أن الحكومة الفرنسية رأت أن ترسل الجنرال فيجان ليشغل منصب الجنرال بيرو. . . فانفجرت الثورة وتطاير شررها هنا وهناك، ولكن اليأس لم يجد طريقه إلى القلب الكبير. . . قلب الأستاذ فليكس، فراح يكتب إلى صديقه المسيو جوسران سفير فرنسا فى واشنطن، وإلى ذوى المكانة العليا
فى فرنسا، يكشف لهم جميعاً عن خطل السياسة الفرنسية فى بلاده؛ غير أن صرخاته ذهبت نهب الرياح، فكبر عليه أن يعمل مع حكومة تسير على مبدأ لا يقره، فنبذها جانباً، ولبس ثوب المحاماة.
وفى أواخر سنة ١٩٣٠ عين رئيساً للتراجمة فى بلدية الإسكندرية فترك بلاده ومهنته ليستقر فى الوطن الثانى الجميل. . . فى مصر، وليجد هنا أصدقاء أحباء يعوضونه ما فقد فى وطنه الأول
تلك لمحة عاجلة عن حياة الأستاذ الفقيد فيها عظة وحكمة
لم يكن للأستاذ فليكس أن يكبح جمحات نفسه، بعد إذ لمس الإخفاق فى وطنه الأول، وهو قد هبط وطنه الثانى شعلة من نشاط تتقد، فاندفع يتعرف على جماعة من أدباء هذا المصر. . . ثم قرأ للأستاذ الزيات - أطال الله عمره - وجمع أعداد (الرسالة) لا تفوته فيها شاردة ولا واردة؛ وعكف دراسة أدب الرافعى -
رحمه الله - حين استهوته مقالاته فى (الرسالة) ؛ وترجم له مقالته (رؤيا فى السماء) إلى الفرنسية وعلق عليها، ونشرها هى والتعليق فى غير واحدة من الجرائد الفرنسية، وأعجب بعاهلى الأدب العربى الحديث وتمنى لو رآهما
وفى صيف سنة ١٩٣٦ تعرف إلى الأستاذ الرافعى - رحمه الله - وطلب إليه أن يزوره فى داره فى كامب سيزار برمل الإسكندرية فلبى الدعوة وأنا برفقته. . . فألفيت رجلاً هادئ الطبع، طلق المحيا، كريم الخلق، جميل الصحبة. وكان وجهه - ونحن فى داره - يتهلل بشراً وسروراً. . . وهكذا ابتدأت أول وشيجة بينه وبين أسرة (الرسالة) الغراء، ومضت أيام فإذا صوت صرير قلمه يرن على صفحات (الرسالة)
ثم انطلق يتلمس الطريق إلى الأستاذ الزيات ويستزيره فى إلحاح. وفى صيف سنة ١٩٣٧ دخل الأستاذ الزيات دار صاحبه فليكس - لأول مرة - وأنا إلى جانبه. يا عجبا. يا عجبا! إننى أرى صاحب الدار يهتز من فرط الفرح كأنه يلاقي حبيباً طال اغترابه؛ وإنه ليتراءى لى أنه يهم أن يضم الأستاذ الزيات إليه لولا هيبته. وتقدمت الأيام وفى قلب كل منا لصاحبه المحبة والإخلاص والوفاء
عرفنا الأستاذ فليكس فعرفنا فيه الأديب الفذ والشاعر الرقيق، وفقدناه ففقدنا فيه الأخ الوفى والصديق الصادق
ففى ذمة الله، وفى رحمة الله. . . يا صديقى!
