عجب أمر هذا الصديق ! كان في فتونه مرهف الحس موسيقى البيان ، وأغرم بالشعر ، فحفظ الكثير من مختار روائعه ، ونظم في حداثته قطعا أكبرها الناس وظنوا انها مثل بوا كير الرياض سوف تنفتح عن شاعرية ناصجة فياحة الأريج
ولقد نشأ صاحبنا في قرية من قري الريف ، وفي بيئة وثيقة الصلة بالدراسات الادبية والدينية ؛ ثم جمعتني وإياه المدرسة الابتدائية ، فكنت اراه كثير التطلع إلي ارتقاء المنابر ، لا تمر مناسبة مدرسية أو قومية إلا رأي فرضا عليه ان يخلدها في أبيات كانت تقابل من الناس إذ ذاك بالإطراء والإعجاب . وأدركته الحركة الوطنية وهو في دراسته الثانوية فخب فيها ووضع ، واندفع مع جمهرة الشباب من سنه في تيار الخلاف السياسي الذي تمخضت عنه حركة المفاوضات ، فكان له في نصرة الحزب الذي ينتمى إليه إذ ذاك خطب وقصائد سارت يذكرها الركبان ، ولفتت خواطره الشعرية انظار زعماء الأدب ، فطوقوا جيده بقلائد النشجيع وتنبأوا له بمكان الصدر من شعراء العصر
ولقد شاء اختلافنا في سيرنا الدراسي أن تتباعد الشقة بيني وبين هذا الصديق ، وان تنقطع عن اخباره وأشعاره مدة سنوات . ثم جمعتني وإياه منذ أيام فرصة من تلك الفرص السعيدة التي تفتح لاصحابها رحابا فسيحة من جميل الذكريات ، فإذا صاحبنا قد خلق خلقا جديدا ، وإذا هو في حيرة من أمر هذا التحول في تيار فكره وشعوره : لقد حمدت فيه جذوة الشعر ، فلم بعد يترنم كعهده أيام الصبا ، ولم تعد تهزه تلك المواقف التى كانت في سالف الأيام تسرع بخفقات قلبه ، وتعصف بميزان إحساسه ، فيفيض عنها الأربعون أو الخمسون بيتا من
رائق الأشعار . يقف الآن أمام الطبيعة وقد سفرت له اقوى ما تكون جاذبية ، وأشد ما تكون سحرا ، فيسكر بخمر جمالها ، ويقضي اللحظات الطوال خاشعا أمامها ، ويتمنى ان لو انطلق لسانه بأبيات من الشعر رسم فيها أثر ذلك الجمال في نفسه ، او يصور فيها بعض ما اضطرب له وجدانه ؛ ولكنه لا يلبث أن يدرك بعد هذه الأمنية من التحقيق ، فيعود إلى مناجاته الصامتة وسكونه العميق .
وتمر عليه الأيام والليالي في إقبالها وإدبارها ، وآمالها وآلامها ، وأفراحها وأتراحها ، فلا توحى إليه ما كانت توحي به في عنفوان الصبا من تلك النفحات القدسية التي اصطلح الناس على تسميتها شعرا .
ويسمع الكثير من قصائد شعراء العصر مما تدوى به محافل التكريم واللقاء ، والتوديع والرثاء ، فلا تثير فيه - كما كانت تثير - وجدانا هائجا ، أو انفعالا صاخبا ، أو لذة فنية واضحة
لقد تكسرت فيثارة الشعر عند صاحبنا ، وأبدلته الأيام منها براعة تأثرة تهش لعرض جوهر الفكرة أكثر مما تهش لاتقان زخرفها وطلائها ،وتفزع كلما هتف بها داعي الخلق والتعبير إلي تدبيج رسالة أو تحرير مقال .
قلت مداعبا صاحبى - وقد رأيت موقفه بين أمسه ويومه - " لا تأس يا صاح على ما فات ، فما كان شعرك في شبابك إلا نوعا من تلك الخطاب المنظومة التى انحدر إليها الشعر العربي في كثير من أقطاره ، فأصبح ليس فيه من الفن إلا رسمه ، ولا من موهبة الابتكار إلا اسمها ؛ صار يقصد به إلى استثارة الانفعالات الرخيصة في سامعيه أكثر مما يقصد " إلى خلق الجمال وتصويره ؛ ولعل دراساتك ومطالعاتك وتجاربك هي التي زودتك بمقياس ذوقى جديد شالت به كفة هذا الشعر في نظرك ، فانصرفت عنه واستبدلات ذلك التفكير الهادئ الذي تطالع به
الناس بين حين وآخر في بحوثك ومقالاتك " .
قال صاحبي : " لست بمعترض على سخريتك ، لا بل لست مستطيعا رد هذه التهمة عني ، فلقد كنت جمعت شعر حداثتي في مجموعات ثلاث رتبتها ترتيبا زمنها ، وصورت الجو الذي ألقيت - أو نشرت - فيه كل قصيدة ، والأثر الذي بدا لي انها تركته في نفوس سامعها أو قارئها ، ومقدار النجاح أو الفشل الذي صادفته فيها ، ثم لامر ما استودعت هذه المجموعات بعض أهلي قبيل سفري إلي أوربا لمواصلة الدراسة ، فلما أذن الله بالإياب بعد طول الغياب ، بحثت فإذا الوديعة قد أضيعت ، وإذا آثار مرحلة من مراحل الحياة كنت احرص على الاحتفاظ بها قد أصبحت مجرد ذكريات " .
قلت : " ألم أقل لك إن شعرك الذاهب لا يستحق منك أسى ولا لوعة ؛ إن تركك لهذه المجموعات قبيل سفرك إن دل فإنما يدل على انك في قرارة نفسك لم تكن مستريحا إليها ؛ بل لعل جانبا منك كان يتمني أن لو ضاعت هذه المجموعات وعفي عليها النسيان "
قال : " ذلك رأيكم معشر الباحثين النفسانيين تنتهرون مثل هذه الظاهرة لتنفذوا منها إلى اعماق ما تسمونه العقل الباطن ، وتستخلصوا منها ما تشاءون من ضروب التأويل والتعليل ، وكأنى بك وقد خلوت إلي نفسك بعد افتراقنا ، فقلت إن هذا الصديق نشأ نشأة دينية كانت كلها كتما لشهوات النفس وكبتا لأهوائها ، وكان كغيره من الشباب يفيض فناءً وحيوية ، وتتصل احلام نومه بأماني يقظته ، وكان لا بد لهذا التيار الزاخر من نشاط الحياة النفسية ان يشق طريقه إلى وادي التعبير ، وشاءت ظروف الثقافة والبيئة أن يسدو على شكل موجات شعرية ، تهتز لها نفوس سامعيها طربا بحكم الاشتراك في الاحساس والوجدان . فلما قذفت النوى بالشاعر في الديار الأوربية ، وجدت نفسه هناك في جو الحرية متنفسا ، وتحررت أهواؤه ورغباته بعض
الشئ ؛ فطامنت من جماحها وكسرت من حدتها ، وأخذت حياته الانفعالية تستقر وتهدأ ، ووجدت أطماعه وأحلامه منابع اخرى تروي منها صداها ، واتجه نشاط حياته وجهة اخرى من الدراسة والتفكير ؛ ولم يكن غريبا إذا ان تتبلد تلك الحساسية التى كانت تقدح زناد الشعر ، وان نتغلب ناحية الذهن في شعوره على ناحية الوجدان ، وان نجد غرائر الجنس والسيطرة والرفعة عنده مظاهر اخرى ، غير إنشاء القصائد واستدرار إعجاب الجمهور ! "
قلت : " منذ متى يا صديقي أصبحت نفسانيا أكثر من النفسانيين وما هذه البراعة في التفصيل والتحليل ! إنه لا اعتراض لي على تخيلك هذا إلا أنك جمعت فيه بين فروض نفسانية متباينة ، ثم يصل واحد منها بعد إلى مرتبة النظريات الثابتة . أما أنا فقد أحلتك على أسهل الفروض وأقربها منالا ، وهو أن شعرك أيام الشباب لم يكن خلقا بالمعنى الفني الدقيق ، بل كان تقليدا لاساليب القدماء التي اختزنت منها الكثير في ذاكرتك ؛ وكان تصويرا واستفزازا لتلك النواحي السطحية من الحياة ، تلك النواحي التي لا تحتمل التأمل الانفرادي ، ولكنها تحيا وتعيش في جو الجموع والجماهير . فأما إذا أبيت إلا التعرض للفروض النفسانية ، فلا اقل من ان نتبين المنازع المختلفة التي نسلكها فيما تخيلته من تفسير وتعليل
فان شئت إذا فقل : إن جذوة الشعر انقدت مع الشباب وفورته وغلبة ناحية الوجدان عليه ، فلما تقدمت السن والتجارب ، وازدحمت مشكلات الحياة ومسئولياتها برزت ناحية النظر والتفكير ؛ فحل النثر الهادئ محل الشعر الصاخب . لك هذا ، ولكن على شريطة ان تتنبه إلي انه فرض لا يستقيم لك على إطلاقه ، فغيرك من الشعراء نضجت شاعريتهم بنضج تجاربهم ، وازهرت عبقريتهم في سن الرجولة والكهولة ازدهارا ابن منه محاولات الشباب ؛
وإن شئت فقل : إنك - كغيرك من الشباب الذين ينشئون في البيئات الشرقية - كانت لك كما ذكرت أهواء ورغبات مكبوتة ، بعضها يمت إلي الجنس بسبب ، وبعضها إلي داعي الشهرة والذكر بين الناس . فلما لم تجد وسيلة إلي إشباع رغباتك أعلنت عنها في صيحاتك . الشعرية، وضمنت لنفسك الظهور في المجامع ، وأجبرت الكثيرين على أن يتحدثوا عنك ويحفظوا بعض آثارك وإني لأذكر بعض ماكنا نتحدث به في أيامنا الأولى ؛ أذكر قولك لي في بعض مافات " إن قلبي ليخفق بالحب ولكني لا أعرف لحبي هدفا يتجه إليه " فاقترحت عليك إذ ذاك أن يكون لك حبيب مجهول توجه إليه قصائدك ، كما تتخذ الأمم رمز الجندي المجهول تحج إليه بذكرياتها في كل عام . وإن أنس لا أنس قولك لي مرة إنك تخشى المرأة والوقوع في حبائلها ، وإنك ستتجه بحبك إلي الله والدين والوطن والمثل العليا ؛ فليتك الآن تصدقني الحديث : ألا تزال على هذا الاتجاه ؟ وهل أفلحت في تجنب أشراك الحب الإنساني ؟ هل أنني سوف لا أكلفك حرج الإجابة على هذه الأسئلة ، فأنا أعلم أنك قد أحببت ، وانك قد أكملت نصف دينك وأنجبت ، وأن شخصيتك قد تخلصت من كثير ، من ذلك الخجل والاضطراب والحرص والحساسية ، تلك الصفات التى لم تكن تعرف لها مصدرا ، والتي طالما سببت لك من الهم والضيق ما لم تكن تستطيع لها إخفاء . وإذا فهل لك أن تتلمس بين كل أولئك وهجر الشعر إياك صلة ونسبا ؟ إنه كما تري فرض معقول ؛ وأغلب الظن عندي أنه يفسر جانبا كبيرا من حالتك ، وأحوال الكثيرين من الفنانين . أمثالك ؛ وهو فرض تؤيده اعترافات الكثيرين من الشعراء والكتاب ، إذ يخبروننا في صراحة أنهم لا يعرفون من أين ينزل عليهم الشعر ، ولا من أين توافيهم تلك الشخصيات التي يمثلونها في رواياتهم ؛ وهم
لا يجدون حرجا أن يقال لهم إن هذا عمل عقولهم الباطنة وما فيها من رغبات وذكريات ؛ بل هم لا يأبون أن تقول لهم ما قالته الامم القديمة : إن إلهة الشعر أو شيطانه يوحي إليهم بما ينتجون
على أنك لمست - في تخيلك - فرضا ثالثا قد نجد الجهرة من الباحثين النفسانيين يوافقونك فيه ؛ ذلك أن كل فرد من الأفراد مزود في طبيعته بشيء كثير أو قليل من النشاط الحيوي . ذلك الذي سماه الفلاسفة أسماء تختلف في ظاهر ألفاظها فحسب : سموهhorme ، وسموه elan vetal ، وسموهwill-to-live وما أرادوا منه إلا تلك الطاقة الحيوية التي تدفع بصاحبها إلي الخلق والإيجاد هذه الطاقة تبدو مرة في صورة قصيدة أو قطعة من الموسيقى ، وأخري في صورة رسالة أو كتاب ، إلي غير ذلك من مظاهر الانشاء والتعبير ؛ وهي تختلف في اتجاهها حسب عوامل تحيط بها وتؤثر فيها ؛ وتخصصها في ناحية يضعفها بالطبع في أخري ؛ فإذا كنت في بعض حياتك شاعرا ثم شاءت الظروف أن تصرفك إلي نوع من الدراسة العلمية ، التي تتطلب منك هدوء الفكر وترتيبه والتأني فيه ، فسيأتي عليك إذا يوم يتحول فيه تيار نشاطك إلا الانتاج العلمي الدقيق ، وتلبس شخصيتك طابع الروية والأناة ، وتحس بالأنس في حضرة المعضلة الفكرية فوق ما تحس بلذة الشعر وألحانه
وبعد فهلا ترى ياصديقى أن هذه الفروض متقاربة ، وأنها لا يناقض بعضها بعضا ، وان السبيل إلى الفصل بينها وتحكيم احدها دون الآخر ليست شيئا يسيرا ! أما أنا فأغلب ظبي أنك لا تزال في قرارة نفسك شاعرا ، وان شاعرتك سوف تولد من جديد في ثوب قشيب ، وأن تحت الرماد وميض جمر يوشك أن يكون له ضرام "
