الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 158الرجوع إلى "الرسالة"

الصراع الحاسم، بين الطغيان والديموقراطية

Share

جازت الديموقراطية المعاصرة مرحلتين حاسمتين فى تاريخها:  ففى غداة الهدنة التى اختتمت بها الحرب الكبرى استقبلت  الديموقراطية طورا جديدا من القوة والظفر؛ وكانت الحرب  الكبرى من بعض الوجوه صراعا بين الطغيان والديموقراطية؛  ففى معسكر الطغيان تجتمع الأسر القديمة الطاغية - آل هبسبرج  وآل هوهنزلرن - والعسكرية البروسية تحركها أطماع مضطرمة  فى السيادة الواسعة؛ وفي المعسكر الخصيم تجتمع الأمتان العريقتان  فى الديموقراطية فرنسا وبريطانيا؛ وإذن فقد كانت هزيمة الدول  الوسطى فى الحرب الكبرى هزيمة للطغيان والملوكية المطلقة؛  وكان ظفر بريطانيا وفرنسا من بعض الوجوه ظفراً للديموقراطية  والنظم الشعبية؛ وظهرت نتيجة هذا الظفر واضحة فى قيام عدة  من الجمهوريات الفتية فى روسيا وألمانيا والنمسا وبولونيا  وتشيكوسلوفاكيا، وفى دول البلطيق الصغرى؛ فهذه مرحلة

ظفر للديمقراطية المعاصرة

ونعمت الديمقراطية بظفرها بضعة أعوام، ولكنها  انحدرت إلى معترك من الشقاق الخطر، وانقسمت إلى شيع  متخاصمة؛ وبدلاً من أن تجتمع فى معسكر موحد، أخذت  فى نضال عنيف مستمر فيما بينها باسم المبادئ والصيغ المختلفة  ما بين اشتراكية وديمقراطية متطرفة ومعتدلة، حتى دب  الفشل إلى صفوفها؛ وكانت أول نتيجة خطرة لهذا الشقاق قيام  الفاشستية فى إيطاليا وسحق الديمقراطية فيها؛ ولم تلبث قوى  الطغيان أن ظفرت تباعا فى بولونيا حيث تقوم حكومات مطلقة  تستتر وراء الجمهورية، ثم فى ألمانيا حيث قامت النازية  أو الهتلرية ونظمت أعظم طغيان عرفه التاريخ الحديث، ثم فى  النمسا حيث طغت الأحزاب الفاشستية؛ وأما فى روسيا، فان  النظام الذى استحدثه البلاشفة للجمهورية الجديدة لم يكن سوى  طغيان شنيع يستتر باسم سيادة الطبقات العاملة؛ كذلك لم تلبث  الجمهورية التركية الناشئة أن تحولت إلى طغيان عسكري مطلق  يستتر تحت نظام جمهورى صورى؛ فهذه مرحلة انحلال  للديمقراطية المعاصرة

والآن تبدو فى الأفق ظاهرة جديدة؛ ولقد ظفرت  الديمقراطية فى إسبانيا منذ أعوام قلائل ظفراً مبيناً، فسحقت  الملوكية الطاغية القديمة، وأقامت حكم الجمهورية والنظم  الدستورية،  ولكن هذا النصر كان محلياً، ولم تفد منه  الديمقراطية الأوربية قوة جديدة، ولكنا نشهد من جهة  أخرى وثبة جديدة للديمقراطية الفرنسية، فقد أسفرت  الانتخابات الفرنسية الأخيرة عن فوز عظيم لأحزاب اليسار  أنصار الديمقراطية المتطرفة والحريات الدستورية الواسعة، وهى  تتربع الآن فى دست الحكم؛ وأسفرت الانتخابات البلجيكية  فى نفس الوقت عن فوز الأحزاب الاشتراكية؛ وفى روسيا  السوفيتية يتحول الطغيان البلشفى منذ أعوام إلى نوع من النظام  الدستورى العام تنمو فى ظله الحريات والحقوق الفردية باطراد؛  ومنذ أشهر قلائل شهدنا تحالف الديمقراطية الفرنسية،  والديمقراطية السوفيتية فى ميثاق مشترك لمقاومة الخطر الألمانى  المشترك. فهذه الظروف والأحداث كلها تنم فى نظرنا عن أن

الديموقراطية الأوروبية تدخل فى طور جديد من أطوار نهضتها

ومما يلفت النظر فى عوامل هذه الوثبة الجديدة التى يلوح  لنا أن الديموقراطية الأوربية تجيش بها، هو أن فوز الأحزاب  وسعنا أن نقارن مبادئ الفاشستية والنازية، من بعض الوجوه بمبادئ الثورة الفرنسية التي تعدت حد الاشتراكية الفرنسية فى الانتخابات الأخيرة هذا الفوز الشامل  يرجع من وجوه كثيرة إلى المسألة الحبشية التى أثارتها الفاشستية  الايطالية واتخذتها ذريعة للتوسع الاستعمارى المسلح؛ فقد كان  غزو الفاشستية للحبشة وظفرها بالاستيلاء عليها ممزقة بذلك كل  العهود والمواثيق التى ارتبطت بها في العهد القريب، متحدية  أوربا وعصبة الأمم والعالم كله، مظهراً قوياً من مظاهر ظفر الطغيان المنظم ونفثة خطرة من نفثاته تنذر العالم بأخطر العواقب،  وكان موقف حكومة لافال الفرنسية وتقبلها ونفاقها إزاء المسألة  الحبشية، وما قامت به من المعاونات السرية لحكومة رومة،  أكبر عامل فى تتويج الاعتداء الفاشستى بهذا الظفر الذى تزهو  به الفاشستية اليوم وتتخذ منه نذيراً ،لأوربا، فلما ردت السياسة  البريطانية على موقف فرنسا فى المسألة الحبشية، بموقفها فى مسألة  الرين وتخليها عن فرنسا، أدرك الرأى العام الفرنسى أن فرنسا  تخاطر بفقد صداقة انكلترا ، فلم ير بدا من التحول فى الانتخابات  الأخيرة إلى ناحية اليسار لتقوم حكومة تعمل بالتفاهم مع  الديموقراطية الإنكليزية، وتتعاون معها على درء خطر الطغيان   الفاشستى والطغيان الهتلرى

ومن الخطأ ان تعتبر هذه الحركات الطاغية التى  تضطرم بشهوة الاعتداء والتوسع حركات محلية لا تعنى سوى الأمم التى تقوم فيها .فالفاشستية مثلاً تزعم لنفسها صفة عامة ، وتدعى أنها أمثل النظم الحديثة للدولة وتدعيم القومية ، وضمان  رفاهة الشعب ؛ ويزعم طغاة ألمانيا الجدد ( هتلر وشيعته ) أنهم  رسل المثل الأعلى للدولة الكاملة ، والعظمة القومية ، ورفعة  الجنس ، وأن نظرية الحريات الدستورية والحقوق العامة هى نظرية خطرة على كيان الأمم ، ويجب أن تكون جميع الحقوق  والسلطات متمركزة فى الدولة ، و الدولة فى نظرهم هى الحزب  النازى ، ويزعم بعض دعائهم أن هذا النظام الغاشم سيعيش  قرونا . ولقد كان لهذه الحركات والمزاعم بعض الأثر ، فظهرت

فى إنكلترا حركة فاشستية صغيرة؛ واشتد ساعد الجمعيات  الرجعية فى فرنسا، وساعدت على ذلك ظروف سيئة ظهرت  فيها النظم الجمهورية بمظهر النظم الفاسدة المفككة، وعاونت  بعض الفضائح الخطيرة مثل فضيحة ستافسكى وغيرها على الاعتقاد  بانحلال هذه النظم ووجوب تعديلها، بل قامت بعض جمعيات  تدعو إلى إقامة الدكتاتورية إنقاذاً لفرنسا من هذا الفساد  الدستورى الخطر؛ وظهرت فى دول أخرى مثل رومانيا والمجر  وتشيكوسلوفا كيا نزعة إلى الاقتباس من  الفاشستية والنازية ؛ من بعض الوجوه بمبادئ الثورة الفرنسية التى تعدت حدود فرنسا  واجتمعت حكومات أوربا المطلقة على مقاومتها

والآن نرى فى أوربا معسكرين عظيمين يتأهب كل منهما  لمكافحة الآخر؛ يتألف أحدهما من إنكلترا وفرنسا وبلجيكا  وروسيا؛ ويتألف الثانى من ألمانيا وإيطاليا؛ وينحاز لكل منها  بعض الدول الصغيرة؛ فإذا تأملنا فى هذا التكوين من الناحية  الدستورية الفينا الديموقراطية ممثلة فى الطريق الأول، والنظم  الطاغية - الفاشستية والنازية - ممثلة فى الطريق الآخر؛ وقد  رأينا أن الحرب الكبرى قامت على مثل هذا التقسيم فى القوى  المتحاربة؛ وأن الدائرة قد دارت على الحكومات المطلقة وعقد  النصر للدول الديموقراطية؛ وإذا تأملنا تاريخ أوربا خلال القرن  التاسع عشر، لمحنا أثر هذا النضال الدستورى فى معظم الحروب  والمعارك التى دارت رحاها فيه؛ فقد عقدت المعاهدة المقدسة فى  سنة ١٨١٥ بين قيصر روسيا، وإمبراطور النمسا، وملك بروسيا،  أو بعبارة أخرى بين الأسر الثلاث التى تمثل الحكم المطلق وتتذرع  بالحق الآلهى، وهم آل رومانوف، وآل هبسبرج، وآل  هوهنزلرن، وغرضها الظاهر توثيق عرى الأخوة المسيحية  والتحالف بين الدول الثلاث، وغرضها الحقيقى مقاومة الحركات  الشعبية والدستورية؛ وقد كانت أوربا طوال هذا القرن كله  مسرحاً لكثير من هذه الحركات التى ترمى إلى الحد من طغيان  الحكم المطلق ومساوئه، وتنمية الحقوق العامة للفرد سواء فى  الدولة أو المجتمع

إن مجرى السياسة الدولية الحالية يفصح بذاته عن مظاهر

تلك المعركة الكبرى التى يسير هذان المعسكران إلى خوضها؛  فإنكلترا وفرنسا تعملان من ناحية على مؤازرة عصبة الأمم،  وإقالتها من عثرتها السحيقة فى المسألة الحبشية، ومن ورائهما  السوفييت ودول أوربا الصغرى كلها تؤيد هذه الحركة، لأن مبدأ  السلامة المشتركة الذى أريد أن يكون دستور عصبة الأمم ضماناً  لتحقيقه، قد صار بعد ظفر الفاشستية المعتدية بالاستيلاء على  الحبشة - وهى من أعضاء العصبة - عقيماً لا أثر له من الوجهة  الدولية؛ والدول الصغرى أضحت تخشى على مصايرها بعد انهيار  هذا الضمان المشترك الذي كانت تعتمد عليه. ونرى من جهة  أخرى إيطاليا وألمانيا تسخران من عصبة الأمم، ولا تدخران  وسعاً فى مناوأتها وعرقلة أعمالها لأن توطيد السلامة المشتركة  وحريات الأمم وحقوقها إذا تحقق بعمل دولى قوى من جانب  الدول الديموقراطية، فانه يقف سداً فى وجه أطماعهما فى التوسع  والاستعمار، ويؤدى إلى ضعف النظم الداخلية التى تغذي هذه  النزعة الخطرة على حقوق الأمم وحرياتها

والخلاصة أنه حيثما تأملنا فى نواحى السياسة الدولية ألفينا  مظاهر المعركة الحاسمة التى يوشك أن تخوضها الديموقراطية.  والديموقراطية تلتزم خطة الدفاع لأنها بطبيعتها أقل ميلاً إلى  الحرب، ولأن الدول التى تمثلها، هى فريق الدولة الراضية  المستأثرة بالسيادة الاستعمارية الواسعة والموارد الغنية؛ ولكنها  ستضطر إلى الدفاع عن نفسها إذا هوجمت، وعندئذ تقع معركة  الفصل فى مصاير أوربا الجغرافية والدستورية، وتقع معركة الفصل  فى مصاير المدنية، فأما أن تفوز الديموقراطية فتفوز بذلك المدنية  المؤسسة على احترام الحقوق والحريات البشرية، وإما أن تفوز  مبادئ القوة الهمجية التى تنادي بها الفاشستية والهتلرية،  وعندئذ تنهار نظم الحضارة المستنيرة وترجع أوربا إلى نظم  العصور الوسطى

ولكن الديموقراطية التى صمدت لهذه القوى الهمجية منذ  القرن التاسع عشر تستطيع بلا مراء أن تدافع عن نفسها ومن  ورائها الرأى المستنير فى العالم كله

اشترك في نشرتنا البريدية