صديقي الزيات حتى أنت قد خاب أملي فيك! أنا الذي دعا إلى (الصفاء بين الأدباء) كما رأيت، وبذلت في ذلك ما بذلت، ورددت الحقوق إلى أصحابها، وأديت الواجبات على تمامها، وأزلت من النفس أسباب الكدر، وطهرت القلم من أدران الشر؛ فإذا كل هذا يسفر عن كلمة سمحتَ أنتً بنشرها في العدد الأخير من (الرسالة) كلها إيذاء لشخصي دون مبرر، كلمة لم تدع إليها مساجلة أدبية، ولم ينتفع بها الأدب والفكر؛ لكن دعت إليها شهوة الهجوم والتجريح لمجرد الزهو والخيلاء بالهجوم علي وتجريحي. ولعل السبب الوحيد في ذلك أني رجل هادئ الطبع كما تعرف، نزَّاع إلى الخير، ينزه القلم عن أن يستخدم هراوة للبطش. . . وكنت أحسب الشجاعة الحقيقية هي في احترام أصحاب هذه المبادئ والنزعات؛ ولكن صدّمني حقاً ما رأيت من أن الأدباء في مصر - مع الأسف - لا يحسبون حساباً لغير الكاتب الذي يبرز مخالبه، ويكشر عن أنيابه، ويتهيأ دائماً للوثوب. . . أنا الذي أراد من الأدب أن يكون حديقة غنَّاء سياجها (الصفاء) ، إذا بي أراه حرشاً من الأحراش المأهولة بالضواري. . . ما هي في واقع الأمر رسالة الأدب إلى البشر؟ أهي شيء آخر غير ترويض كواسر الناس وإفهامهم أنهم أرقى من الحيوان؟ إن الأدب الرفيع هو الذي يثير المشاعر الرفيعة، بما فيها من حق وحب وخير وجمال. . . وإن الأدب الوضيع هو الذي يهيِّج فينا الغرائز الحيوانية بشهواتها للفتك والبطش والعدوان. . . كنت أظن - يا صديقي الزيات - أن تلك هي رسالتك، وأن عملك في مجلتك هو توجيه الأدب إلى هذه الغاية الفضلى، حتى ينشأ جيل سليم فاضل يرى الأدب على حقيقته: جنة سامية طاهرة، لا مكان فيها لمن يبطش بالقلم، ولكنها مكان من يعلِّم بالقلم، يعلِّم الإنسان ما لم يعلم. . .!
خاب أملي فيك - أيها الصديق - لا لأني متألم من كلمة نابية نشرت، فما أكثر السهام التي يرشقني بها الناس في كل ظرف ومناسبة! فما من أحد مثلي يؤذي كل يوم ويشوه عمله وقصده وفكرة تشويهاً بما يكتب عنه وما يوضع على لسانه وضعاً. ومع ذلك فأنا أمام كل هذا من أكثر الكتاب احتمالاً وأقلهم احتفالاً، ولعلي من أشد الناس رسوخاً في عقيدتي: (لاينبغي للأديب الفاضل على أي حال مقابلة القبيح بالقبيح، بل يجب عليه المضي قدماً في سبيل نثر الجميل النبيل من المشاعر في كل القلوب!). . . إنما الذي خيَّب أملي فيك هو أني رأيتك قد حدت قليلاً عن رسالتك في (الرسالة) ، وفي هذا خطر على شرف الغاية التي عاهدت نفسك والناس عليها. . . قد أغتفر لك أهدارك حق الصداقة والزمالة؛ أما هذه، فلا. . . هنا ونفترق. . . وليكن اليوم آخر عهدي بك و (بالرسالة) والأدباء. . . لن أكتب شيئاً لك، ولن أذكر بعد اليوم أديباً بخير ولا بشر. . . سأصمت عن أشخاصهم صمت القبر، لأنصرف إلى الإنتاج وحده من حيث هو إنتاج، ماضياً في إصدار كتبي لقرائي الأوفياء. . . فلا حلم في صفاء، ولا أمل في مودة بين أدباء. على أني قبل ذلك أحب أن أنوه بحق لك عندي وفضل لا أود أن أنساه: لست أعني الآن فضل (الرسالة) المعروف في شهرتي الأدبية، بل فضلاً آخر لعلك تجهله أنت حتى الساعة: أتذكر يوم أعلنت إليَّ عزمك على إصدار مجلة (الرواية) واعتمادك عليّ فيها كل الأعتماد؟ لقد كنت أنت الذي اقترح عليّ فكرة تدوين ذكرياتي المنسية عن عهد اشتغالي بالقضاء، فخرج كتاب (يوميات نائب في الأرياف) . ربما لولاك ما أتجه ذهني إلى هذا الأمر، ولضاعت إلى الأبد معالم تلك الأيام. . . أسجل لك مع الشكر هذا الصنيع، وليشكرك عليه كل من أحب هذا الأثر، واستودعك الله. . .
(الرسالة ) : جوابنا عن رسالة الصديق العزيز في العدد القادم

