إن العملة التى يتعامل الناس بها فى حيواتهم هي الأشخاص وأعمالهم المنظورة، لا المبادئ والأفكار المجردة. ومن هنا تظهر خطورة (الصحبة) التى تتأثر فيها شخصية بشخصية، ويظهر لنا فشل المبادئ والأفكار المجردة عن التأثير فى الناس ما لم تعززها الأعمال المعبرة عنها من أشخاص يؤمنون بها حق الإيمان
ومن أعظم ما يشرف الحياة ويجملها ويرفعنا في قلوبنا وعيوننا، ويجعل مزاولتها عملا سائغا شاقا، بل رحلة رياضية جميلة حقيقة بالتقدير والإعجاب والغبطة - أن تقدر لنا في بعض مراحل عمرنا على هذا الكوكب الحائر الخامل في ملك الله، معاصرة أحد العباقرة أصحاب الرسالات الإصلاحية الكبرى، وأن تتوشج صلاتنا به، لنستروح إلى جانبه من نفحات السماء مالا تجود به إلا على قليل من أبناء الفناء فى فترات متباعدة
هذه (الصحبة) نعمة كبرى فى طيها نعم مختلفات متجددات، فإن صاحب العبقرية بما يفيضه على نفوسنا خلال صحبتنا إياه من إعجاب به، وتعاطف معه، ووعى له - يمكننا من أن نستقل جناحيه ونرتفع معه إلى الآفاق العليا , ونقتبس معه ومثله من مصادر الإلهام الرفيعة ما يضيء سرائرنا، ويجلي عقولنا، ويصفي حياتنا، فنزداد ثقة إلى ثقة بأنفسنا، ونعلو أمامها على هدى وبصيرة، ومن ثم ترتفع أمامنا الإنسانية بكل ملكاتها، والحياة بكل مضامينها، والوجود بكل آباده وآزاله، إذ لا ثقة بصفة إلا بموصوف ممثل لها
على جناحي هذه العبقرية الصالحة الملهمة نطير إلى تلك الآفاق العليا، وبغير جناحيها لا نطير
بل نظل ملتصقين بتراب هذه الغبراء؛ نهيم على تربتها كما تهيم سوائمها، أو نمشى على بطوننا كما تمشى زواحفها، أو ندب
كما تدب حشراتها، وقد نتورط فى حماتها فنظل نسوخ فى أوحالها دركا فدركا، منسلخين عن مزايانا واحدة فواحدة، كلما أمعنا فى الهبوط، فنعيش كما يعيش دود الأرض فى أطباقها الحالكة: كل عمله أن يجذب الطين فى جوفه من طرف إلى طرف، ثم يموت فيستحيل كبعض هذا الطين فى خسته وقذارته
فى غمرة إعجابنا بالعبقرية الصالحة خلال صلاتنا الشخصية بها يفيض على نفوسنا، أو يتفجر فى سرائرنا، الإحساس بالحياة الواسعة، وبواجباتنا وحقوقنا نحوها ونحو الوجود بكل آزاله وآباده، وتتأجج فى صدورنا الغيرة الصادقة على أداء هذه الواجبات وطلب هذه الحقوق، فينطلق كل من تمسه تلك النفحة من أنانيته الضيقة التى لا مصدر لها إلا عدم الإحساس بالحياة وواجباتها وحقوقها، والتى تجعله يشعر بأنه خليع من المجتمع، مبتور من بنيته، بعيد عنه فيما يصيبه من خير وشر، لا هم له منه إلا ذاته الفردة الجافة، ويشعر من أجل ذلك بتفاهة نفسه، وتفاهة مجتمعه، وتفاهة الحياة كلها، كما أنه يشعر بالحرمان والانقباض والقلق والخوف من كل ما حوله وكل من حوله، ويسيء الظن بكل شىء يتعامل معه أو لا يتعامل، بسبب ودون ما سبب، ولا يرى فيما يحيط به، ومن يحيطون به، إلا عدوا مبينا يكيد له، ويتربص به الشر، فأيان أنس منه غرة أعجله بالأذى، ومن ثم لا يكون له من نشاط فى الحياة إلا ما يحمي به نفيه، ويحتجن كل قوة تحميه، ولو جنى فى سبيل ذلك أعظم الشرور
وما من دافع له إلى ذلك إلا إحساسه بأنه ملعون من الثقة بنفسه وبمن حوله وما حوله، فهو يتمثل اللعنة أيان ولى وجهه , ويتوقى لذلك كل شىء ويهرب من كل شيء، مع أنه لا مكان للعنة التى يتوهمها إلا فى سريرته
هذه الأنانية الضيقة التى لا أصل لها إلا البلادة - هى أقوى سد يحول بين الإنسان والإحساس بالواجب ورؤيته، فضلا عن التماسه والكدح فى البحث عنه ولو كان عند طرف أنفه، ويحول بينه وبين التفكير فى أدائه وتهيئة الوسائل المؤدية إليه، فضلا عن أدائه فعلا ولو كان أداؤه من أيسر الميسورات وما من قوة تصهر هذا السد العائق وتبخره كما نفعل صحبة
العبقري الصالح الزعيم بشخصيته المحبوبة وأعماله الطيبة، وبخاصة إذا كان نبيا أو على شاكلة النبى فى شخصيته وسيرته الأمينة، ولا تستثنى من ذلك قوة على الأرض لها مثل هذا الأثر السحرى فى سريرة الإنسان إلا قوة (الحب) . . . والولاء للعبقرى الزعيم نوع من (الحب)
من أجل ذلك استأثر العباقرة الزعماء ولا سيما الأنبياء بالهداية والتقويم، واستأثروا بما هو أعمق وأقوى من ذلك وهو انبعاث الإحساس بالحياة والواجب فى النفوس المهيأة له كي تطلب الهداية والتقويم
وما من مبدأ من المبادئ، ولا معتقد من المعتقدات، ولا فكرة من الفكر، له هذا الأثر أو ما هو دونه قوة إلا أن يكون متمثلا متجسما فى شخص عبقري زعيم. وأيان لا يكن هذا الشخص الذى يتأسى به الناس فكل المبادئ والعقائد والفكر كلمات عقيمة بتراء يقول الناس كثيرا ما يقوله الشاعر
اعمل بقولى ولا تنظر إلى عملى ...
ينفعك قولى ولا يضررك تقصيرى
وليت هذا كان فى الإمكان! إذن لكانت الفضيلة والمعرفة والجمال أعز شأنا، وأكثر جندا، بل لما كان على ظهر هذه الغبراء شرير ولا جاهل ولا قبيح، إذ ما أيسر النصيحة وأيسر فهمها على الناس ولو كانوا أغبى المخلوقات
ولكن الآفة كل الآفة بلادة السريرة التى ينشأ عنها عدم الإحساس بالحياة والواجب
والناموس الذى لا فكاك لنا منه أن العملة التى نتعامل بها هى الأعمال لا الأقوال، والأشخاص لا المبادئ
( اعمل بقولى ولا تنظر إلى عملي. . .) كلام عقيم أبتر، وعملة زائفة لا يثق بها الناس، وإن تظاهروا بقبولها نفاقا، والنفاق هو البضاعة الزائفة التى يبيعها الناس لمن يدفع لهم الأقوال دون الأعمال؛ ولا فبن فى الصفقة على البائع ولا المشتري ما دامت البضاعة زائفة وأثمانها زائفة، فكل منهما خادع ومخدوع
وقديما قرر النبي محمد عليه السلام أن (الدين المعاملة) وقال ( إن الله لا ينظر إلى صوركم وألوانكم ومكنه ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) فالنية والعمل هما العملة الصحيحة عند الله وعند الناس أيضا
ومن هنا يظهر لنا الخطأ والخطر الذى يقع فيه عن عمد أو غير عمد رجال المبادئ الدينية والسياسية ومن على شاكلتهم حين ينصحون الناس برأى ويعملون هم بغيره، فلا تكون سيرهم مصداق مبادئهم، ثم يعجبون بعد ذلك كيف لا يثق الناس بهم ولا يدينون بمبادئهم، ولا يعملون بها ولو كانوا بها مؤمنين ولو كان رجال المبادئ هؤلاء جادين فى عجبهم لكانوا أشد عجبا من أن يلقاهم الناس بغير الإهمال والمعصية، فلا آفة أخطر على منزلة المبادئ ودعاتها فى قلوب الناس كأن يروا هؤلاء الدعاة يقولون ما لا يفعلون. وقد وضح القرآن هذه الحقيقة المرة فقال: (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) وقال: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) إن الطعن فى الديانات ونحوها من المبادئ ومحاولة التشكيك فيها لا ينال منها معشار ما ينال منها نفاق المبشرين بها. إن الطعن فى المبادئ قد يوتر إيمان المؤمنين بها ويزيدهم إيمانا، ولكن نفاق الدعاة هو الذى يحل عقدة الإيمان بها فى قلوب معتنقيها ويفسدها إفسادا، وتغرى النفوس بعداوتها والكفر بها والتمرد عليها تحديا لنفاق دعاتها الذين يأمرون الناس بها وينسون أنفسهم وهذا هو البلاء العظيم
إن شر ما يسلط على مبدأ من عوامل الهدم هو أن يشتد تبشير حماته به بين الناس، بينما هؤلاء الحماة لا يسيرون عليه فى نظر الناس. ولعل هذا يفتح عيون المنافقين من دعاة المبادئ والمثل العليا بيننا، فهم بمخالفتهم فى سيرهم أقوالهم يشككون الناس فيها ويغرونهم أن يكفروا بها بشر مما ينال منها أعداؤها الذين هم بها كافرون، وعلى حربها قائمون
إن منافقا واحدا من رجال الدين أضر على دينه من ألف ملحد جبار. وإنه ليزعزع من مكانة الدين فى ضمائرهم بنفاقه مالا يزعزع ألوف البراهين العقلية على بطلان الدين
وأن خيانة واحدة من زعيم سياسى أو وطنى أو حاكم ممن يمثلون مبدأ أو نظاما فى المجتمع ليشكك الناس فى مبدئه أو نظامه ويزلزل من ثقة الناس به مالا تشكك وتزلزل منه ألوف الخيانات من غيرهم، ولا ألوف الأدلة العقلية ضد هذا المبدأ أو هذا النظام
لا بل تساهل واحد - فضلا عن خيانة واحدة - من جانب أحد القوامين على القانون - وهم ممثلوه فى نظر الناس - يحمل الناس على الاستخفاف به والتمرد عليه وتحديه أكثر مما تحملهم عليه ألوف الجرائم يرتكبها من ليسوا من حماة هذا القانون وممثليه، وأكثر مما تحملهم عليه ألوف نقط الضعف فيه وجرائر الظلم فى تطبيقه، لأن البراهين العقلية أضعف وسائل الإقناع وأضيعها عند البشر
وإن زلة واحدة من أب أو أم أو أخ أكبر، أو راع ما فى رعيته - لتغرى هذه الرعية بالزلل ما لا تغريها ألوف الزلات ممن ليسوا آبائهم ولا أمهاتهم ولا رعاتهم بأي صورة من صور الرعاية، وتجعل كل النصائح والإرشادات والديانات والقوانين ومكارم الأخلاق ضروبا من العبث الفارغ جديرة بالسخرية والتحدى لا بالطاعة والتوفير
يقول كارليل: (إن العقيدة - مهما صحت وقويت - شيء عديم القيمة إذا لم تصبح جزءا من السلوك والخلق، بل هى فى الواقع لا وجود لها قبل ذلك، لأن الآراء والنظريات لا تزال بطبيعتها شيئا عديم النهاية، عديم الصورة، كالدوامة بين الدوامات - حتى يتهيأ لها من اليقين المؤسس على الخبرة الحسية محور (تدور حوله عندئذ بصير إلى نظام معين. ولقد صدق من قال: لا يزول الشك مهما كان إلا بالعمل)
والعقيدة فى نظرنا وفى الواقع لا يمكن أن تكون قائمة ولا صحيحة ولا قوية حتى تصير جزءا من السلوك والخلق، وهى بغير ذلك قيد مثبط لا باعث محرك هى قيد يلزم الإنسان بالسكون إلى حالة واحدة والجمود عليها والجبن عن التحول عنها وانظر ولو مجردا إلى غيرها، والقناعة بالبقاء فيها والرضا بها، والنفور من بذل أى جهد نظري أو عمل حتى فى مناقشتها وتجربتها، وتحرمه كل رغبة فى الحركة والعمل. أو هي - أحمالا - تحجر الإنسان حينئذ، وتقتل فيه بواعث الجهاد بالفكر أو بالعمل، وتبدو حينئذ تعصبا أو
بلادة أو موتا والمعتقد فى هذه الحال يحرص أشد الحرص على شكليات العقيدة، ويهمل روحها أشد الإهمال؛ لأن العقيدة فى سريرته ميتة محنطة كالمومياء. فهو يغالط نفسه فى حرصه على الشكليات عن وعى وغير وعى كي يخدر نفسه ويعميها التناقض الفاضح بين مقتضيات روح العقيدة وسلوكه المناقض لها، وفى ذلك وضع للثقة الزائفة موضع الثقة الصحيحة، أو العزاء الزائف موضع العزاء الصحيح
إن الحرص على شكليات العقيدة بعد موت روحها فى السريرة الإنسانية ليؤدى وظيفتين أو يسد حاجتين من حاجات السريرة لا مناص منهما:
إحداهما: أنه يمنح السريرة الثقة بشىء ويملؤها به ولو كان وهما باطلا
والسريرة كالمعدة؛ فالمعدة بطبيعتها محتاجة إلى الطعام ولا غنى لها عنه، وهى إذا لم تجد الطعام الصالح لم يكن لها مفر من ازدراد طعام أى طعام، ولو كان متعفنا أو ساما يؤذيها أو يفسدها أو يقتلها، أو يؤذى الجسد كله أو يفسده أو يقتله، فالمعول عليه أن تمتلئ ولا تبقى فارغة ولو كانت تلفظ ما يدخلها فور ازدراده، وهى لا تكاد تلفظه حتى تطلب ما يملؤها ثانية ولو كان مما لفظته، لأن آلام الفراغ دونها آلام الموت
وكذلك السريرة الإنسانية: لا بد لها من الإيمان بشئ لأنها فى طبيعتها محتاجة إلى الاستقرار لا على شيء أيا كان ما تستقر عليه، لأن شعورها بنفسها وبما حولها لا يتهيأ إلا باستقرار على شيء، ولا يتحقق إلا بهز وكل السرائر تؤمن لأن الإيمان وظيفتها، ولا توجد بل لا تتوهم سريرة تقوى على الحيرة والشك إلى ما لا نهاية وإن انتابتها فترات الحيرة أو الشك أحيانا قصيرة، كما أنه لا توجد بل لا تتوهم معدة تقوى على الجوع إلى ما لا نهاية وإن أمكن كل معدة الصوم مدة قصيرة أو طويلة حسب طاقتها دون أن تفسد أو تموت، ودون أن يفسد الجسم كله أو يموت هذا - وما أكثر السرائر التى تفر إلى التسليم خوفا من عذاب الشك، وأقل السرائر التى تفر إلى الأفكار خوفا من عذاب الشك أيضا - أما السرائر التى تشك ثم تصر على الشك
إلى ما لا نهاية فشىء وراء الواقع ووراء الوهم
إن السريرة إذا عجزت عن الإيمان الصحيح لجأت إلى الإيمان الزائف. الفرق بينهما أن الإيمان الزائف يقتنع بالشكليات ويكتفي بها عن الحقائق، وفى ذلك عزاء كاذب للنفوس الضعيفة، وسكينة كاذبة إلى مكانتها من الوجود، ومخادعة منها لها بأنها شريكة لأصحاب العقائد فى كل مفاخرهم ومغانمهم فى انتمائهم إليها
وثانية الوظيفتين أو الحاجتين أن الشريرة الضعيفة عاجزة عن احتمال مشقات الجهاد التى يستلزمها الإيمان بروح العقيدة وحقائقها. وهى بحكم ضعفها ضعيفة الضوابط منزوفة الصبر أمام أهوائها وشهواتها الحيوانية المنحطة. وما من عقيدة من العقائد إلا كانت مستلزمة ضبط النفس عن كثير مما تشتهي، محملة إياها ضروبا من جهاد أهوائها. والحرص على شكليات العقيدة - وهو لا يكلف النفس عسيرا من الجهاد - كفيل بان يبرز الإنسان أمام نفسه وأمام الناس على أنه من أصحابها، ويبيح له الحق فى مفاخرها ومغانمها بلا ثمن أو ثمن زائف أو ثمن تافه، ولا حاجة مع ذلك كله إلى تكبد مشقات التجارب القاسية التى يستلزمها الإيمان الصحيح بروح العقيدة وحقائقها. فالحرص على الشكليات يعفى من كل عناء، ويضمن كل ربح، ولا يحرم النفس من الانطلاق فى كل وجهة كما تملى عليها شهواتها الدنيئة. فما أربحها صفقة فى عين صاحبها، وإن كانت فى الواقع أخسر الصفقات، لأنها خسران للحياة كلها لقاء وهم زائف
كان المسلم مثلا على عهد محمد (ص) لا يحس بأنه حقيق بالإسلام حتى يضع حياته وأسرته وكل قواه وممتلكاته موضع الفداء لتعاليم دينه. وأوجب الإسلام على المسلم أن يكون الله ورسوله والجهاد فى سبيله أحب إليه من نفسه وأسرته وأمواله. والمهم فى ذلك هو أن الإسلام لم يلزم المسلم بكل هذه الفروض إلا ليقينه اقتدار المسلم يومئذ عليها، وقد كان ذلك. وأحيانا كان يضطر المسلم إسلامه يومئذ إلى تمزيق كثير من الروابط العزيزة التى تربطه بأسرته أو إخوانه أو قبيلته أو عرضه، وهى تنزل من بنية نفسه منزلة أعضائه من جسمه، فتمزيقها تمزيق لبنية نفسه كأنه نوع من
الانتحار، وكان مع ذلك يقدم على تمزيقها وفى نفسه من الألم لذلك ما لا طاقة للحم والدم بهز وكل ذلك في سبيل واجب أعظم، هو تحقيق عقيدته وبسط سلطانها على كل سلطان. فابن من أبر الأبناء بالآباء يستل سيفه لقتال أبيه، وقتله نفسه أهون عليه من ذلك، ولكنه يخرج لقتاله حتى يعفيه غيره من هذا الموقف الرهيب الذى يسحق التفكير فيه العقل سحقا. وابن يهم باستلال سيفه لقتل أبيه وهو يحب أباه أشد الحب لأنه يحس أن النبى قد ضاق بكيده ونفاقه، فيتطوع هو بقتل أبيه إرضاء للنبى وغيرة على أبيه من أن يقتله مسلم غيره فيقتل قاتله المسلم به، ولكن النبى يعفيه من أداء هذه المهمة التى ينوء بحملها قلب بشرى. ومسلم يخرج عن ماله الكثير الذى لم يجمعه إلا درهما درهما بشق النفس فى عدة سنين. ومسلمون رضوا بضروب من شظف العيش يضيق بها المتسولون وفى أيديهم من السلطان والأموال ما لم يجتمع لكثير من القياصرة والأكاسرة والفراعنة حتى يوم كانوا يعبدون
وجرى على هذه السنة عشرات الألوف من معتنقى العقائد الدينية والمذهبية والوطنية فى أوائل ظهورها
ومع ذلك نجد أن هذا الإسلام القوى الذى صنع الأعاجيب الخارقة فى أولئك العرب على عهد محمد (ص) - قد عجز فى ملايين الحالات اليوم وقبل اليوم عن الوقوف أمام أضعف الشهوات الطارئة، واكتفى الملايين فى تحقيقه بالاسم يسمون به وبركعات وسجدات وتمتمات، وجوع ساعات، وإرسال لحى وإعفاء شوارب، مع استنباط الحيل واستنفادها للزيغ من تكاليفه، بل بلغ من ضعف سلطان هذا الدين فى ملايين النفوس أن اتخذ ستارا لارتكاب ملايين الجرائم التى تتورع عن ارتكابها السباع الضارية، واتخذ فى ملايين الحالات مخدرا بتجرعه الشرير ليسكت ضميره الفطرى الضعيف عن تأنيبه على جرائمه، وقد يتخذه مسوغا يسوغ له جرائمه إرضاء لما طبع عليه من شر وضراوة يتبع
