عندما تستمر نار الحرب ، وتصلي بأوارها أمم وشعوب ، نري فريقا قد آثر العافية والسلامة ، ونكب عن طريق الحرب ، والتزم خطة الحياد . هذه كانت السنة في الزمن القديم ، يوم كان الرئيس العربي ينادي بأن لا ناقة له فيها ولا جمل ، وهي السنة اليوم الذي رأينا فيه دولة إيرلنده تلتزم الحياد مع أن مليكها ورئيسها الأعلى يخوض حربا عنيفة شعواء . فموقف الحياد ليس بالشيء الجديد ، المقصور على هذه الدول المتعددة ، لأن الحرب هي أيضا ليست من مبتكرات المدنية ، بل ذات أصول عريقة في العصر الجاهلي
ولو أن العالم الجديد سار في طريق الرقي حقا ، لما كان هنالك حياد بالمعنى الصحيح ، ولكان هنالك نظام عالمي يجعل المعتدي علي دولة واحدة - مهما كانت صغيرة عزلاء - معتديا علي جميع الدول . وهنالك يشن الجميع حربا شعواء على المعتدي الأئيم حتى يعود إلى الصواب . وهنالك
لا يكون حياد ، ولا وقوف بلا حراك . . كان ذلك هو الحلم الذي ارتسم في عقول من أنشأوا عصبة الأمم بعد الحرب الماضية . ولكنه ظل مع الأسف حلما ، لأن طائفة من الدول القوية أبت أن تحققه ، وطائفة أخرى أبت إلا أن تقطعه وتمزقه . فكان من نتيجة هذا أن ثارت هذه الحرب بين طائفة من الدول ، وظلت طائفة أخرى ملتزمة خطة الحياد .
والمحايدون يراقبون أثناء الحروب مراقبة دقيقة ، لكيلا يرتكبوا عملا يتنافي مع الحياد . والدول المحاربة شديدة الانتباه لكل امر يصدر عن الدول المحايدة ، وتحصى عليها كل عمل تأتيه وتحاسها عليه - أثناء الحرب ، إذا استطاعت ، وإلا فبعد الحرب - حسابا عسيرا . وكثيرا ما يكون المحارب شديد التبرم بالمحايد ؛ لأنه يري انه علي حق ، وانه ينصر الحق ، فكيف يسوغ لإنسان ان يقعد عن مساعدته وهو ينصر الحق ، وفي نصرة الحق فائدة
الجميع ؟ وهذا التفكير أيضا ليس بالشئ الجديد ؟ فالمحاربون في الجاهلية العربية كانوا ايضا يتبرمون بمن يقف موقف الحياد وقد ابتكروا لهذا المعني ذلك القول الشهير الذي لا تزال نردده إلى اليوم وهو : من ليس منا ، فهو علينا .
وفي هذه الحرب ، التي لم تزل تنمو ميادينها وتتسع حتى عمت الكوكب كله ، بادر كثير من الدول بالتزام خطة الحياد . ولكن المتحاربين كان لهم في هذا الأمر رأي آخر ، ففي العام الأول من الحرب قضت ألمانيا على حياد نرويج ودانمارك وهولنده وبلجيكا ولكسمبورج ؛ وفي العام الثاني قضت على حياد سلوفاكيا وهنجاريا ويوجوسلافيا ورومانيا وبلاد البلغار . كانت المانيا لا يردها عن القضاء على حياد دولة إلا رغبتها في الإرجاء . وفي مقابل هذا كله لم تقم دول الحلفاء إلا بالتدخل في سوريا ولبنان ، ثم في إيران ، مع تقديم المواثيق بأن ما جري هنالك ما هو إلا ضرورة حربية تزول بانتهاء الحرب .
أما روسيا - التي كانت تتوقع أن العدوان واقع عليها عاجلا أو آجلا - فقد استعدت لذلك بالتدخل في شئون دول البحر البلطي أستونيا ولتوانيا ولاتفيا، وباقتطاع جزء صغير من فنلنده . وهكذا تضاءل بالتدريج عدد المحايدين ، حتى أصبح قلة تافهة إلى جانب الأقطار التي اشتركت - أو أقحمت - في هذه الحرب ، وما دام المتحاربون يظنون أنفسهم منهمكين في حرب فناء أو بقاء فلا شك أننا نلتمس لهم العذر إذا كانوا يحاولون من آن لآن أن يؤثروا في المحايدين تأثيرا يختلف شدة وقوة من آن لآن .
إن موقف الحياد ، الذي تتخذه دولة من الدول ، يجب أن يكون من الدقة بحيث لا ينتفع به أحد الفريقين المتحاربين . ولا يجوز للدولة المحايدة أن تؤوي جنودا أو سفنا حربية او طائرات تابعة لأحد المعسكرين ؛ ويجب عليها أن تمتنع ، وان تمنع رعاياها ، من الاشتراك في الحرب ، أو بيع أي مادة تستخدم في الحرب ، ولو
بطريق غير مباشر . فليس يكفي أن تمتنع الدولة المحايدة عن بيع المدافع والقنابل والسفن الحربية ونحوها مما يستخدم في الحرب ، بل كذلك الأدوات والمواد الأولية التي يغلب استخدامها في صنع أداة الحرب .
على أن هذه الاعتبارات ، إذا انفقت مع ما اصطلح عليه العرف الدولي في تحديد معنى الحياد ، فإن التطورات الحديثة في الأداة الحربية ، قد جعلت هذه الشروط نفسها غير كافية لموقف الحياد من جهة ، وتخلق للمحاربين مشقة يصبح معها من المستحيل احترام الحيادا احتراما تاما من جهة أخرى ، وتسبب للمحايد ضيقا وضنكا من جهة ثالثة .
والحالة الأولى يفسرها بوضوح حياد إيرلنده . فإن هذا الحياد يعمل دائما لمصلحة ألمانيا ، فإن الطائرات الألمانية قد استفادت بأنوار إيرلنده على توجيه ضرباتها للساحل المقابل من إنجلترا ، او للأرض الإيرلندية الشمالية " ألستر " ومن المعروف ايضا ان السفن الألمانية - قد شكت حرمة المياه الإيرلندية الإقليمية ؛ فلم تفعل حكومة إيرلنده أكثر من أن أغمضت جفنها بشدة على هذه الأعمال وأشباهها . وهكذا نرى أن الحرب الحديثة قد جعلت موقف الحياد الأيرلندي ليس حيادا بالمعنى الصحيح ، لأنه من غير شك يضر الحلفاء ويفيد الألمان .
أما الحالة الثانية وهي صعوبة احترام الحياد احتراما تاما ، فهي واضحة من مثال واحد بسيط ، وهو النشاط الجوي، فمن المعروف أن الاصطلاح الدولي لا يجيز لطائرات المحاربين أن تخترق جو البلاد المحايدة . ولكن مبدأ حيدة الجو فوق البر المحايد ، مبدأ قد دفعته ضرورات الحرب الحاضرة في زاوية الإهمال والنسيان . وسويسره - ولعلها الدولة الوحيدة التي هي أدنى إلى مسلك الحياد التام من أية دولة أخري - لا تكلف نفسها حتى عناء الاحتجاج على اختراق الطائرات لجوها في صورة لا تكاد تنقطع .
بقي أمر ثالث ، وهو أن شروط الحياد القديمة تعطل
كثيرا من مصالح الدول المحايدة . فإننا إذا سلمنا بأن على هذه الدول ألا تبيع أدوات الحرب إلي أحد الفريقين المتحاربين ، فإن من الصعب عليها أن تمتنع عن بيع كل مادة قد تستخدم في صناعة أدوات الحرب . وهذا الشرط يرجع في الراجح إلي الزمن المتقدم ، حين كانت المواد المستخدمة في صنع الأداء الحربية قليلة العدد ، أما اليوم فإن من الصعب أن نجد مادة أولية لا تدخل في صناعات الحرب وأعمال الحرب . وإذا كانت الدول المحايدة لا تتصرف في هذه المواد بالبيع لأحد الفريقين فإن تجارتها تتعطل ، وحياتها الاقتصادية تصاب بارتباك شديد . ولذلك لم يكن بد من أن تخرج الدول المحايدة علي هذه القاعدة وأن تبيع ما لديها من المواد لأحد الفريقين . وهي قلما تستطيع أن تبيع للفريقين في آن واحد ، لأن هذا يتطلب منها قوة عظيمة تمكنها من أن تحمي نفسها شر أي احتجاج أو إرهاق من أحد الطرفين . وليس بين المحايدين اليوم دولة قوية ، بل كلها دول من المرتبة الثانية أو الثالثة ، ولذلك تراها تبيع ما لديها من السلع للفريق الذي تخشي جانبه ، أو الذي تميل إليه .
وقد جاء علي الدول المحايدة : تركيا والسويد وأسبانيا والبرتغال ، حين من الدهر كانت تخشى فيه جانب الالمان ، فأخذت تبيع لالمانيا ما لديها من السلع ، وكانت ترضي في كثير من الأحيان ان تتلقي في مقابل ما تقدمه من السلع وعودا بالدفع ، أو سلعا اخري ليست في حاجة شديدة إليها . فلما تبدلت الأحوال ، وشالت كفة الألمان ، ورجحت كفة الحلفاء ، الفينا هذه الدول تتحول إلي وجهة جديدة ، وتسلك مسلكا جديدا .
وهذا التحول واضح بوجه خاص في موقف اسبانيا الذي كثر التحدث عنه في المدة الاخيرة ، والذي سنخصص له الجزء الباقي من هذا المقال .
إن أسبانيا من غير شك دولة حسنة الحظ ، حيث
مكنتها حوادث الحرب وظروفها من أن تبقى بمعزل عنها ، وأن تسلم من غوائلها ؛ ولقد كان من الجائز جدا أن يكون لها مصير غير هذا المصير . فمن المعلوم أن الحكومة الأسبانية الحاضرة مدينة إلى دول المحور بمساعدات ضخمة ، يوم نصرت ألمانيا وإيطاليا فريقا من الأسبان على فريق ، وكانت تلك المساعدات العامل الاكبر في انتصار النظام الحالي وانهزام الحزب الجمهوري . وفي أسبانيا حزب كبير الخطر يميل إلي دول المحور ، ويري مصلحته الكبرى في مناصرتها وتأييدها ؛ وكان من الجائز أن يطلب إلي الحكومة الأسبانية الحاضرة أن تؤدي ما عليها من دين ، وأن تشترك في هذه الحرب برجالها ودماء أبنائها ، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث . ولابد لنا أن ننتظر تحقيق المؤرخين في المستقبل لكي نعلم هل طلب إلي أسبانيا مثل هذا الاشتراك ؛ ولكن يخيل إلينا أن الألمان لم يكونوا في حاجة أول الأمر إلي جيش أسباني ، لأن ذلك يكلفهم مؤونة تدريبه وتموينه وتزويده بالعدة الحربية اللازمة ، ونظرا لبعد أسبانيا عن ميادين الحرب الأولى لم يكن مثل هذا الأمر مما يفيد ألمانيا كثيرا . واكتفت الحكومة الألمانية من أسبانيا بمساعدات تجارية ، وبأن يكون حيادها مشربا بروح العطف على ألمانيا وإيطاليا .
ولكن أسبانيا ذهبت إلي أبعد من هذا في مؤازرة المانيا ؛ فإنها في نوفمبر سنة ١٩٤٠ بسطت سلطتها التامة على مدينة طنجة ، وتولت حكمها بنفسها ؛ ولم تستطع بريطانيا في مقابل هذا العدوان الصريح ان تفعل أكثر من الاحتجاج . ذلك ان طنجة مدينة دولية خاضعة لحكم أربع دول بريطانيا وفرنسا وأسبانيا وإيطاليا . وهي واقعة في الطرف الجنوبي من مضيق جبل طارق ، ولذلك فهي مجال واسع للتجسس ولمراقبة السفن المادة من المضيق ؛ واستيلاء أسبانيا عليها يمكن للآلمان من أن يجدوا فيها ميدانا لبث العيون والأرصاد ، والاستفادة
من ذلك في مختلف الوجوه . ولم تلبث ألمانيا أن أصبح لها تمثيل قنصلي قوي في طنجة ، ولم يلبث رجالها ان انتشروا في أنحائها كما انتشروا في أنحاء مراكش الأسبانية .
ولقد انتظرت أسبانيا إلي الوقت الذي كانت فيه بريطانيا تحارب ، بمفردها تقريبا ، عدوا شديد البطش مدججا بالسلاح ، ثم اقدمت على الاستيلاء على طنجة . فكان هذا عملا يصعب ان يوصف بأنه من اعمال الحياد . إن بريطانيا لم تثر مسألة طنجة بعد ، ولا ينتظر ان تثيرها قبل نهاية الحرب .
ومضت أسبانيا في أعمالها " الحيادية " هذه ؛ فسمحت بإرسال فرقة محاربة إلي روسيا ، فإن حاجة ألمانيا الآن اشتدت إلى من يعاونها في مغامراتها الحربية . وتحدث الناس كثيرا قبل ذلك في ان اسبانيا قد تسمح لجيش ألماني بالذهاب إلي إفريقية ، وللاستيلاء على جبل طارق ولا نظن أن أسبانيا كانت تمانع كثيرا في هذا الأمر ، ولكن ألمانيا - لأسباب وجيهة من غير شك - فضلت أن تظل أسبانيا بعيدة عن الحرب ، وان ترسل الأمدادات الإفريقية عن طريق صقلية .
ثم دار الفلك دورته ، ودخلت أمريكا الحرب إلي جانب الحلفاء في ديسمبر ١٩٤١ ، ولم يكن في هذا أول الأمر ما يدعو أسبانيا إلي أن تحول حيادها الجرماني إلي حياد أمريكي . ولكن الحال لم تلبث ان تبدلت ، يوم دخلت أمريكا بجيوشها إفريقية الشمالية في نوفمبر سنة ١٩٤٣ . وتدفقت قوات الحلفاء إلي شمال إفريقية ، وانهزم الالمان في ليبيا ، وتونس . واصبحت السيطرة التامة في إفريقية الشمالية للفريق الذي لم تكن اسبانيا تخشاه . ولم يكن في هذه الحالة الجديدة ما يضيرها ، لو ان حيادها كان حيادا دقيقا ، ولكنه كان حيادا من حيادات هذه الحرب ، يتغير بتغير الظروف والحوادث . ولا شك ان أسبانيا قد تورطت في حيادها الجرماني إلي مدى بعيد ، ولم يبق بد من أن تصلح بعض ذلك الفساد ، وأن ترأب
الصدع الذي أمعنت في حفره بينها وبين الامم المتحدة . ومع ذلك كان من الصعب على الحكومة الأسبانية أن تتجه بحيادها هذا الاتجاه الجديد . واضطرت الحكومة الأمريكية لأن تقطع عن أسبانيا واردات البترول . وكان في وسعها ان تستخدم وسائل اخري للضغط على الحكومة الأسبانية . ولكن هذه أدركت أخيرا انها تحسن صنعا لو حولت حيادها وجهة جديدة ، فقبلت جميع الشروط التي تقدم بها الحلفاء وبادرت بتنفيذها . ورايناها في الأسابيع الماضية تمنع عن المانيا صادرات الولفرام ، وهو مادة معدنية من المواد التى تشتمل على عنصر تنجستن ، وهو مادة ثمينة ليس لدي الألمان منها شئ ، فليس في الأرض الألمانية ولا في جميع الأقطار التي تسيطر عليها ألمانيا أثر من مادة الولفرام ، وهي من المواد اللازمة لصنع الصلب العظيم المتانة.
كذلك قبلت أسبانيا أن تطرد الجواسيس المحوريين من بلاد مراكش الأسبانية ، وان تخرج قنصل المانيا نفسه من طنجة ، وقد طلبت إلي اليابان ان تلغي قنصليتها أيضا في تلك البلدة . كما أمرت تلك الفرقة الهزيلة التي تحارب في روسيا بأن تعود إلي أرض الوطن العزيز ، ولم يكتف زعيم أسبانها بهذا ، بل بادر بإقصاء احد الوزراء وهو من أقاربه - لأنه من أنصار المحور المعروفين .
ولئن كانت أسبانيا حرمت بيع الولفرام إلي ألمانيا ، فان الدول المتحدة - علي وفرة ما عندها من الولفرام سيشترون ما تنتجة منه بأثمان اعلى مما كانت تدفعه المانيا . ولا شك أن مقدرة الأمم المتحدة على التجارة والبيع والشراء أعظم من مقدرة دولة المانيا .
وهكذا نري أسبانيا وقد لبس حيادها شكلا جديدا ، واصطبغ بلون جديد ، فهو حياد مشرب بروح العطف على الفريق المتفوق أو الذي يظن متفوقا . ومن يدري ، لعل معظم الحياد في هذه الحرب - لو حللناه - لا يختلف كثيرا عن هذا الطراز الأسباني .
