الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 628الرجوع إلى "الثقافة"

الطب عند المصريين القدامى

Share

٢

السحر والطب :

لقد كان للسحر أثر هام فى حياة قدماء المصريين الاجتماعية والدينية ، فهو لم يؤثر في علاقات الأحياء بعضهم ببعض فحسب ، بل أثر في علاقاتهم بالأموات والآلهة كذلك . وكان السحر عند المصريين وسيلة محققة لإدراك حاجاتهم ورغباتهم ، وبالاختصار كل شىء تقصر حياتهم اليومية العادية عن إدراكه . وكان السحر يستخدم فى أغراض جمة ، ولكن أكثر ما كان يوجه إليه نشاط الساحر هو الوقاية من الأمراض والإصابات المختلفة وشقاؤها ، وعلاج لدغات الحيوانات السامة وعضها ، وغير ذلك من المصائب والحوادث السيئة التي تصادف الفرد ، ولقد كانت الأغراض الطبية أكثر ما كان يستخدم فيه السحر ؛ وبدلنا ما وصل إلينا من المعلومات عن ذلك على الطريقة التى كان يتبعها من يمارسون هذا الفن ، ونرى فكرة " الحلول " ظاهرة واضحة فيما وصل إلينا من الفنون السحرية ؟ وكثيرا ما يذكر صراحة أو ضمنا أن المرض ناشىء من وجود العفريت نفسه في جسم المريض ، ولكن كثيرا ما يذكر أن الآلام سببها بعض السموم مما نفثه الشيطان فى جسمه ، وكانت أسهل الوسائل لعلاج المريض فى هذه الأحوال هي تزويد برقية يؤمر فيها عفريت المرض أمرا عاجلا بالخروج لساعته أو يؤمر اسمه بالخروج من جسم المريض ، وهذه الرقى المختلفة الطول والشمول ممتلئة بإشارات إلى الآلهة ونحوي قطعا من الخرافات في غاية الإمتاع ، وتحوي بعض الرقى تهديدات وتعاويذ فى غاية الجرأة ، وكان حسب الساحر في أبسط الحالات أن يتلو بعض كلمات شفوية ، إلا أنه كان في معظم الرقى يقوم إلى جانب الكلمات المقولة ببعض الطقوس كحركات اليد أو استخدام تمائم وغيرها من الأشياء ، وقد أحسن الدكتور إلي جاردنر حين أطلق على هذين القسمين من فن السحرة اسمى الطقوس الكلامية والطقوس اليدوية على التوالى ، ومن المألوف فى المتون السحرية الطبية أن تجد

نبذة في نهاية المراسم الكلامية ترشد إلى طريقة عمل المراسم اليدوية المرافقة لها . وكثيرا ما تتخذ المراسم اليدوية صورة تلاوة الكلمات على دمية من الخشب أو الطين ، أو على مسبحة أو حبل ذى عقد " أو قطعة من القماش تعلوها كتابة ، أو على تميمة " أو قطعة من حجر ، أو نحو ذلك ؛ وكانت العادة أن توضع هذه الأشياء التي أصبحت لذلك مسحورة على جسم المريض أو تتصل به . وفى حالات المرض والجرح كثيرا ما كانت المراسم اليدوية هى تلاوة المراسم الكلامية على مزيج من المواد تعطى بعد ذلك للمريض لابتلاعها أو استعمالها من الظاهر ، وبهذه الطريقة يصبح الدواء فعالا .

وتجد بين محتويات أوراق البردى الطبية الممتلئة بتركيبات العقاقير ، بعض الرقى السحرية ، الغرض منها أن تجعل للتركيبات التي تتلوها قوى ، وهذه الرقى هى المراسم الشفوية التي تختص بها كل مجموعة من التركيبات ، ويؤلف تحضيرها وطريقة استعمالها المراسم اليدوية المقابلة لهذه المراسم الشفوية ويحتوي كثير من الجرعات المذكورة في هذه الأوراق على مركبات سامة أو كريهة يقصد بها من غير شك ألا يطبقها الروح الذي يحل فى جسم المريض ، فلا يجد إزاءها الشجاعة على إطالة المسكن فيه

ومن خصائص السحرة فى كل الأزمان أن يكون لقوسهم اكثر من وتر واحد - حتى إذا أخفق علاج نجح آخر ، إذ لابد أن تبقى مكانتهم وشهرتهم بأى ثمن . ولهذا نجد في اوراق البردى الطبية عدة تركيبات للمرض الواحد ، وتجد في المتون السحرية رقى عدة لكل نوع من أنواع المرض والمصائب ، ونحوى بعض هذه التركيبات عقاقير ذات فائدة حقة . وهذه التركيبات التي تفي حقا بغرضها هى التى تبقى بعد أن تمحوآثار زميلاتها غير المعقولة ، ومن ثم يزداد اعتماد الناس تدريجيا على العقاقير نفسها ( أي على أعمال السحرة البدوية ( ويقل اعتمادهم على الرقى الملفوظة ، أى على مراسم الساحر الكلامية ، ويصبح الأشخاص الذين يحتاج إليهم أشد الحاجة في حالات المرض هم أعرف الناس بالعقاقير

وأمهرهم في تحضيرها والعلاج بها ، وبذلك لا يبقى هؤلاء سحرة فحسب بل يصبحون أطباء ، وبهذه الطريقة نما الطب من فنون السحر . على أنه يجب ألا نفرض أن انفصال الطب من السحر قد قلل من شأن السحر أو محاه من الوجود . ذلك أن من النادر فى تاريخ التجارب الإنسانية أن يحل الجديد محل القديم كله . ولقد أبقى الأطباء الأول على السحر سندا لهم وملجأ عند الحاجة ، وبقيت الطرق السحرية تستعمل مع وسائل العلاج السديدة جنبا إلى جنب ، كما تدل على ذلك بوضوح أوراق البردى الطبية الباقية من عهود الفراعنة ، وفضلا عن هذا فإن وجود برديات من عهد البطالسة وبعده مكتوبة بالخط الديموطيقي المصرى وباللغة القبطية واليونانية ، يدل على أن ممارسة السحر لشفاء الأمراض كان عملا منتشرا حتى بعد أن عرف الناس فائدة الطب العلمى الذى يرجع الفضل فيه إلى الإغريق. وكان للسحر سلطان قوى فى القرون الأولى من العصر المسيحى وفى خلال العصور الوسطى ، ودام سلطانه " في القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر ، ولم يقض عليه نهائيا إلى الآن حتى بين الشعوب المتعدية ، فقد بقي الساحر وغاية ما في الأمر أن العمل الذى يضطلع به قد تغير بتغير الأزمان ، فأصبح قارئ الكف أو مهرجا أودجالا أو معلنا عن أدوية مبتكرة لا يعلم سرها إلا هو . ذلك أن الساحر القديم عندما أصبح طبيبا برغم أنفه عز عليه أن يتخلى عن غموض مهنته ، وكثيرا ما أخفى طريقته السديدة فى العلاج تحت قناع من الأسرار الخفية , وقد صار على سنته طوال العصور خلفاؤه من بعده

وإن تعدد التركياب الطبية للغرض الواحد لهو فى حد ذاته اعتراف صريح بأن هذه التركيبات إنما تمليها طرق تعصفية غير علمية ، والمعنى الذى يستفاد عن وصف أدوية مختلفة لكل داء من الأدواء أنه إذا أخفق أحدها جاز أن يجرب الآخر ، ولذلك يمكن تلخيص الطريقة التي يطلب اتباعها في البرديات الطبية في العبارة الآتية :

جرب أو ب أو ج " لكنا تبين طريقة أرقى من هذه حين نقرأ طرق العلاج التي تحتويها بردية تشصتر التي تقول : استعمل أ ثم ب ثم ج ، أعنى أن التركيبات المذكورة لكل حالة تستعمل كلها بالتتابع ولا

يختار المعالج تركيبا منها حسب إرادته ، ومن أجل هذا وضعت هذه الوثيقة فى المجموعة رقم ١ التي جئنا على وصفها من قبل

التشريح ووظائف الأعضاء

لقد كان لعادة تحنيط الموتى فى مصر ، وهى التى كانت تطلب إزالة الأحشاء والعمل فيها أثر كبير في نمو الطب ، برغم أن التحنيط لم يكن يقوم به أطباء ، بل كان في البداية من الشعائر الدينية ، واستفاد المصريون أكبر فائدة من التحنيط ، إذ عرفوا منه مظهر الأعضاء الداخلية وطبيعتها وموضعها منسوبة إلى بعضها - ولم تكن تلك الفرصة لتتاح لكل الناس الذين كانوا يدفنون موتاهم أو يحرقونهم ، كما عرفوا منه أيضا خواص الأملاح والراتنجات الحافظة التى استخدموها لهذا الغرض ، وقد أتاحت لهم هذه الأعمال لأول مرة فرصا للمشاهدة فى التشريح المقارن ، لأنها مكنت ممارسيها من ملاحظة التماثل بين أحشاء الجسم الإنسانى وبين أحشاء الحيوانات ، وكانوا قد القوامن زمن طويل مشاهدة أحشاء الحيوانات في أثناء تقطيعها لطعامهم أو تقديمها قرابين لألهتهم

ومما يستحق الذكر أن العلامات الهيروغليفية المختلفة التى تمثل بعض أجزاء الجسم - وخاصة الأجزاء الداخلية - صور لأعضاء ثدييات وليست لأعضاء بنى الإنسان ، وهذا يدل على أن علم المصريين بتشريح الثدرييات كان أسبق من علمهم بتشريح الإنسان ، كما يدل على أنهم لاحظوا التطابق بين الاثنين ، إذ وضعوا رسوما لأعضاء الحيوانات واستخدموها دون تغيير في صورتها للاشارة إلى الأعضاء المقابلة لها في جسم الإنسان

وفى وسع الإنسان أن يدرك مقدار ما يعرفه شعب من الشعوب عن موضوع فنى بغنى لغته بتعبيراته أو فقرها في هذه التعبيرات ، وفى اللغة الهيروغليفية القديمة أكثر من ألف تعبير تشريحى وهذه الحقيقة وحدها كافية للدلالة علي أن المصريين استطاعوا أن يميزوا عددا كبيرا من الأعضاء والأجزاء العضوية ، ويضعوا لها أسماء من عندهم ولو صادقها شعب أكثر من المصريين الأقدمين بداءة أو أقل منهم علما لضمها كلها بعضها إلى بعض أو لعجز عن مشاهدتها ، على أن المصريين إذا كانوا قد وضعوا أسماء دقيقة دقة لا بأس بها للأجزاء الكبيرة من الجسم ، فإنهم

قد اخفقوا فى إدراك الفرق بين الأعصاب والعضلات ، والشرايين والاوردة ، فعبروا عن هذه كلها بلفظ واحد ، ويبدو أنهم كانوا يعتقدون أنها كلها أجزاء مختلفة من جهاز واحد تتفرع حباله وتتشعب ، وتكون شبكة منتشرة فى كل أجزاء الجسم ؛ ولذلك تجد اللفظ المستعمل للدلالة على الأوعية الدموية التي تتصل بالقلب هو نفس اللفظ المستعمل للعضلات في تركيبات الادوية التي توصف لتصلب المفاصل والآلام الروماتزمية ، وليس في وسعنا أن نفهم أيها هو المقصود من اللفظ إلا بالرجوع إلى سياق الكلام .

أما من حيث علم وظائف الأعضاء فإن أهم وثيقة لدينا فقرة طويلة في بردية إيبرز تبحث في القلب وأوعيته ، وهذه الفقرة مهمة غامضة مشوشة عسيرة الفهم جدا ، وفى النسخة اليونانية منها الواردة في بردية برلين من الخطأ في النقل ومن الأغلاط الكتابة ما يجعلها عديمة النفع ، وهناك صورة ثالثة في بردية ادون أسمث ولكنها تتكون من قطع صغيرة ممزقة لا يمكن الانتفاع بها قط ، ولا شك في أن المصريين كانوا يشعرون بصعوبة فهم هذه القطعة ، ولذلك أدخلوا عليها عددا من الحواشى لشرح معاني بعض عباراتها وربما ساعدت هذه الحواشى المصريين فى أيام الأسرة الثامنة عشرة ، أما بالنسبة لنا نحن فإنها لا تنقص من صعوبة فهمها بل تزيدها .

وعنوان القطعة هو " بداية علم الطب أن تعرف حركات القلب وأن تعرف القلب ، إن هناك أوعية متصلة " ممتدة إلى كل عضو في الجسم " ويتلو ذلك تعليق شرحى يقول :اننا إذا وضعنا الأصابع على منطقة القلب وعلى الرأس والأطراف تبينا عمل القلب بوساطة الأوعية الموصلة إلى كل عضو التى يمكن الشعور بالنبض في مختلف أجزاء الجسم بوساطة الأوعية المتفرعة من القلب ، وليس هناك أية إشارة تدل على علمهم بدورة الدم ( وإن كان بعض الكتاب استنتجوا ذلك من المتن ) بل ولا أى ذكر تقدم ، وكل ما عرفوه اتفاق النبض مع ضربات القلب نفسه ، وكان المصريون بالضرورة يعدون القلب أهم عضو في الجسم ، وكانوا يعتقدون أنه موضع الذكاء والعواطف كلها ، ولا يعلقون أية أهمية على المخ وكانوا يرون أن وجوده فى الجسم عظيم الخطر ، فلم يكونوا يزيلونه عند التحنيط ، بل كانوا يعنون كل العناية بأن يتركوه هو وأوعيته الكبرى في موضعه من الصدر وإن أزالوا كل الأحشاء الأخرى . ويأخذ المتن بعد هذه المقدمة فى تعداد

الأوعية التي تتصل بكل جزء من أجزاء الجسم ويذكر ما تنقله إليها ثم يتكلم عن القلب في حالات عدة .

وليس في وسعنا أن نستنبط نظاما فسيولوجيا من هذه القطعة الغامضة المهمة وإن كانت هناك حقيقتان تظهران منها بوضوح تام " إحداهما هى أهمية القلب من حيث هو مركز الجهاز الوعائي والأخرى هى أن الأوعية لا تختص بالدم وحده ، بل هى أيضا لطريق الهواء والماء والمخاط والسائل المنوي وغيرها من الإفرازات .

ولا ريب أن هذا الاستنااج الخاطئ قد نشأ من الحالة التي تشاهد عنها الأوعية عندما كان المنطون يبحثونها عقب الوفاة ، ولا يمكن أن يكون منشؤها بعث حالة الأوعية نفسها وهي تؤدي وظيفتها في الجسم الحي . وكان المعتقد أيضا أن الأذنين ليستا عضوي السمع فحسب ، بل ها أيضا جزء من الجهاز الرثوي ، فقد ذكر أن نفس الحياة يدخل من الأذن التي و نفس الموت من اليسري . وبعد هذا الخليط الهوش من الأقوال الذي بلأ سنحات عدة من البردية ، ومعظمه خاطئ . تبقي نواة من مشاهدات صحيحة سارقة ، نوحى بأنه في الأزمان البكرة جدا كانت تبذل محاولات جسدية الفهم تركيب الحسم ووظائف أعضاله وأثر الإصابات فيها . فما لاحظوه مثلا أن الخ مغطي خشاء ) تقرأ هذا في بردية أون امت ( وان كلا نصفه مجيد وان اسابة للغده السيطرة على أجزاء مختلفة من الجسم كتوتر عضلات الوجه . إلي غير ذلك من الظواهر ؛ كما لوحظ أن إصابة العمود الفقري تسبب الإنعاط والتذف غير الاختباري . وقد تسبب لطيل البطن ، وأن هناك إصلبات يمكنها شفاء أكيدا ، وأخري بشك في شفائها ، وثالثة لا أمل في شفائها على الإطلاق .

وهناك فقر في بردية إبروز تبحث في أمراض العدة ، وأخرى في بردية كاهرون تبحث في اضطربات الرحم وغيرها من أمراض النساء وهي تتميز بأنها نصف أعراضي الرض وتشخصه ، في حين أن كل الراجع الطبية الأخرى تقريبا الفرض أن التشخيص معروف وتكتف يوسف العلاج . وهذه الفقرات السالفة الذكر هي والجزء الخنابي من يردية إبرز منقولة من غير شك عن مصدر آخر مختلف كل الاختلاف عن الصدر الذي أخذت عنه سيظر الكتابات الطبية وكلناهما تنتمي إلي نوع من الوثائق أطلقنا عليه من قبل اسم ) المجموعة الأولى ( .

اشترك في نشرتنا البريدية