الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 302الرجوع إلى "الرسالة"

الطفل وحقيقة الإنسان

Share

زارتنى، ذات يوم، سيدة، ومعها طفلة تناهز الرابعة،  فسقيت السيدة القهوة المرة التى تحبها، وحرت فى الطفلة: ماذا  أسقيها أو أطعمها، أو بماذا ألاعبها، وليس فى مكتبى ما يصلح  لها؟ ثم خطر لى أن أبعث بالخادم ليشترى لها   (شوكولاته) .

فقالت السيدة:   (إنك تدللها وتفسدها) . قلت   (دعيها تتدلل  وتفسد - على قولك - فلن ترى أرغد من أيامها هذه) . قالت:    (وستحبك بالشوكولاته!) ، وضحكت. قلت:   (هل تعلمين  أن كل حب لإنسان آخر هو من حب النفس؟) . ولم أطل  فى هذا المعنى فإنى أعرفها تكره الفلسفة وإن كانت ذكية لبيبة.

وجاءت الشوكولاته فأخذتها الطفلة من الخادم وابتسمت له  مسرورة. فقالت لها السيدة - وأشارت إلي:   (إنه أولى  بابتسامك، فقومى إليه واشكريه بقبلة) . فانحدرت عن مقعدها  خفيفة ضاحكة ولثمت خدى. وعادت إلى الشوكولاته، وهمت أن  تنزع عن بعضها الورق وتأكل؛ فنهتها السيدة عن ذلك وقالت  لى إنها ستدخل طعام على طعام، وليس هذا بمحمود أو مأمون.

ولفت لها الشوكولاته فى ورقة وناولتها إياها وربتت لها كتفها  وقالت:   (أبقيها معك إلى ما بعد) . فأطاعت الطفلة ووضعت  اللفافة فى حجرها، وجعلت تقلبها وتعبث بها، وذهبنا نحن نتكلم،  وإذا بالسيدة تغمزنى بعينها مشيرة إلى طفلتها، فنظرت فألفيتها  قد فكت الورقة وأقبلت عل قطع الشوكولاته تحركها بإصبعها،  فهززت رأسى مستفسراً. فقالت السيدة:   (إنها تعدها) .

قلت:   (لعله يفرحها أن تعرف عددها) . قالت:   (لا)  وهزت  رأسها:   (ما أظن بها إلا أنها تعدها للمرة الثانية) . قلت:   (ماذا  تعنين؟) . قالت:   (أعنى أن أكبر الظن أنها عدتها حين أخذتها.

ثم أخذتها أنا منها ولففتها فى هذه الورقة، فهى تعدها مرة ثانية  لترى أنقصت أم بقيت كما كانت) . قلت:   (اتقى الله!) .

قالت:   (لك رأيك، ولكنها بنتى فليس تَخفى على من أمورها  خافية)

وصارت الطفلة تعرفنى بعد ذلك   (ببابا شوكولاته)  وهى  خليقة أن تعرف اسمى، وأن تستطيع النطق به، فما هو بأثقل  أو أصعب من لفظ الشوكولاته، ولكن الشوكولاته حلواؤها  الأثيرة، وأنا أتحفها بها كلما لقيتها، فهى تهمل اسمى وتطلق على  ما تحب، ولو أهملت أن أقدم لها الشوكولاته، أو قصرت فى هذا  الواجب، لزهدت فى لقائى وانصرفت عن ذكرى، وتركت حث  أمها على زيارتى.

وليست هذه الطفلة بالشاذة، فإن كل طفل على غرارها،  حتى ولدى أراهما أحفى بأمهما منهما بى، لأنها لا تنسى أن تزودها  بما يحبان، وإن كنت أنا المتعب المكدود والذى لا يزال يسعى  ويشقى ليسعدا.

وأحسب أن الإنسان يبدو على حقيقته فى طفولته، أى قبل  أن يصبح إنساناً مصقولاً منجورا أو مهذباً كما نقول، والطفل  أثرة مجسدة، يحب ويكره، ويقبل ويدبر، تبعاً لما يلقى منك.

وقد يكون أبوه أحنى عليه، وأعمق حباً له، وأعظم شغلاناً به،  ولكنه لا يلاعبه، ولا يعنى بأن يحشو له جيوبه باللطائف المشتهاة،  ولا يجئه كل بضعة أيام بلعبة، فلا يعبأ به الطفل أو يجعل  إليه باله، على حين تراه يتعلق بأهداب صاحب لأبيه لأن لا ينسى  حين يجىء فى زيارة، أن يحمل لهذا الطفل ما يسره أو لأنه  يشغل نفسه معه بضع دقائق بالهذر الفارغ.

وكان صديق لي يقول:   (إنك سئ الظن بالإنسان)  فكنت  أبتسم ولاأجيب، وأنتقل به إلى موضوع آخر استثقالاً لهذا  البحث الذى لا يطيب للنفس في كل وقت، حتى لفتتنى تلك السيدة  الذكية إلى المظهر الحقيقي للإنسان، فدرسته فى أبنائى، وانتهيت  إلى أن كل ما فى الإنسان من خير وفضيلة اكتساب وليس بطباع  فيه؛ والطفل - قبل أن نعلمه خلاف ذلك - لا يعرف إلا نفسه،  ولا فرق بينه وبين الوحش فى الفلاة أو الغابة. وعجيب أن ينسى الإنسان أنه حيوان!؟! فهو يضرب أخاه، ويمزق له ثيابه، ويريق  الحبر على أوراقه أو كتبه، ويحطم له لعبه، أو يتلفها، ويغضب  أو يستاء إذا رآه يلبس الجديد قبله أو دونه، ويعذب العصافير  والقطط، ويذوى الورود والأزهار، ولا يقف فى العبث والإتلاف  عند حد؛ ولا يدركه عطف على أحد، ولا يشعر برقة لإنسان

أو حيوان. ولسنا نحن الكبار  خيراً منه، وإنا لأحسن ضبطاً  لأنفسنا، وكبحاً لأهوائها  ونزعاتها، ولكنا نحتاج إلى  الضبط والكبح لأن النزعات  موجودة تلج بنا وتدفعنا؛ ولو أمنا  العاقبة لأطعنا أهواء نفوسنا  وأملينا لها فيها. ولو جمحت بنا  لما نفعتنا اللجم والأعنة التى اعتدنا  فى حالت الاتزان أن نصدها بها عما  تهم به. ونحن فى كل حال نراقب  ما هو أوفق لنا وأصلح، والأمر  فى الأطفال أوضح وأبين، لأن  اللجم الكابحة ليست هناك،  أو لأن التدريب عليها ناقص،  ونمو العقل مع التجربة يساعد  على حسن استخدام اللجام،  ورياضة النفس على طاعته

ولست أقول إن الإنسان  شرير بطبيعته، فليست المسألة  مسألة خير أو شر، وإنما هى  طباع فيه وفطرة يبنى عليها،  والطباع لأخير ولا شر، وإنما  وهى طباع. وقد أحتاج الإنسان  إلى مقدار من النظام لما أحتاج  أن يعيش فى جماعته، والجماعة  لا تصلح بالانطلاق مع السجية،  وإنما تصلح بإقامة حدود

وعلى أن روح الجماعة ليس  فيها لأخير ولا رحمة ولا رفق  ولا شئ مما يجرى هذا المجرى،  والشر الذى يذعر الفردَ مجرد  التفكير فى ارتكابه تقدم عليه  الجماعة وهى ترقص وتباهى،

وهذا ما يحدث فى الثورات. وقد  رأيت بعينى جماعة حانقت فى أبان  الثورة المصرية تمزق رجلاً بأيديها  فوليت هارباً من هذا المنظر.

وما أظن أن أقسى فرد يستطيع  أن يفعل ذلك وهو وحدة.

وأحسب أن الذى يرد الجماعة  إلى الطبيعة الحيوانية وهو أن  الطباع الحيوانية المشتركة - وهى  واحدة - تتغلب على المزايا  المكتسبة التى تزعمها صفات  إنسانية - وهى متفاوتة

وما زالت القاعدة الحسابية  هى صحيحة، أعنى أن الذي  يقبل الجمع هو المتشابه لا المختلف؛  ولست تستطيع أن تقول إن  عندك أربع تفاحات وأنت تعنى  أن عندك تفاحتين وبرتقالتين

ومن هنا ذهب ماكس نوردو  بحق إلى أن برلماناً من أعظم  الرجال مثل جوته وشكسبير  ونابليون الخ لا يكون خيراً من  برلمان من الأوساط العاديين:  لأن برلماناً هكذا يكون مؤلفاً  من مائة صفه مشتركة تتغلب  على كل مزية مفردة لكل واحد  من هؤلاء العظماء

ولست أذم أو أمدح، وإنما  أصف الواقع، والواقع أيضاً  أن المدينة معناها التنظيم، أى الكبح والصقل ودفع الحياة  فى المجارى التى هى أصلح للجماعة  وأجلب لخيرها

اشترك في نشرتنا البريدية