(الأم هى واهبة الحياة بعد الله؛ فإذا فقدها أصحاب الشعور أصبحت حياتهم أقباسا من وهج اللوعة، وفنونا من عبقرية الألم، وخريفا لا يعرف طعم الربيع إلا من أفواه الناس.. كلمات تجد أصدق التعبير عنها فى هذه الأبيات)
ذهب الظل الذى كان هنا ... نعمة من رحمة الله بنا
ذهب الظل وعمرى لم يزل ... ظاعنا يشكو الصدى والوهنا
طاويا فى كل يوم رحلة ... تنشر الغيب وتطوى الزمنا
الوداع المر أسقاه بها ... وأنا أقتات منها الحزنا
كم عزيز فى ثناياها مضى ... كان دمعى غسله والكفنا!
الصحارى الصفر حولى قصة ... أنا أدرى منّهاها المحزنا
مد راويها مداها، ولقد ... أرهق النفس وأوهى الأذنا
ملها السمار حتى انتبهوا ... ونداء الفجر فيهم أعلنا...
ما مسيرى فى طريق عبرت ... تربة قبلى دهور ودنى!
فنيت من قبل أن تدركه ... وخبا فى ليلها كل سنا
أنظر الأشباح فيه ذرة ... من هباء فى فضاء شحنا
لست أجنى من ثراه ثمرا ... غير كد وشجون وضنى!
رحلتى طالت، وطالت غربتى ... فمتى يا روح ألقى الوطنا؟!
كان لى ظل إذا اشتد اللظى ... آوت الروح إليه فحفا...
كان لي ظل إذا إمتد الدجى ... وجد القلب لديه المأمنا
كان لى ظل إذا عاصفة ... زمجرت أسمعنى لحن المنى
كان لى ظل إذا اليأس طغى ... ردنى بعد ضلالى مؤمنا
ذهب الظل فلا مأوى هنا ... لغريب ليس يدرى السكنا
الهجير المستبد استعرت ... ناره تشوي وهبت ألسنا
وأنا تلفحنى النار ولا ... أجد الظل الذى كان هنا
حائر الطرف، أدارى حيرتى ... بالسكون الجهم حتى تسكنا
وأري موكب ليلي زاحفا ... أسود الجبهة يطوي الحزنا
قاسيا يقصف فى خطوته ... كل عود كان مأمول الجنى
موحشا تزحف فى ظلمته ... أرجل الوهم غلاضا خشنا
عابسا أوشك من سحنته ... أن أراه ناقماً مضطغنا
غارت الأنجم إلا خادعا ... حير العقل وأعشى الأعينا!
عبد الناس حياة ضلة ... وأنا أجحد هذا الوثنا
حيرت طالت على أصحابها ... كل من فيها ينادى: من أنا؟
ذهب الأمل فيها يائسا ... وذوى المأمول فيها وانحنى
يهدم اليوم وفى سخرية ... ما أقام الأمس فيها وبنى!
ذهب الظل ولما أستريح ... من عناء السير إلا موهنا
ذهب الظل إلى بارئه ... فقضت أمي وودعت المنى
جنتى كانت.. ولكن ذهبت ... من أمامى مثلما يخبو السنا
لم تكن إلا جفوناُ أغمضت، ... ورؤى قرت، وروحاً سكنا..
ثروة كانت.. وما اغبننى ... فى تراب الأرض واريت الغنى!
لم يعد أثمن عندى من ثرى ... دفنت فيه أحبائى هنا...

