الإندنسيون الذين زاروا بلاد هارون الرشيد خلال القرن الثاني عشر رجعوا إلى بلادهم حاملين لواء الإسلام وقاموا في إندونسيا بدعوة واسعة النطاق للإسلام ، حتى انتشر الإسلام بسرعة . وقال الرحالة العربي ابن بطوطة في ١٣٥٠ "إن الملك في شمال سومطرة الذي غير اسمه بالملك الصالح بعد أن دخل الإسلام قد ضحى بأمواله وبحياته في سبيل نشر الإسلام ، لا إلى رعيته فحسب بل إلى الجزائر كلها".
وزيادة على جهود الإندونسيين في نشر الإسلام في بلادهم ، كان التجار المسلمون من العرب والفرس والهند قد وصلوا إلى إندونسيا واتجروا فيها منذ القرن الثالث عشر وساهموا مع المسلمين الإندونسيين في نشر الإسلام ، حتى أصبحت للعرب بوجه خاص السيادة الاجتماعية والأدبية في إندونسيا بسبب انتشار الإسلام فيها كما قال الأمير شكيب أرسلان في كتابه "حاضر العالم الإسلامي": "إن المؤرخين الأوربيين قالوا: لم تكن العلاقات التجارية مهما كثرت وانتشرت لتكفي في نيل العرب هذه السيادة الاجتماعية والأدبية على جزائر عظيمة كهذه ، فياضة الخيرات ، زاخرة العمران ، بل كانت معهم قوة أعظم من هذه ، وهي قوة العقيدة المحمدية التي هي من الجلاء والبساطة بحيث يفهمها الخاص والعام".
وكان هؤلاء المبشرون في بادئ الأمر يقومون بالدعوة السلمية ، ولكن بعد أن قوي ساعدهم وبعد أن صار لهم شوكة وصولة قاموا بالقوة وهاجموا الممالك القائمة في طريقهم وحاربوا البوذبيين والبراهمة حتى دخل الإندونسيون في الإسلام أفواجا وجماعات ، وأسلم كبارهم قبل صغارهم ،
حتى تحولت تلك الممالك الكثيرة إلى ممالك إندونسية إسلامية كانت نضاهي الملكة الإسلامية في الأندلس قوة وعظمة ، وبالأخص في القوة الروحية وقوة التمسك بالدين .
فبعض هذه الممالك الأندونسية الإسلامية لا تزال موجودة إلى أوائل هذا القرن، وكانت آخرها التى تخضع لسلطة الحكومة الهولندية هي مملكة آتشة في شمال سومطرة ، إذ أن الحكومة الهولندية لم تستطع إخضاع هذه الملكة القوية إلا في ١٩٠٤ ، وذلك بعد أن خاضت الحكومة الهولندية غمار الحرب ضدها منذ ١٨٧٣ . وقد كلفتها تكاليف باهظة ، بلغت حتى سنة ١٨٨٤ إلى ١٥٠ مليون روبية ، وكلفتها بعد ذلك الوقت بمعدل سبعة ملايين روبية كل سنة ، حتى تم إخضاعها في سنة ١٩٠٤ وجاء في كتاب الأمير شكيب أرسلان السابق ذكره ما يأتي: "وكان هؤلاء المسلمون هناك (أندونسيا) سلاطين وأمراء مستقلين ، فما زالت هولندة تتغلب على واحد بعد واحد حتى أخضعتهم لسلطتها تماما . وكان استصفاء بقية استقلالهم في إخضاع "نواتج كو محمد دافوت" سلطان آتشة الذي دخل تحت حماية هولندة في سنة ١٩٠٤.
وكانت استطاعة هولندة إخضاع هذه المملكة القوية ترجع إلى الجهود الجبارة التي بذلها المستشرق الهولندي الدكتور سنوك ، هورجرويه Dr C. Snouch Thurgrgonje الذي تنكر ودرس تلك المملكة من جميع النواحي من طبيعة أهاليها وتضاريس بلادها وحصونها المانعة وما إلى
ذلك . كان يدرسها دراسة استغرقت سبع عشر سنة ، وعاش طول هذه المدة متنكرا في زي المسلمين وسط هؤلاء الأهالي المحافظين بدينهم . ثم رجع إلى هولندة وكتب عنها عدة كتب ونشر مقالات كثيرة ، وأصبح بعد ذلك مستشارا للحكومة الهولندية، يساعدها في تسيير تلك الحرب كما أنه هو الذي يدير الأمور الحكومية التي تمس الإسلام واللغة العربية في إندونسيا لأنه علم بالدين الإسلامي وباللغة العربية إلماما تاما وأقام في الحجاز للدراسة على ما أذكر مدة أربع سنوات .
حالة مسلمي إندونسيا في عهد الاستعمار الهولندي :
ومهما حاول المستعمرون أن يمحوا كل ما يبقى في نفوس الأهالي من الروح المعنوية التي تركها مجدهم الماضي وان يقطعوا كل ما يمكن أن يصل بين ماضيهم وحاضرهم ، وأن يقتلوا بشتى الوسائل كل بذرة تنمو وتضيء مستقبلهم ، فهذه الروح المعنوية ، روح الحياة والحرية ، لا تزال متغلغلة في نفوس المسلمين الإندونسيين ، حتى انفجرت واشتعلت حينها سنحت لها الفرصة .
فبدأت حركة الإصلاح الإسلامي في إندونسيا معاصرة لحركتها الاستقلالية التي تسربت روح هذه الأخيرة من اليابان عقب انتصارها على روسيا في سنة ١٩٠٥ ؛ ولكن روح حركة الإصلاح الديني في إندونسيا كانت تأتي من وادي النيل ، حيث ظهرت في مصر حركة الإصلاح في آخر القرن التاسع عشر على يد المصلحين الكبيرين وهما السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ الإمام محمد عبده.
منذ قرون عدة إلى أوائل هذا القرن كانت التعاليم الإسلامية في إندونسيا مشوبة مشوهة بالتعاليم البوذية والهندوكية ، لأن هذه التعاليم البوذبة والهندوكية قد وصلت إلي إندونسيا قبل وصول الإسلام إليها بمدة طويلة جدا ، وفي بعض الروايات أن البوذية قد وصلت إليها قبل ميلاد المسيح عليه السلام .
فيفضل روح حركة الإصلاح التي هبت من وادي النيل الفياض إلى إندونسيا الخصبة عن طريق الطلبة والكتب تنبه المسلمون الأندونسيون فوقفوا على حقائق الدين الإسلامي وعرفوا ان الإسلام ليس ديانة خيال وخرافات ، ولا هو بالدين الذي بأمر الناس بالعبادة فقط ، ولكنه دين الحق والعمل ، دين الكفاح والجهاد ، دين يحمل في ثناياه سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة
فأصبحت الحركة الاستقلالية تقترن بهذه الحركة الدينية التي أشعلت الروح الوطنية في نفوس الإندونسيين حتى تكونت عدة أحزاب سياسية بمختلف ألوانها ، أو أن هذه الحركة الاجتماعية والثقافية والتعليمية الإسلامية هي التي تقترن بالحركة الاستقلالية ، إذ أنها انتشرت وترعرعت بحماسة ملتهبة من الحركة الوطنية ، وبالأخص بعد أن شددت الحكومة الهولندية الرقابة على هذه الحركة الوطنية وأوجدت عقبات كثيرة في طريقها حيث كثرت الاعتقالات وامتلأت السجون وازدحمت غينة الجديدة بالمنفيين السياسيين ، فاستخبأ الإندونسيون بين أحضان الجمعيات الإسلامية ، واستظلوا تحت ظل الحرية الدينية ، وبهذا تضاعف عدد الجمعيات الإسلامية التي قدمت ولا تزال تقدم الخدمات الجليلة للبلاد .
من أكبر تلك الجمعيات الإسلامية وأكثرها نفوذا الجمعية المحمدية التى قد أصبحت بوجود فرع من فروعها في كل قرية من قرى إندونسيا ، وبكثرة أعمالها كالقيام بنشر الوعظ والدعوة للإسلام وإنشاء ملاجئ الأيتام والعجائز والمستشفيات والصيدليات ، وبناء الجوامع والمدارس وغيرها من الأعمال الجليلة ، وبدقة نظامها وإدارتها ، أصبحت هذه الجمعية بكل هذا حكومة في داخل الحكومة الهولندية ، وهي تعتمد في سلطتها التنفيذية على القوة الروحية ، أى قوة تمسك الإندونسيين بدينهم .
وتتلو هذه الجمعية المحمدية الجمعية العائشية نسبة إلى
السيدة عائشة رضي الله عنها ، وهي خاصة للمسلمات ، وقد بلغ عدد أعضائها في الإحصاء الأخير ثلاثة ملايين من المسلمات ، وإن شاء الله سأكتب لكل منهما مقالة خاصة
وبجانب هاتين الجمعيتين جمعيات إسلامية كثيرة ، وقد خطت هذه الجمعيات خطوة أخرى واسعة موفقة ، حيث إنها قد اتحدت جميعا في اتحاد واحد ، وعقدت في سنة ١٩٣٩ مؤتمرا هاما في مدينة جوكيا كارتا بجاوة ، وتقرر فيه تأليف اتحاد عام لهذه الجمعيات الكثيرة سمي " بمجلس الإسلام الأعلى " وقد عقد هذا المجلس عدة جلسات اتخذ فيها قرارات هامة كثيرة ، من أهمها مشروعان عظيمان وهما : إنشاء " جامعة إسلامية في إندونسيا " وثانيا إنشاء شركة الملاحة لنقل الحجاج الإندونسيين لأداء فريضة الحج إلى مكة المكرمة.
فلعل المسلمين الإندونسيين قد قاموا بتنفيذ هذين المشروعين العظيمين في خلال هذه السنوات الخمس التي انقطعت فيها عنا أخبارهم ، وسيبشر العالم الإسلامي إن شاء الله - عن قريب بنبأ ما قام به المسلمون الإندونسيون من المشاريع العمرانية والمدنية الإسلامية خلال هذه السنوات المضطربة
هذه لمحة سريعة عن حالة إندونسيا المسلمة التي استولى عليها المستعمرون منذ ثلاثة قرون ، بعد أن كان لها تاريخ المجد والعظمة ، مما لا يقل عما لغيرها من البلدان الأخرى . اليوم استولت عليها اليابان ، فكأنها تنتقل من استعمار إلى استعمار ، أي أنها تنتقل من نار إلى نار ؛ ولكن بعد أن كان المحيط الهادي قد اضطرب منذ سنتين والمحيط الهندي لا يزال في اضطراب ننتظر ان تنطفئ نار المحيطين ، ويصبح الاستعمار تعميرا وتصبح النار نورا.

