الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "الفكر"

العالم والمجتمع فى لبنان

Share

سأشير اشارة خاطفة فى هذا البحث الى العوامل التى تبعث العالم على الاستقصاء ، ثم سأعرض خصائص الشعب اللبنانى ومشاكله وضرورياته ورغباته . وسأذكر ، طبقا لهذا البرنامج الذى سطرناه ، المسؤليات المباشرة وغير المباشرة التى يضطلع بها العلماء كل فى ميدان عمله ، والتى تجعل منهم عناصر أساسية لحل المشاكل الراهنة ولاقامة مجتمع راشد تقدمى نشيط

المثقف - حسب التحديد المعروف - هو الرجل الذي ما ينى بعد اكتمال تكوينه الفكرى - يبدى اهتماما كبيرا بفن ثقافى يكمل فيه معلوماته دوما ويطمح جاهدا الى تزكيتها . وقد تكون مجهودات المثقف موجهة اما الى التعرف على ذاته أو على العالم الطبيعي والحياتي الذي يحيط به ، واما الى اكتشاف ميادين جديدة قصد الظفر بعناصر فى ميدان العلاقات الجسمية والعقلية التى تربط الفرد بسائر المخلوقات الانسانية الموجودة على سطح الارض

فالمجهودات التى يبذلها اليوم العلماء ، لاحتلال القضاء والكشف عن مختلف عناصره تؤكد رغبتهم فى اثراء معلوماتهم ، حتى وان كانت السلط العسكرية هى المشجعة لها .

وتاريخ المجتمعات يدلنا على أن هذه الادارة الفطرية التى تحرك العالم الى أن يزحزح حدود المجهول هي مصدر التقدم وهى التى تقى تدهور النظم الاجتماعية . أحل ، ان التطبيقات العلمية فى العلم تشجع العالم على أن يواصل جهوده ، الا أن العامل الذى يدفعه الى ذلك ليس عاملا خارجيا ، ولكنه داخل قيل كل شئ . فهو يبحث عن ارضاء رغبته لحب الاستطلاع فى سكرة الاكتشاف وفي خضم المغامرة المفتوحة بتجربة جديدة . وهو فى ذلك غير مكترث هل اليه سترجع ثمرة مجهوداته أو الى غيره . واذا ما طبقنا نتائج هذه المجهودات  فوجدناها مفيدة ظفرنا بمصادقة طيبة قد يحتج بها بعضهم ليعلل الاعانة التي يبذلها في سبيل النشاط العلمى ، ولكنها ليست الباعث الاساسي .

وقد لا يخضع العالم الى دافع داخلى فحسب ، بل هو قد يتأثر كثيرا بعوامل خارجية ، وقد يمكن أن نعلل هذه العوامل بالرضا الذى يشعر به عندما يحاول أن يبث الى غيره ، والى رعيل الشباب على الخصوص ، الحرارة التى أولدها فيه الاكتشاف الجديد والفرحة الخلاقة التى يشعر بها فى عمله .

من واجب العالم أيضا أن ينتهز كل فرصة فيستعمل عقله المثقف وخياله الخلاق وتفكيره التحليلى وعبارته المضبوطة وحكمه المخلص ومعلوماته الواسعة ليحسن توجيه المجتمع الذي يعيش فيه ، وليجعله مجتمعا افضل ماديا وعقليا

وعليه أيضا أن يرسم المبادئ التى ستكون القيم وافية بها . .

فهذه الاعتبارات التى قدمنا تقضى بوجود شروط أساسية أهمها :

أ ) حرية العمل

ب ) أمن اقتصادى معقول

ج ) جو يضمن وجود اتساع فى التفكير لاتسامح فحسب .

د ) احترام و ود .

وهاك ما يبلور اهمية هذه الشروط .

عندما كانت الحرب العالمية الثانية مندلعة ، كان توتر فورد Tuthea Ford وهو عضو المكتب الاستشارى العلمى البريطاني وابو الفيزيقا النووية ، يعمل في مخبره اذ دعى الى جلسة عمل فرفض الذهاب واجاب قائلا : « أظن أنى نجحت منذ قليل فى تجزئة الذرة ، وهذا فى نظرى أكثر أهمية من كل الحروب » وهكذا واصل عالمنا بحوثه وحيدا ، وما ظن احد حينذاك أن توتر فورد الذى كانت تجاربه مصدر الفيزيقا الحديثة قد كان بصدد وضع الحجر الاساسي للعهد الذرى . وأنه لامر عظيم الدلالة أن نرى توتر فورد يعلم أنه في وسعه عدم الانصياع لامر حكومته دون ان يتعرض لعواقب وخيمة

ولا شك فى أن هذه الملاحظات العامة المتعلقة بواجبات العالم تنطبق على كل مجموعة مهما كان وضعها الجغرافى . والعالم جزء حى في النظام الاجتماعي الذي يحيط به، لذلك كانت اهمية مسؤولياته مقيدة بشكل المجتمع الذى ينتمي اليه. علينا اذن ان نفحص فى سرعة عن خصائص المجتمع اللبناني وحاجاته

1) لبنان بلد صغير من حيث المساحة والسكان . وليس ثمة أمل في ان يصبح قوة عسكرية او قادرا على ان يحمى حدوده الشاسعة ، وليس له منتوجات يصدرها . فلا يمكنه أن يعتمد على ثراوته الطبيعية ولا على اقتصاده ولكن لبنان يتمتع بتراث فكرى واسع يدلنا على أن هذا البلد قادر أن يصبح كعبة يتخرج منها العلماء والادباء وان جودة مشاركته الثقافية الهامة فى اثراء التاريخ الانسانى كفيلة وحدها بأن تبرر الاستقلال الذى لا يفتأ هذا البلد يتمتع به فى اعتزاز ، وان تحقق له دوما المساندة المطلقة من بقية العالم

2 ) ولقد أعرب لبنان دوما عن تعلقه الشديد بحرية الصحافة وحرية التفكير

وتاريخه يشهد بذلك . وقد يمكن أن نرى فى ذلك نتيجة لوضعيته الجغرافية ، وقد يكون ذلك خاصية ورثها عن سكانه الاولين ، أولئك الذين حوربوا في معتقداتهم فاعتصموا بالجبال ولكنهم أظهروا استعدادا ليقبلوا في أرضهم من شرد وحورب في تفكيره

3 ) للبنان ثلاث جامعات ومعهدان للتعليم العالي . فالجامعة الامريكية ببيروت اضطلعت منذ قرن تقريبا بدور بعيد الاهمية فى كامل أنحاء هذه النقطة من العالم . وجامعة القديس يوسف ، وان كانت أقرب عهدا من الاولى ، فهى بعيدة التأثير فى المجتمع اللبنانى . ونعلم أن تقدم هاتين الجامعتين لا يعتمد على صيت جمع من العلماء ، ولكنهما انجبتا علماء عديدين فاز قسم منهم بصيت عالمى . فبفضلهما تحقق تفاعل الثقافات والاراء الغربية والشرقية ، وبفضلهما تحققت افاقة هذه البقعة من العالم للحضارة الحديثة

أما تقدمها فلا يزال مطردا منذ عشرات السنين ، وأهميتهما الراهنة تشهد بسلطانهما الثقافي الذي تتمتعان به في نظر اللبنانيين . وهذا مثال فريد في نوعه في العالم العربي وفي الشرق الاوسط جميعا . وهذا الفضل يرجع بدون شك الى هاتين الجامعتين ، وهذا الامر يدعم رغبة لبنان وطموحه في ان يصبح مركزا عقليا وثقافيا يرحل اليه الناس فى طلب العلم من البلاد المجاورة ومن بقية العالم . أما الطلبة والاساتذة فهم ينتمون حاليا الى 35 جنسية . . .

(4) والجامعة الثالثة هى جامعة لبنان ، اسست منذ عشر سنوات وترعرعت حول دار المعلمين ولبنان ينجب منذ عشرات السنين ، بفضل معاهد التكوين الصناعي ، معلمين وأطباء ومهندسين يفون بحاجات البلاد . ولقد فارق هؤلاء الرجال والنساء طوعا المعاهد التى كانوا فيها ، وهم يقومون بمهمتهم احسن قیام لفائدة مهنتهم ، وبدون ان يحاولوا فرض مذاهبهم على الذين يعايشونهم ولعل الامريكيون عكس ذلك لو كانوا مرتبطين بحكومتهم

(5) العربية لغة لبنان الرسمية . الا ان عددا من مظاهر هذه اللغة الجميلة الغنية يثير صعوبات اهمها :

(أ) الفرق الشاسع بين لغة التخاطب ولغة الكتابة ، فسهلت هذه الثنائية فى اللغة تكوين طريقتين في التفكير

ب ) الكتب الاساسية فى العربية لا تفى بالحاجة ، والمعاجم لا يفيد منها الا الذين برعوا في اللغة ، وهي ليست بنفع ذى بال لمن يريد دراسة هذه اللغة .

أما الاسفار التى تضمنها المكتبات فقليلا ما يظفر بها اذ لم تنظم تنظيما موحدا

ج ) من الصعب أن نتكلم بعبارات مضبوطة رغم غنى هذه اللغة أو قل لهذا السبب نفسه .

6 ) المجتمع اللبنانى يجتاز اليوم فترة انتقال اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية ، وهو يشهد تطورا سريعا ناتجا عن تاثير العلوم والفنون الحديثة . وما من شك فى أن هذه العلوم التى نشأت بعيدة عن الشعب اللبنانى سوف يكون تاثيرها فى لبنان مختلفا عن تأثيرها فى مجموعة غربية . فعندما لايشارك شعب فى انشاء فن حديث ثم يجنى مع ذلك فوائده ، لا يعدو أن يشعر باحترام ملؤه التعجب ازاء عظمة الآراء والمعارف التى يقوم عليها هذا الفن ، وهذا لا يدفعه أبدا الى تحسين هذه الاكتشافات أو الى العمل لتحقيق اختراعات جديدة

7 ) النفوذ الاجتماعى فى لبنان مرتبط فى معظمه بالوضعية السياسية للاشخاص أو بنجاحهم فى اشغالهم أو فى مهنهم الحرة . العالم اذن يتمتع باحترام كبير ولكنه يعوزه نفوذ رجل ثابت ثبوتا ماديا متأصلا

8 ) الحوادث الاخيرة التى اجتازها لبنان منذ زمن ليس بالبعيد تدلنا على أن وحدة لبنان مهددة بخلافات مصدرها أراء وافعال ناشئة عن عصبية منتشرة فى الاقاليم . فنتج عن كل هذا وضع عرض فيه على العالم الحد من نشاطه الفكرى المخلص . وليس غريبا أن يحلل رأى عالم جهرة أو سرا باعتبار مسقط رأسه واعتقاداته الدينية . واذا اما اعتبرنا القيم ، ورغبات المجتمع اللبنانى " وحاجاته الخاصة وانتشار صيت لبنان فى كامل الشرق الاوسط ، أمكن أن نلخص مهمة العالم كما يلى :

أ ) على العالم أن ينصف اتجاهه الفكرى ويغذيه كى يبقى فى مستوى عال ، أن يستعمل جميع ما فى وسعه لفائدة اختصاصه ، أن يزكى الثقة التى وضعتها المجموعة فى عبقريته الخلاقة فيزيد هكذا فى احترام شأن الباحث ، أن يجعل المجتمع واعيا لوجوده فيشارك في منح مهنة العالم نفوذا ستقبله التقاليد .

ب ) وعلى العالم أن يكون مربين للمستقبل ، وأن ينمي في الطبقة الممتازة منهم حب هذه المهنة وأن يبث فيهم النشاط الذى يدفعهم الى البحث والاستزادة من العرفان . نعلم أن العالم اليوم فى حاجة ملحة الى الاساتذة . لهذا يجب على كل دولة ان تعتنى بتكوين اساتذتها ، الا انه من واجب البلد الصغير أن

يحذر مغبة العيش منكمشا على نفسه اذ أن تبادل العلماء والاساتذة والطلاب أمر ضرورى لاطراد التقدم . فسيقصد العلماء الاجنبيون لبنان اذا ما كانت مراكزها الثقافية متأهبة لان تكونهم تكوينا عاليا . لذلك سيكون للمؤتمرات الثقافية العالمية فى لبنان تأثير بعيد فى هذا المضمار

ج ) على العالم أن يشارك فى انشاء طريقة تفكيرية . فالعلماء هم المسؤولون الاولون على بعث طريقة فى التفكير أساسها البحث الموضوع الموضوعى العلمى وخاصيتها الاخلاص العقلي سواء فى فن الطب أو فى فن التجارة . فالجامعات هى التى تعد رجال الدولة ، ورجال القضاء ، وبعبارة أوجز جميع الذين يسيرون سياسة البلاد . لذلك وجب على العالم أن يبث فى هؤلاء جميعا حب التفكير الموضوعي والعمل المخلص ، خصوصا فى هذا العصر الذى طغت فيه على الناس موجة التفكير العاطفى.

د ) على العالم أن يضبط المذاهب الفكرية الماسة بالميادين الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية ، فيعمل بذلك على تطوير العدالة الاجتماعية والتقدم الفني والمساواة فى نظام يقوم فيه الحكم على الديموقراطية وعليه أن يحدد الاهداف التى ترمي الامة الى تحقيقها فيعمل هكذا على توحيد جميع عناصر المجتمع . وعليه أن يزيل العقبات التى فرضتها على البلاد الازمة الاخيرة وأن يبث باخلاص حرية التفكير والتعبير ، وحرية التحليل والنقد والرفض ان دعت الضرورة لذلك . وهكذا يصبح العالم باعثا على الاستقرار بعد هذا الغموض الناشئ عن الاضطرابات الاخيرة.

ه ) واجب على العالم أن يعمل على تبسيط اللغة لا ليطمس جمالها ولكن ليسهل استعمالها . وعليه أن يستعمل لغة واحدة لا لغتين ، وأن يجعل المراجع والمصادر أسهل استعمالا وأكثر نفعا . فللعالم اللبنانى يرجع الفضل فى احياء اللغة العربية فى مطلع هذا القرن

و ) وعليه فى النهاية أن يقرب مختلف الفنون والثقافات والمذاهب الفكرية بعضها من بعض ، وأن يكون حامي حمى حرية العمل المتبادلة وحرية التفكير .

اشترك في نشرتنا البريدية