ملك الأفغان :
رحبت مصر بالأمس بضيف كريم ، هو صاحب الجلالة ملك أفغانستان . ولئن فرقت بين بلاده ومصر تلك المسافات الشاسعة والفياقي الواسعة ، فإن أواصر المودة والصداقة ، كفيلة أن تطوي المسافات ، وتقرب الأبعاد ، حتى ولو لم تقربها الطائرات ووسائل النقل الحديثة .
وبلاد الأفغان توصف عادة بأنها سويسرة آسيا ، ووجوه الشبه بين البلدين كثيرة ، فهي مثل سويسرة قطر تختطه الجبال العالية ، والوصول إليها من الجنوب لا يتيسر إلا بواسطة ممرات ومسالك مهدتها الطبيعة وسط الجبال الوعرة ، كما هي الحال في سويسرة ؛ أما الوصول إليها من الشمال ومن الغرب فأيسر وأهون نوعا ما . وهي مثل سويسرة تحيط بها دول عظيمة ، ثمن الجنوب دولة الهند ( مثل إيطاليا بالنسبة إلى سويسرة ) ، ومن الشمال تتاخم حدودها إمبراطورية السوفييت (بدلا من ألمانيا )، ومن الغرب تتصل اتصالا يسيرا ببلاد إيران كما تتصل سويسرة اتصالا سهلا بفرنسا .
وهي مثل سويسرة محرومة من السواحل ، ولا بد لتجارتها الخارجية أن تسلك أرض جيرانها في الجنوب . وأهم طريق لتجارة الأفغان ميناء كراتشي عاصمة باكستان الجديدة . وفي موقعها الجغرافي هذا تفسير لتاريخها القديم والحديث . فقد ظلت فترة من الزمن تتنازعها سلطة إيران
من الغرب ، وسلطان دولة المغول من الشرق والجنوب . ولكن إخضاعها بصفة دائمة لم يكن امرا سهلا ميسورا ، ولم يكن متاحا إلا في زمن الملوك الأقوياء . فإذا ضعفت شوكتهم نهضت البلاد مطالبة باستقلالها . وقد جاهدت في سبيل هذا الاستغلال جهادا عنيفا متصلا في غضون القرن الثامن عشر والتاسع عشر . وكانت مضطرة أثناء ذلك إلى مجاراة جيرانها الأقوياء ، فكانت تغير على الهند وإيران ، وتقتطع منهما مساحات عظيمة تحكمها وتضمها إليها فترة من الزمن . وهكذا استمر هذا المد والجزر والدفع والجذب ، حتى استقرت حدود الدولة حيث هي اليوم .
ولعل أهم حادث في تاريخ الأفعان الحديث ، ظهور جار جديد في الشمال ، في إقليم لم يكن مصدر خطر للبلاد في أي وقت من الأوقات . فقد امتد سلطان الدب الروسي إلي بلاد التركستان ، وبسط سلطانه على نهر سيحون وجيحون ، واستولي على بخاري وسمرقند . فأصبحت حدوده ملاصقة من الشمال لحدود الأفغان . ولما كانت بلاد الأفغان هي مفتاح الهند ، عنيت بريطانيا بأن يحفظ للأفغانين استقلالهم ، لكي تقف حائلا دون توغل الدب الروسي نحو الجنوب . وحرصت بريطانيا في معاهدة سنة ١٩٠٧ التي عقدت بينها وبين روسيا ، على النص بأن بلاد الأفعان خارجة عن منطقة النفوذ الروسي . وقد تقلص عهد القياصرة ، وجاء من بعده عهد البلاشفة ، ولهم برنامجهم الاستعماري الذي يشمل
بلادا وأقطارا لم يكن القياصرة يحلمون بالوصول إليها . وأصبحت بلاد الأفغان في الخط الأمامى الذي يواجه هذه الحالة الجديدة . ولا شك أن الجهود تبذل لكي تنحاز أقغانستان لأحد المعسكرين ، ولكن العقل والحزم يقضيان بأن تقف البلاد موقفا محايداً .
واليوم وقد تألفت في الجنوب دولة باكستان ، وثار نزاع بينها وبين الهند حول كشمير المجاورة لبلاد الأفغان ، فجدير بهذه الدولة الكريمة أن تكون واسطة خير بين جارتيها ، وألا تميل أو تتحيز لأحد الفريقين . فإن صداقة كل من الهند وباكستان يجب أن تكون محورا أساسيا للسياسة الخارجية الأفغانية . ولكن حدث في الماضي القريب ما يعكر صفو العلاقات بين أفغانستان وباكستان ، فإن ما بين البلدين من أواصر القرابة والمودة كفيل أن يزيل تلك السحب العارضة . ولعل هذه الزيارة الكريمة بما تتيحه للزائر العظيم من الاطلاع على ما بين جميع البلاد الإسلامية من روابط الإخاء ، أن تكون عاملا في توطيد الصلات بين الأفغان وجيرانهم في الجنوب والشرق .
بعد المؤتمر الأمريكى :
عقد الساسة الأمريكييون في دار سفارتهم بالقاهرة مؤتمرا ضم عددا كبيرا من ممثليهم في جميع أقطار الشرق الأوسط ، وقد سبق لهم عقد مؤتمر مشابه في استامبول في الخريف الماضي ، شهده رؤساء البعثات السياسية . أما المؤتمر الحالي فلم يشهده من رؤساء البعثات سوى سفير الولايات المتحدة في مصر . ومع ذلك فقد شهده السفير المتجول مستر جيسوب ، ولو بصفة غير رسمية . فقد أعلن قبل عقد المؤتمر أن الذين سيشهدونه هم رجال الصف الثاني من أعضاء السلك السياسي ، لكي يقوموا بدراسة التفاصيل للمسائل التي تقررت في استامبول ، حيث رسمت الخطط الأساسية . غير أن حضور مستر جيسوب لا يمكن أن يكون من قبيل المصادفة البحتة . وهو من غير شك ليس من رجال الصف الثاني ، بل لعله يحتل في السياسة الأمريكية مكانا أعلى مما يحتله رجال الصف الأول في الشرق الأوسط ، لأن مركزه يجيء بعد وزير الخارجية الأمريكية مباشرة . وهو يوشك أن يكون أبرز الممثلين للولايات المتحدة في مؤتمرات الأمم
المتحدة . وله علم دقيق بشئون الشرق الأوسط ، وبالموقف غير المشرف الذي وقفته دولته من مشكلة فلسطين
كذلك ليس من محض المصادفة أن وفد إلي القاهرة في الوقت نفسه مثل الولايات في موسكو الأميرال ألان كيرك . ولعل حضور هذا الأميرال هو الذي يفسر وجود مستر جبسوب في الوقت نفسه . فالمؤتمر المعقود في السفارة الأمريكية يحتل المكان الثاني بالنسبة للمؤتمر الذي يعده هذان الرجلان والمحادثات التي تدور بينهما . وربما لم يكن للشرق الأوسط سوى مكان ثانوي فيها .
ويحق لنا أن نتساءل عن فائدة هذه المؤتمرات في توجيه سياسة أمريكا ، بعد الدور المحزن الذي لعبته حكومتها في الشرق الأوسط . والذي جلب الويل والشقاء لمئات الآلاف من سكانه . وماذا تفيد النصائح التي يبذلها المؤتمرون لحكومتهم ، والقرارات التي يتخذونها ، إذا كانت هذه الحكومة ستضرب بهذه النصائح والقرارات عرض الحائط لقد كان الساسة الأمريكيون الذين يمثلون بلادهم في الشرق الأوسط ، معترضين دائما أشد الاعتراض ، على السياسة الصهيونية التي تتبعها واشنطن . بل كان الأمريكيون الذين يعيشون في الشرق الأوسط جميعا منكرين لها أشد الإنكار .
فماذا أجدي إنكارهم وماذا أفادت نصائحهم ؟ إن المتحمس منهم كان يقصى عن منصبه ، أو يعتزله من تلقاء نفسه ، حين يري حكومة واشنطن تنساق منقادة وراء الصهيونيين . ولم يعرف عن واشنطن أنها رفضت لهؤلاء مطلبا أو منعتهم من تحقيق مأرب يبتغونه ، مهما كان مسرفا مجحفا ظالما . وواشنطن هي التي دفعت الدول الصغيرة دفعا إلى التصويت بإنشاء دولة للصهيونيين ، في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة ، فأنزلت بالشرق الأوسط كارثة لن يزيل آثارها ألف مؤتمر ومؤتمر . ومع ذلك فنحن في مصر لا نزال حريصين على صداقة الولايات المتحدة ، لأننا مؤمنون بأن الشعب الأمريكي برئ من السياسة الخرقاء التي اتبعتها حكومته . ولذلك يرحب بالمؤتمر والمؤتمرين ، وتتمني لهم النجاح فيما يتخذون من رأي ونرجو لهم نجاحا أكبر في إقناع حكومتهم بأن تهتدي إلى سواها وان تتحرر من النير الصهيوني الذي خضعت ك على السنين الطوال .
