الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 643الرجوع إلى "الثقافة"

العامل الأساسى فى انهيار دول المسلمين

Share

كان ابن خلدون حادق النظر حينما وضع قانونه المعروف في أعمار الدول ، ودل برأيه هذا على علم تام بتاريخ الدول الإسلامية ، وقدرة نادرة على الإحاطة والشمول واستخراج "العبر" من تواريخ البشر وتجارب الأمم ، ولكن هذه الحصافة لم تلازمه عندما أراد تعليل انتقال الدول من دور لدور ؛ فاصطنع المنطق الصرف ، وشبه الأمم بالكائنات الحية التي تنتقل في أعمارها من طور إلى طور وفقا لنظام بيولوجى معروف ؛ فكما ينتقل الكائن الحي من توفز الشباب إلى ثبات الرجولة ، ومن ثبات الرجولة إلى حكمة الكهولة ، ومن حكمة الكهولة إلى تضعضع المشيب ؛ فكذلك الدول تنتقل من طور البداوة والتوفز والاندفاع والفتوح إلى طور إنشاء الدولات ثم تثبيتها ثم تضعضعها بتأثير عوامل الترف والرخاوة التى تصاحب الاستقرار والرخاء والتمدن .

أقام ابن خلدون نظريته تلك على أساس منطقي صرف لا يعتمد على نظر صحيح في حقيقة العوامل الداخلية التى كانت تعمل بنشاط في كيان دول الإسلام ، ومجرد تعليله الانهيار بشيوع الترف بين أهل الدول الإسلامية يدل على

قلة عنايته بدراسة الأحوال العامة للمجتمع الإسلامي وعلاقة الأحوال بالتطور التاريخي ؛ فالواقع أن ما نسميه ترفا لم يمس إلا الطبقات العليا من أهل الدولة ؛ ثم يمس إلا الخلفاء والوزراء والسروات ، أما بقية المسلمين فلم يمر الترف لهم بباب ، وإنما كانت حياتهم شظفا متصلا وجهادا عنيفا في سبيل العيش ، بل لعل العربي العادي كان أكثر راحة وأرخي بالا مما أصبح عليه في العصور الإسلامية ، فقد كان يمرح في الجاهلية في بلهنية متصلة وفراغ رحب من الزمان والمكان ، فما دخل في عصور الإسلام وقامت من فوقه الدول عرف الضرائب والجبايات ، وفرضت عليه البعوث فقل شعوره بالراحة وترف النفس ؛ ومن ثم فنحن لا نستطيع القول بأن عصور الإسلام قد نقلته من شدة إلى رخاء ، ومن حاجة إلى كفاية ، ومن ثم فلا معنى للقول بأن العنصر العربي قد ضعف بسبب ما جد عليه من أسباب الرخاء وألوان المتاع التي تضعف النفس وتذهب بالصلابة وتضعف عوامل الاندفاع والترقب في نفوس البشر ، ونخطئ إذا حسبنا أن العرب الدين انتفلوا من جزيرتهم إلى الأمصار ، وجدوا في مواطنهم الجديدة عيشا سهلا رخيا

يأتي دون نصب ، لأن الواقع أن الذي استمتع بذلك كان نفرأ قليلا من سادتهم ، أما الباقون فلم يكن لهم سبيل إلى العيش إلا عن طريق معاناة الحرب أو الزراعة واتخاذ الحرف وما إليها من وسائل المكاسب والأرزاق .

يبد أن هناك لونا من " الترف " جد على حياة الناس جميعا بعد دخولهم الإسلام ، هو " النساء " ولم ينظر ابن خلدون أو غيره من المؤرخين إلى هذا العامل الجديد على أنه لون من ألوان الترف إلا في الحالات التي أسرف الناس فيها إسرافا زائدا ؛ فزواج الرجل بأربع نسوة في نظر ابن خلدون مسألة عادية لا تدخل في باب الإسراف ، وتسريه باثنتين أو ثلاث إلى جانبهن أمر طبيعبي في نظره كذلك . أما ما يعتبره إسرافا خطرا مؤديا إلى الفساد فاقتناء العشرات والمئات واتخاذ الحريم والاستغراق فيما يتصل بحياة الحريم من الشراب والغناء وما يصحب ذلك من انصراف عن أمور الدنيا ومشاكل الدولات . لم يعتبر المؤرخون الإسلاميون تعدد النساء في البيت الإسلامي ترفا يؤدي إلى الفساد ، لمجرد أنه كان حالة شرعية ، ومن ثم فلا معنى للنظر إليه كعلة من علل الضعف والانهيار ، وهذه الحالة لا تستتوقف النظر إلا إذا خرج بها صاحبها عن المألوف ، فأسرف في الاستمتاع بنسائه وجواريه ، أما أثر تعدد النساء في الأسرة وكيانها ، وأما تحلل روابط الأخوة بين الأبناء لصدورهم عن أمهات مختلفات ، وأما انصراف الرجال عن شئون أبنائهم وعجزهم عن تربيتهم بسبب كثرة النساء والأولاد أيضا وثقل المسئوليات المادية التي يحملها الرجال نتيجة لذلك ، وأما فساد نفوس النساء وهو ان أمرهن بسبب كثرتهن تحت سقف واحد وتزاحمهن على رجل واحد ، وأما خروج المرأة من المجتمع الإسلامي كعضو نافع عامل بسبب عدم الأمان الذي كانت تشعر به باستمرار نتيجة لتمتع الرجال بحق الطلاق غير مقيدين إلا بقيود مالية قليلة جدا ، أما ذلك كله وغيره كثير فلم يلتفت إليه مؤرخ قديم ولا محدث . لأن القديم كان يعتبره حالة حالة طبيعية للبشر ، وأما الحديث فيعوزه صدق العلم بدقائق تاريخ المسلمين ، وتعوزه الشجاعة كذلك في أحيان كثيرة .

وينبغي أن نشير في معرض الكلام على هذا الموضوع إلى أن " الإنسان " هو مصدر التاريخ وصانعه ، وأن أسباب كل ما نراه من صعود الدولات وهبوطها كامنة في

نفوس من أقاموا هذه الحضارة أو هبطوا بها ، لأن العوامل الخارجة عن الإنسان لا تؤثر إلا على الأجيال الطويلة والأماد المترامية ، حتى الأعداء الخارجيون لا يستطيعون إزالة دولة من الدول إلا إذا كان أهلها مستعدين للزوال ، والباحث في التاريخ ينبغي أن يوجه همه إلى الإنسان نفسه وما يجري في داخله من التطورات ؛ لأن الدول تسقط - أول ما تسقط - في قلوب الرجال .

وأجيال البشر لا تضعف أو تنحط وتفقد قواها بمجرد مرور الزمان . وتشبيه الأمم بجسم الإنسان تشبيه خاطئ . فأعضاء الجسد تضعف لأنها لا تتغير ، أما أعضاء الأمم فتتغير وتتبدل ، كلما هلك جيل جدا جيل ، فليس في تطور الأمم شباب أو كهولة أو شيخوخة ، وكل جيل جديد شاب في ذاته ، فإذا كانت الأمم تضعف وتتلاشي فلعوامل أخرى غير الهرم والشيخوخة وغير ذلك من الفلسفات التي لا تقوم على نظر صحيح .

وثمة حقيقة اخرى ينبغي أن نلم بها قبل أن نبحث في علة انهيار دول المسلمين ، وهي أن كيان الإنسان لا يضعف ولا يتغير ما دام جاريا في حياته على الأسلوب الطبيعي الذي هيأه له تكوينه ، وكيان الإنسان مهيأ ليحتمل نصابا معينا ، سواء في غذائه أو علاقاته الجنسية ، فإذا أسرف في الطعام أو هبط به عن النصاب المقرر ، أو إذا أسرف في علاقاته الجنسية أو أوقف عملها تماما تأثر كيانه وتعرض للتلف ؟ ومن ثم كان الغذاء والعامل الجنسي أبعد اثر في تاريخ البشر ودولهم من تلك القوانين الخاطئة التي فرضها فلاسفة التاريخ دون نظر صحيح إلى حقيقة الطبع البشري الذي هو أساس التاريخ ومادته الخامة .

والإسلام عندما أباح للمسلم الزواج بأربع والتسري بملك اليمين إنما رمي من وراء ذلك إلى إيجاد توازن معقول لمجموعة الإسلامية ؛ فهو قد فرض على المسلمين الجهاد في سبيل الدين ، ووضع على عواتقهم مهمة إدخال شعوب الأرض في هذا الدين ، ثم كلفهم بالقيام على صيانة المجتمع من الفساد ، وهذه كلها أمور تتطلب منهم جهدا متصلا ، وتعرضهم للموت ، فتنقص أعدادهم باستمرار ، بينما أعداد النساء لا تنقص ، فلا بد والحالة هذه من أن يتحمل الرجل أكثر من امرأة حتى لا يغص المجتمع بأعداد كثيرة من نساء بلا رجال ، فهو إذا كان قد أباح للرجال الزواج بأكثر

من واحدة فعلى شريطة أن يقيموا على الجهاد والوفاء بمطالب الدولة . ولكن المسلمين على عهدهم أقبلوا على الرخص دون أداء مطالبها ، وجعلوا المسألة استمتاعا خالصا ، واجتهد الفقهاء في إفهامهم أن الله قد شرع ذلك لمجرد التفريج عن الرجال وتيسير الاستمتاع لهم ، كأنما هم وحدهم من دون النساء عباد الله ، فللرجل أن يطلق ويتزوج مثنى وثلاث على هواه ، وليس للمرأة إلا أن تتمتع بنصيبها من الرجال ، وكان ينبغي ان تتوقف إباحة تعدد الزواج إذا توقفت الفتوح ، لأنها علاج لما ينشأ عن الحروب والغزوات ، وقد أتي الضرر من استرسال المسلمين فيها لمجرد الاستمتاع .

كانت النتيجة الأولى لهذا الاسترسال في مسائل الزواج والطلاق أن أصبحت المرأة في وضع عسير جدا في المجتمع الإسلامي ؛ أصبحت تعيش في بيتها مهددة بالطلاق والتسريح بإحسان أو بغير احسان ، فالأمران في النهاية واحد بالنسبة للمرأة - وغدت لا تحس أن لها بيتا ، لأن الرجل يستطيع ينفيها منه في غمضة عين ، ولأن الرجل يستطيع أن يأتي أخرى وثالثة ورابعة ، ففقدت الشعور بالأمان الذي يستطيع إنسان العمل بدونه ، وتوقفت عن القيام بواجبها لأول وهو تربية الأولاد ورعايتهم ، واستعمل الرجل حقه الي أقصى حد ، وأذلها بهذا الحق وأهانها وأفقدها سيادتها ، لم تعد تصلح للقيام على أبنائها وتربيتهم : وكيف تربي غيرها هي مخلوق ذليل مسكين يهينه الرجل ويطرده من بيته يحقره أمام أبنائه ؟ وكيف تشعر بقيمة في نفسها وهي دى الرجل يشتري من هي أجمل منها ببضعة دنانير ! كيف محترم الولد أمه ، وهو يعرف أنها مشتراة من السوق .

ثم ، كيف تكون الأسرة أسرة صالحة وتحت سقفها امرأتان أو أكثر يتنازعن عن رجلا واحدا ويدبرن عليه وعلى انفسهن ؟ وكيف يقوم الرجل بحقوق أبنائه وهو يراهم يتزايدون في العدد يوما بعد يوم وإيراده قليل لا يزيد ! وكيف يتسع المجال مع هذا كله لنمو العواطف الكريمة أفراد الأسرة ؟ لقد تعودت المرأة أن تنظر إلى بينها أنه سجن ، وإلى زوجها على أنه جلاد ، وتعود الرجل أن ينظر إلى بيته على أنه مأوي يقضي فيه ساعات الليل ، فإذا فإذا طلع النهار هرب من متاعبه ومسئولياته . وضاق البيت بالعيال فخرجوا إلى الطرقات وتربوا في ترابها ، وضاعت

الأسرة التي هي نواة المجتمع ؛ وعلى أنقاض أسر مهدمة مفككة مضطرية قام المجتمع الإسلامي - في كل ناحية - على أسس واهية مضطربة ، وحيل بين الأولاد وبين التربية ، فنشأوا كما تريد لهم المقادير ، وعم الفقر لكثرة الأولاد .

هذه الحال تنطبق على الكبير والصغير في المجتمع الإسلامي : كانت بلاء عاما شقي به الناس أجمعين . وفي كتابات الجاحظ مئات الأمثلة التي تدلنا على الشر الجسيم الذي نشأ عن هذا الوضع ؛ والمؤرخ الذي يبحث عن العلل الحقيقية للأشياء بضع يده على هذه الحقيقة ويقدر انها السبب الأول للانحلال ، لا مجرد تداول الأجيال أو شيوع الترف ، ولو عثا عن " الترف " في المجتمع الإسلامي لما وجدنا منه إلا مظاهر قليلة جدا تتجلي في بيوت الأغنياء . أما بقية المجتمع فقد كان ففيرا معدما ، ولا ترف مع الفقر الذي ساد المجتمعات الاسلامية كلها ، نتيجة لإسراف الرجال في استعمال حقهم في الزواج والطلاق ، وتعديد الزوجات وما نتج عن ذلك من كثرة الأولاد وثقل المسئوليات . والمجتمع الإسلامي هو المجتمع الوحيد في التاريخ الذي أراد أن ينهض دون أن تكون فيه " أسرة " فكان لهذا مجتمعا غير طبيعي ، ولم يكن له محيص عن التفكك والانهيار .

وثمة ناحية اخري لا تقل عن هذه أهمية ، وهي إقبال حكام المسلمين وأصحاب الثروة فيهم على شراء الجواري ، فكانت بيوتهم غاصة بأصنافهن من كل جنس ولون ، وكان الصبي إذا أدرك البلوغ لم يجد ما يحول بينه وبين الاستمتاع بمن في البيت من الجواري ، فكان الأمير إذا بلغ السن انطلق على النساء لا يحجزه عقل ، وأسرف في هذا إسرافا شديدا ، حتى إذا بلغ الخاصة والعشرين أو الثلاثين كان قد استنفد نشاطه واستفرغ قواه الحيوية وضعف كيانه وهزل وذبل ، وبدت عليه علائم الشيخوخة وهو بعد في سن الشباب ، فخمدت قواه وقلت همته وتضعضع جسده نتيجة للخروج في هذه الناحية عن نصاب طبيعي مقدر ، وعلى هذه الحال كان أولئك الرجال يتناولون أمور الدولة ويحاولون تصريفها ، وتستطيع أن تتصور كيف يديرون وكيف ينصرفون ؛ لقد خلف لنا الصولى في " أوراقه " صورا لحياة أميرين أصبحا فيما بعد خليفتين هما الراضى والمتقي ،

( البقية على الصفحة التالية )

نضع أيدينا على سر الفساد والخمول اللذين سادا القصر الخليفى كله نتيجة لهذا الإسراف . وبين أيدينا مذكرات أمير مسلم آخر هو عبد الله آخر أمراء بني زيرى الغرناطيين ، يقص الأمير في سطورها كيف أقبل على النساء في سن باكره وكيف أجهده ذلك وأضعف قواه وأطلعه جبانا متخوفا . وصور لنا كيف كان يعيش في جو نسائي تسوده المؤامرات والمتاعب ، ويحكى لنا كيف أهلكت النساء والخمر جده وكيف فقد أبوه حياته في مؤامرات الحريم ؛ وهذه كلها صور تعرفنا بالسبب الحقيقي لفساد أمور الدول الإسلامية .

وكيف بأن نطالب رجلا يقضى شبابه مقبلا على النساء لياليه كلها وبعض النهاره بأن يكون صافي الذهن يقظ النفس لديه من الهمة والاستعداد ما يمكنه من مواجهة المصاعب وحل المشكلات ؛ ليس بالغريب في هذه الحالة أن نجد معظم أمراء المسلمين وخلفاءهم قصار الأعمار ، لأن استنزاف قوي

الجسد في سنوات الحياة الأولى يسرع بالرجال إلى الموت ؛ وما من خليفة مسلم لدينا شئ صالح من المعلومات عن حياته إلا نجده مريضا بأكثر من داء عضال ، وكل ذلك ناتج عن نضوب موارد الحياة في الأجساد ، وللأجساد كما قلنا نصاب معين ؛ فإذا أنت أسرفت عليها في ناحية دب إليها الفساد ، وإذا دب الفساد في الأجساد هبطت الهمم وأسرع الانحطاط العام

لقد سار التاريخ الإسلامي سيرا غير طبيعي ، لأن حياة الناس أنفسهم كانت غير طبيعية ، وتداولت قيادته شعوب بعد شعوب : العرب فالفرس فالترك فالسلاجفة فالمماليك فالأتراك العثمانيون ، وكلما دخل شعب منها رحابه وحمل رايته وسار بها قليلا سقط صريع هذا الداء العضال ، وانحط وخرج من الميدان ، وحل محله غيره ليسقط بعد قليل ، لا لعلة الهرم وقانون الأجيال ، بل لانعدام الأسرة . وهوان النساء والإسراف على الأجساد

اشترك في نشرتنا البريدية