فجيعة الشعر العربى فى حافظ وشوق يعز عليها الصبر، ويعوز منها العوض، ويصرف أساها الناقدين عن تقويم الميراث العزيز الى تعظيم الموروث الأعز. وليس مما يزكو بالمنصف أن يجشم نظره رؤية الحق من خلال الدموع، فان فى ذلك اعتداء على العقل أو إساءة إلى العاطفة. وهذه الكلمة انما نستجيز ذكرها اليوم لأنها إلى الهتاف بالعظيمين أقرب منها إلى النقد، ولأن ما يكتب عنهما الساعة إنما هو تقييد لعفو الرأى وتمهيد لأسباب الحكم الصحيح.
شوقى شاعر العبقرية وحافظ شاعر القريحة. وتقرير الفرق بين الموهوبين هو تقرير الفرق بين الرجلين. فالقريحة ملكة يملك بها صاحبها الابانة عن نفسه بأسلوب يقره الفن ويرضاه الذوق. ومن خصائصها الوضوح والاتساق والأناقة والسهولة والطبعية والدقة. أما العبقرية فضرب من الالهام يستمر استمرارا تجدديا فتلازم أحيانا وتنفك حينا. ومن أخص صفاتها الأصالة والابداع والخلق. فالرجل العبقرى إذن يعلو ثم ينتقل تبعا لقيام العبقرية به أو انفكاكها عنه. وهو يشخب الشعر غالبا فيرسله من فيض الخاطر كما يجئ دون تنقيح له ولا تأنق فيه، ثم هو فى عظام الأمور سباق وفى محاقرها متخلف، لأن الجليل يوقظ خاطره ويحفز طبعه والتافه الوضيع يتخزل عن مكانه فلا يبلغ موضع التأثير فيه وقد يعنى
لسبب من الأسباب بعامى الأشياء أو سوقى الآراء فيبعث فيه من روحه ما يحييه، ومن حرارته ما يقويه، ومن أشعته ما يظهر فيه الطرافة والجدة كما تظهر الشمس كرات التبر فى عروق الصخور! فالقريحة كما ترى توجد الصورة والعبقرية تبدع المخلوق. ومزية الأولى فى الصنعة وتقديرها فى التفصيل، ومزية الأخرى فى الابتكار وتقديرها فى الجملة. فاذا قرأت قصيدة لذي القريحة راقك منها جرس الحروف ونغم الكلمات واتساق الجمل وبراعة البيت، ولكنك تفرغ منها وليس لها أثر فى نفسك ولا صورة فى ذهنك. أما العبقريات فحسبك أن تذكر عنوانها لتشعر بها، وتتصور موضوعها لتتأثر منها.
ذو القريحة يقول ما يقول الناس، ولكنه يصوره بقوة ويؤديه بدقة وينسقه بذوق ويهذبه بفن، وذوو العبقرية على نقيضه. ينظر ويشعر ويفكر ويقدر على طريقته الخاصة. فاذا وضع خطة أو رسم صورة أو بحث فكرة أخرجها على طراز قد فتحسبها مبتكرة وقد تكون مسبوقة، لأنه استطاع بقوة لحظه ولقانة طبعه أن يريك فروقا لم ترها، ويقفك على تفاصيل لم تتصورها، ويفجر لك النهر من حيث لم يستطع غيره أن يفجر الجدول .. والرجل العادى ينظر بالعين فكأنه لسطحيته لم ير! والعبقرى يرى باللمح فكأنه لزكاته لم ينظر!
على أن هناك فرصا للكمال تجتمع فيها على الوئام العبقرية والقريحة، فيسلم الفنان حينئذ من التفاوت القبيح بين إصعاده وإسفافه، أو بين جيده، ورديئه. لأن العبقرية إذا غفت خلفتها القريحة، والقريحه إذا كسبت سندتها العبقرية. على ذلك تستطيع أن تقول إن أبا نواس وأبا فراس والشريف من رجال القريحة وإن أبا تمام وأبا العتاهية والمتنبى من رجال العبقرية. وإن البحترى وابن الرومى من جمع فى الكثير الغالب بين الموهبتين. وتستطيع
كذلك أن تعلل أمثال قول البحترى ف أبى تمام: جيده خير من جيدى ورديئى خير من رديئه؛ وقول الأصمعى فى أبى العتاهية: إن شعره كساحة الملوك يقع فيها الجوهر والذهب والخزف والنوى، وقول الثعالبى فى المتنبي: كان كثير التفاوت فى شعره فيجمع بين الدرة والآجرة، ويتبع الفقرة الغراء بالكلمة العوراء، وقولهم فى ابن الرومى: إنه امتاز بتوليد المعنى واستقصائه وسلامة شعره على الطول
أخطر ببالك بعد ذلك حافظا تجد أول ما يبهرك منه لفظه المونق وأسلوبه المشرق وقافيته المروضة وصوره الأخاذة. فأما الروح والموضوع فأصداء منبعثة من الماضى فى فردياته وآراء مقتبسة من الحاضر فى اجتماعياته، فحافظ لم يستطع لضيق مضطربه وقصور خياله وضعف ثقافته أن يعنى بغير الشكل والصورة، وكانت هذه العناية من اليقظة والحرص بحيث لم تغفل عن خلل ولم تعى بصقال. فاذا تهيأ للشعر أو للنثر عمد الى الآراء التى تختلج حينئذ فى النفوس وتستفيض فى المجامع وتتردد فى الصحف فيجمعها فى باله ويديرها فى خاطره ثم يكون همه بعد ذلك أن يصوغها فيحسن الصوغ ويسبكها فيجيد السبك، وتقرأ بعد ذلك أو تسمع فاذا نسق مطرد واسلوب سائغ وشئ كأنك سمعته من قبل ولكن عليه طابع حافظ ووسمه.
وحافظ يتحمل من بناء القصيدة رهقا شديدا، لأنه يلدها فكرة فكرة، ويبض بها قطرة قطرة، ويتصيد المعانى فيقيدها فى مفردات أو مقطوعات، فربما وقع له ختام القصيدة قبل مطلعها، وعثر على عجز البيت قبل صدره، ثم يعود فيرتب هذه الأبيات لأدنى ملابسة وأوهى صلة! وتجئ الصنعة البارعة فتخدعك عن الخلل بالطلاء، وعن التفكك بارتباط الأسلوب.
ثم أخطر ببالك بعد ذلك شوقى تجده غير محدود بالصنعة ولا مقيد بالشكل، وإنما هو فيض يسخر بالحدود، ونور ينفذ من الستور، والهام يتصل باللانهاية، وشاعر كالمتنبي أو كهوجو يفتح مطلع القصيدة فكأنما يفتح لك باب السماء! فأنت من شوقي حيال شاعر روحه أقوى من فنه، وشعره أوسع من علمه، وحكمته أمتن من خلقه، وقدرته أكبر من استعداده، فلا تشك
فى أنه وسيط لروح خفية تقوده، ورسول لقوة إلهية تلهمه، ثم تفارقه حينا تلك الروح وتفرق عنه هذه القوة فيعود رجلا أقل من الرجال، وشاعرا أضعف من الشعراء، فينظم فى افتتاح الجامعة ومشروع القرش وما الى ذلك، فيأتى بما لا وزن له فى النقد ولا مساغ له فى الذوق!
وشوقى تحت وحى العبقرية يتنزل عليه الموضوع جملة، ثم يشغله عن تفاصيله التفكير فى الغاية والتحديق فى الغرض فيرسله من فيض الخاطر شعرا متسلسلا متصلا تضيق عن معانيه ألفاظه كما تضيق شطئان الرمل عن الفيضان الجائش المزبد. . ومن ثم كان التجديد والتعقيد والتدفق والعمق من أقوى خصائص شوقى، كما كان التقليد والبساطة والكزازة والسطحية، من أبين خصائص حافظ.
وهنا نحجز القلم عن وجهه فلا نمعن في تحليل شاعرينا اليوم، فان لذلك إبانه ومكانه، ثم نرسل العين هتانة المسارب أسى على ماض طويل انقطع، ونغم جميل تبدد، وحلم لذيذ تقضى، وكاهنين من كهان عطارد طوأهما الخلود، ثم ترك بعدهما رسالة الشعر عرضة للشعوذة والجمود.
