كثيرا ما يسمع الإنسان في أثناء المناقشات عبارة يلقيها بعض المتجادلين في أسنان بعض ، ويكون لها في اغلب الأوقات قوة سحرية عجيبة في الإقناع . وأكبر ظني أن كل من تقع عيناه على هذا المقال قد سمعوا هذه العبارة في بعض الأوقات أو استعملوها لاقناع خصومهم في المناقشات ، وهي عبارة : " هذا قلب للأمور هذا وضع العربة أمام الحصان " .
فإذا اختلف جانبا المناقشة في وجهة النظر ولم يحد احد الجانبين حجة دامغة يقنع بها خصمه قال له : " ولكن رايك هذا يكون مثابة وضع العربة امام الحصان " ومعنى هذا كما هو معروف أن حجة الخصم وجيهة ، ولكنها موضوعة في مكان غير مناسب .
ولست أدري أي الأمم اخترعت هذه العبارة ! فهي مستعملة في اللغة الانجليزية وفي غيرها ، وقد نقلناها إلي العربية لأنها مفيدة جدا لمن يشعر بالحرج في الجدال .
ومهما يكن من أمر هذه العبارة فان الأمة التي اخترعتها ليست من الامم المصرية بغير شك . فقد كانت صحيحة عندما كانت الامم تستعمل في جر الاثقال تلك العربات الثقيلة البطيئة التي نسميها نحن " الكارو " وهذه يصح فيها ان يقال إن وضع العربة امام الحصان ليس هو الوضع الصحيح ، لأننا لا نستطيع أن نتصور حصانا حكيما تصل به البراعة في الاحتيال ان يدفع العربية امامه . والخيل تسير على أربع أرجل ، ولا يمكنها أن ترفع أيديها الأمامية لتدفع بها العربية كما يفعل الباعة الجوالون .
فمجمل القول أن هذه العبارة كانت صحيحة في الأزمان الماضية عندما كانت الأمم لا تعرف سوي العربات " الكارو " والخيل
ولكنا الآن لا نستعمل هذه العربات كثيرا ، وأغلب
الناس يستعملون اليوم قطر البخار وقطر الكهرباء والموتورات ذات الاحتراق الداخلي . وكثيرا ما نشاهد القطار البخاري بدفع العربات امامه ويسير في سهولة ويسر كما لو كان يجرها من خلفه ، وكذلك الحال في الترام ، فان القاطرة الكهربائية تستطيع أن تجر العربية من خلفها إذا شاءت ، ولها مطلق الحرية في أن تتخلف هي إلي الوراء وتدفع العربية امامها ، فالعالم يتغير ومن الواجب ان تستعمل العبارات المناسبة للعصر الذي تعيش فيه
وإني أسوق هذه المقدمة لكي انتقد بها على نفسي لأنني كنت منذ أيام غارقا في حلم من أحلام اليقظة : وبهذه المناسبة أرجو الا يساء فهم قولي . فاني لم أكن نائما بل كنت افكر وانا صاح ، ولكني كنت مستغرقا في أفكاري إلي غاية بعيدة حتى كنت بمثابة المستغرق في الآحلام . وكثيرا ما يصاب الناس بمثل هذه العادة التي يقول عنها علماء النفس بأنها من طبائع الطفولة ، ولهم فيها اقوال كثيرة لا اميل إلي تصديقها لأنني مصاب بأحلام اليقظة
وكانت أفكاري متجهة نحو تصور حالة مصر التي اتمني تحقيقها سريعا . فقد تصورت انني اسير في طرق القاهرة وكانت كلها مثل شارع سليمان باشا مع فارق واحد وهو انها فسيحة لا تهدد السائرين فيها بالاصطدام في كل لحظة . وكانت المتاجر على الجانبين مصرية في الغالب ، وهذا طبيعي لبلد أكثر سكانه من المصريين ، وكان الشعب السائر في الشوارع كله نظيفا بلبس الثياب التي نسميها أفرنجية والأحذية اللامعة تشع من اسفل ارجلهم جميعا وكلهم منصرفون إلي اعمالهم ، فلا تقع العين على ) لمة ( ملتفة حول منظر تافه لان وقتهم جميعا ثمين ، وهم جميعا كما يلوح على وجوههم من المتعلمين الذين تظهر عليهم مظاهر الكرامامة والاعتداد بالنفس . وبعد ان تصورت سيري في هذه الشوارع ذهبت حينا إلى حي سيدنا الحسين لرؤية احتفال المولد
النبوي ، فلم أجد هناك تلك الثياب المرفعة وتلك الأعلام الخضراء ذات اللون الحائل ولا تلك الطبول المتخلفة من القرون الوسطى ولا تلك اللحى الرتة التي يقنع بها بعض الناس ويحملونها من اهم شعائر الدين ، بل رأيت الاحتفال دائما فيه روايات تمثيلية نعيد إلي الذهن مصور المجد القديم وسمعت موسيقى مطربة لا اثر فيها الميوعة التي اعتدنا سماعها ، ورايت مواكب جميلة تقلد الحياة في مختلف حقب التاريخ ، ورايت ورايت . . وكان كل ما رايت يشبع القلب فرحا ) ويهزه هزا ويعيد إليه كل ذكريات العز محفوة في ابهي مظاهرها
ثم تصورت انني خرجت من المدينة إلى الطرق المؤدية للريف ، وكنت أركب ) اتوبيسا ( جميلا رشيقا كله درجة واحدة ، فليس فيه ) بريمو ( ولا ) ترسو ( وكل من فيه من الناس في هيئة محترمة لا يحملون ) زكايب ( ولا اقفاص ولا ) سلالا ( بل كان ما معهم من المتاع موضوعا في حقائب مختلفة الأصناف بعضها من الجلد المعتاد وبعضها مصنوع من القماش او الخوص أو الليف ، ولكنها كلها جميلة المنظر سهلة التناول وعلى فكرة كان الأتوبويس نفسه ملكا لشركة مصرية ومن صناعة مصرية . ولم لا ؟
ثم ذهب بنا الآوتوبيس في طريق مرصوفة من تلك الطرق السوداء اللون الانيقة التى اهدتنا إلينا المعاهدة الصرية الإنجليزية منذ سنوات ، وسرنا في ذلك الطريق حتى وصلنا إلي وسط القرية التي نقصدها ، لاننا كنا نريد ان نقضي فسحة اخر الأسبوع في الريف ، وكانت منازل القرية بديعة المنظر مع بساطتها ، وكان سكانها في اتم حالات النظافة في اجسامهم وملابسهم مع ان حالتهم كانت كما يبدو رقيقة ليس فيها بذخ الغني . وكان منظر القرية في مجموعة رائعا لأن الحدائق تتخلها والشجيرات المتسلقة تكسو جدرانها بفروعها وازهارها ، والحقول تبتسم ببراعمها وحضرتها والجداول الصافية تجري بينها في مجار مبنية بالأسمنت وعلي
فكرة - كان مكتوبا على هذه الجداول الصافية ممنوع شرب البهائم ، لان للبهائم أحواضا خاصة تملا من طلمبة الماء الصغيرة التي يديرها مجلس القرية بالكهرباء ورايت ورايت مما يطول وصفه حتى انتهيت إلي الفندق الصغير الذي تحيط به حديقه صغيرة ظريفه في اخر القريه ، وهناك قضيت يومي الخميس والجمعة للاستراحة من ملل العمل طول الأسبوع . وقد أوحي إلي الهدوء في هذه البيئة الجميلة ذات الهواء الطلق بقصة صغيرة ارسلتها إلي مجلة الثقافة واخذت أجرها مائة جنيه كاملة
هذا ما تصورته ثم صحوت من أحلامي ، فإذا بى أضحك من نفس وقلت لها : " متى يكون هذا ؟ " وقلت بعد ذلك في نفسى قولا طويلا معناه ان هذه الحال تستلزم اولا ان نكون شعبا راقيا مستقلا . ثم عدت فقلت إننا نملك أن نصنع من انفسنا شعبا على هذه الصورة لأنه لا توجد قوة على الأرض تمنعنا من الإصلاح حتى نبلغ مثل هذه المرتبة . فإذا نحن جمعنا هممنا وقمنا بما نعتزم عليه من اصلاح أنفسنا كنا بالفعل شعبا راقيا لا يمكن إلا ان يكون مستقلا . وهنا بدأت المعركة بين بعض نفس والبعض الآخر . فأيهما يبدأ أولا الاستقلال او العمل على الرقى ؟ فقال صوت في داخلي : " لاستقلال بلا شك " وقال صوت اخر " ولكن ما دخل الاستقلال في أمر تملكه إذا توفرت لنا الإرادة ؟ " وهنا سمعت صوتا يهمس في اذني قائلا : " إن هذا يكون بمثابة وضع العربة أمام الحصان "
ولكنني قدمت في مطلع هنا الحديث ان الحصان الحديث يمكن أن يوضع أمام العربة كما يمكن أن يوضع وراءها
فالذين يريدون ان ينتظروا الاستقلال حتى يبدأوا السعي إلي التقدم غير معذورين ، لاننا نريد حياة طيبة كشعب متحضر جدير بماضيه العظيم ؛ هذا ما نريده وهذا هو المهم . وأما الحصان فليوضع في أي وضع يحب والسلام .

