الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 642الرجوع إلى "الثقافة"

العشق عند العرب

Share

حفل العرب بالعشق فشغفهم وملك عليهم مشاعرهم ، فراحوا يؤلفون فيه المؤلفات ، ويصنفون له التصانيف ، حتى إن عظام القوم وعلية الناس منهم ، وخلفاءهم وأمراءهم ، قد أعطوا تلك العاطفة قدرا كبيرا من العناية ؛ فأشفقوا على المحبين ، ومدوا إليهم يد المساعدة ، وتتبعوا أحوالهم ، وأرصدوا أخبارهم ؛ فالأصمعى يروي عن عمر بن الخطاب أنه قال : "لو أدركت عفراء وعروة لجمعت بينهما " وجاء في روضة المحبين أن أبا بكر الصديق بعث إلى مولى إحدي الجواري العاشقات فاشتراها منه ، وبعث بها إلى حبيبها وقال : هؤلاء فتن الرجال ، وكم قد مات بهن من كريم ، وعطب عليهن من سليم ، ونري النبي عليه السلام يقول : "من عشق قعف فمات دخل الجنة " ويقول كذلك : "إن الله ليعجب من شاب لا صورة له " وفي كتاب امتزاج النفوس للتميمي أن معاوية بن أبي سفيان اشترى جارية من البحرين ، فأعجب بها إعجابا شديدا ، فسمعها يوما تنشد أبياتا منها :

وفارقته كالغصن يهتز في الثرى        طريرا وسيما بعد ما طر شاربه

فسألها فقالت له هو ابن عم لي فردها إليه وفي قلبه  منها وتجد عمر بن عبد العزيز يصل بين القلوب المحابة  عندما يتصل به خبر احد العشاق الدين لا تساعدهم احوالهم  على الاجتماع بحبيباتهم ؛ ومن جميع هذا تتضح لنا منزلة هذه العاطفة السامية فى نفوس العرب جميعا.

العشق في اللغة :

العشق في اللغة فرط الحب ، أو هو يجب المحب بالحبوب ، يقال عشقه يعشقه عشفا وتعشقه ، والأصل الحمي لمادة العشق يرجع إلى شجرة تسمى العشقة تذيل إذا قطعت ، فسمى العشق بها لأنه يدل على الدبول من حيث إن العاشق يذيل من شدة الهوي ، وفي لسان العرب : أن العشقة شجرة تحضر ثم تدق وتصفر ، وقال الفراء : العشق نبت لزج؛

فسمى به العشق الذي يكون بالإنسان الزوجه ولصوفه بالقلب .

ماهية العشق:

اختلف الناس في تعريف العشق وتحديده . وذهبوا في ذلك مذاهب شتي : فابن حزم يذهب إلى أنه اتصال بين أجزاء النفوس المعشوقة في هذه الخليفة في أصل عنصرها الرفيع ، أما صاحب ديوان الصبابة فيقول : إنه طمع يتولد في القلب ، ويتحرك وينمو ، ثم يتربي وتجتمع إليه مواد من الحرص ، وكلما قوي زاد صاحبه في الاهتياح واللجاح ، وقال الأصمعى : إنه شئ يستغرق القلب في محاسن المحبوب ويذهله عن مساويه ، وقال بعض العرب : إن العشق شدة ميل النفس إلى صورة تلائم طبعها ؛ فإذا قوي فكرها فيه تصورت حصولها ، وتمنت ذلك فيتجدد من شدة الفكر مرض ؛ وقد حظي العشق بقسط كبير من تعاريف الفلاسفة ؛ فقد عرفه أرسطو بأنه جهل عارض صادف قلبا فارغا ، وقال أفلاطون : العشق غريزة متولدة من وسواس الطمع وأشباح النخيل ، وقال ديو جانس : العشق سوء اختيار صادف نفسا فارغة ، وعرفه أفلاطون كذلك بأنه حركة النفس الفارغة بغير فكرة ، وعرفه ابن سينا بأنه مرض وسواسي يشبه الماليخوليا ، يجلبه المرء إلى نفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور والشمائل ، وعرفه أرسطو تعريفا آخر ؛ فقال : العشق عمي العاشق عن عيوب المعشوق ، وهذا التعريف الأخير لأرسطو موجود في قول الرسول عليه السلام : "حبك الشئ بصمي ويصم " وفي قول الشاعر :

فلست براء عيب ذي الود كلَّه       ولا بعض ما فيه إذا كنت راضيًا

وعين الرَّضا عن كلَّ عيب كلّيلة     كما ان عين السّخط تبدي المساويا

هل العشق اضطراري أمم اختياري :

وكما اختلفوا في تعريف العشق ، اختلفوا كذلك في هل

هو اضطراري أم اختياري ؟ ففي مقدمة الذين قالوا إنه اختياري ابن سينا ، وقد لمسنا هذا من تعريفه له . فهو يعرفه بأنه مرض وسواسي يجلبه المرء إلى نفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور والتماثيل ، فإن سينا يذهب إلى أن الإنسان هو الذي اختار ذلك لنفسه بمحض إرادته فهو الذي سلط فكرته ، وأعمل تفكير ، حتى جلبه إلى نفسه ، وقيل إن العشق في أول مراحله وأطواره يكون اختياريا ، ثم يزداد وترتفع درجات فيصبح اضطراريا ، واستشهدوا على ذلك يقول الشاعر :

وشهوا انتقال العشق من حالة الاختيار إلى حالة الاضطرار بالسكر مع شرب الخمر ، فإن تعاطي السكر اختياري ، ولكن ما يتولد عنه من السكر اضطراري ، ولما كان السبب باختياره لم يتاموا له الأعذار فيما ينجم عنه بغير اختياره ، أما الذين ذهبوا إلى أن العشق اضطراري فهم يقولون إن وقوعه بأهله ليس برضاهم ولا يحرصهم عليه ، ولكنه وقع بهم كما تقع العلل والأمراض لا إرادة المرء فيها ، وهم ذلك يعذرون العشاق ولا يوجهون لهم لوما في جميع أقوالهم وأفعالهم ، قال بعض بني عذرة وقد قال له بعض العرب : ما لأحدكم يموت عشقا في هوي امرأة بألفها ، إنما ذلك ضعف نفس ، ورقة وخور تجدونه فيكم يتبنى عذرة . فقال العذري : أما والله لو رأيتم الحواجب الزج فوق التواظر الدعج تحتها  الباسم الفلج لاتخذ نموها اللات والعزي . وقال المدائني : لام رجلا من أهل الهوي فقال : لو كان لدي هوي اختيار لاختار ألا يهوي ، ولكن لا اختيار لذي هوي . ونحن ترجح الرأي الثاني على الرأي الأول ، وهو القائل بأن العشق اضطراري لأن العشق نوع من العذاب ، والعاقل لا يختار العذاب لنفسه ، فهو يأتيه من حيث لا يدري : يلومُونني في حُبّ ليلى كأنما       يرون الهوى شيئا تيمّمتُه عمدا

ألا إنما الحبُّ الذي صدع الحشا       قضاء من الرحمن يَبلو به العبدا

مراتب العشق وأطواره:

الهوي أول مراتب العشق وهو أن تميل النفس إلى نفس أخرى وتهفو إليها ، ثم العلاقة وهي الحب اللازم للقلب ،

وهي اسم لمبادئ المحبة أخذت من علق أي أحب ، ثم الكاف وهو شدة الحب والاستغراق فيه ، وهو راجع إلى الكافة وهي المشقة ، يقال كلفه تكليفا إذا أمره بما يشق عليه ، فكان الحبيب يكلف المحب ما لا يطيق . ثم الشغف وهو كذلك شدة العشق . وهو مأخوذ من الشفاف وهو غلاف القلب ، فيقال أصاب حبه شفاف قلبها ، قال تعالى : " شغفها حبا .." ثم الجوي وهو الهوي الباطن والحرقة وشدة الوجد . ثم التقيم وهو أن يستعيد العشق الإنسان ويستبد به ، ثم التبتل والتدله : أما التبتل فهو أن يسقمه الهوي فيصبح هزيلا ، وأما التدله أو الدله فهو احتراق القلب بنار الحب وذهاب العقل من الهوي . ثم الهيام وهو أن يذهب على وجهه لا يدري لنفسه مستقرا لغلبة الهوي عليه ، وتغلغله في قلبه ، ثم الصبابة وهي رقة الشوق وحرارته ، ثم الوجد وهو العشق الذي يتبعه الحزن ، وكذلك الشجو والشجن ، فهما العشق الذي يتبعه ويلازمه الكرب والهم . ثم الاستكانة وهي الخضوع أو الشوق الذي ينزع النفس من البدن إلى لقاء الحب . ثم الشوق وهو رغبة القلب في رؤية المحبوب واللهفة إلى لقائه . ثم الحنين وهو شوق ممزوج برقة وكلف ، ثم التباريح وهي الشدائد التي يقاسيها العاشق ، يقال برح به الحب إذا أصاب منه البرح . ثم الشجن وهو الحاجة حيث كانت ، وطبيعي أن حاجة المحب أشد إلى محبوبه . ثم الوصب وهو ألم الحب ومرضه . ثم الأرق والسهد وهما شدة السهر ، وهما من لوازم المحبة . ثم الوله وهو ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد ، ثم الدنف وهو شدة العشق مع صفرة تعلو الوجه . ثم الغرام وهو ولع واشتغال بالحب فهو العشق اللازم ، يقال رجل مغرم بالحب قد لزمه الحب . ثم الخلة وهي توحيد المحبة ، فالخليل هو الذي يوحد حبه لمحبوبة . ثم الود وهو خالص الحب وألطفه وأرقه . تلك هي مراتب العشق وأطواره وأسماؤه ، وهي كما ذكرنا متعددة متنوعة ، يدل كل منها على حالة خاصة من العشق تزداد وتنقص وفقا لمرحلتها ، وكلها جميعا تلتقي عند نقطة واحدة وهدف واحد هو استغراق المحب في محبوبه واشتغاله به .

(للبحث بقية)

اشترك في نشرتنا البريدية