يحدثنا ثقة كبير فى أمراض الجهاز التناسلى عن العفة الجنسية ، أى الامساك عن الاتصال الجنسى بما موجزه (١) :
مشكلة الأمراض الزهرية (٢)
إن مسألة العفة الجنسية مسألة حيوية تهم جميع الأطباء على اختلاف تخصصهم ، لأننا لا نجد عضوا من أعضاء الجسم فى المصابين بالزهرى قد سلم من ماثلة هذا المرض . وعلى الرغم من ذلك فقد أهملت هذه المسألة الخطيرة إهمالا فاضحا .
راجع كتب الأمراض الزهرية وابحثها نجد فصولا مستفيضة فى مضار الاتصال الجنسى غير الشرعى وعواقبه الوخيمة . ولكن خبرنى كم فصلا نجد فى هذه المصنفات عن العفة عن هذا الاتصال . بحثت هذا الموضوع منذ عدة سنين خلت ، وراجعت أغلب الكتب التى وضعت باللغة الانجليزية فى علم وظائف الأعضاء . فلم أجد فى الواقع أى نبأ يحدثنا عما إذا كانت العفة الجنسية هى من النظام العادى لوظائف الأعضاء أو لا . فكان ذلك نقصا بينا فى هذه المصنفات . وكان له أثره فى الطب الوقائى . فقد غاب عن كثيرين من الأطباء فى ذلك العصر أن
العفة الجنسية هى من النظام العادى لوظائف الأعضاء ، وأهملوا نصح مرضاهم بالعفة عن الاتصال الجنسي غير الشرعى للوقاية من الأمراض الزهرية . فأدى ذلك إلى انتشار هذه الأمراض . وقد لمت أسرة الأطباء على هذا الاهمال ، وذكرت عدة حالات تؤيد قاعدة وضعتها تقول : (( إن الاتصال الجنسى غير الشرعى يساوى مرضا زهريا )) . تقدم الطب بعد ذلك العصر وخطا خطوات واسعة ، فكشف (( تفاعل واسرمان)) (١) فى مرض الزهرى . و (( اختبار التثبيت التكميلى )) (٢ ) فى مرض السيلان ، وأثبت هذان شفان صحة ما قدرناه من قبل فى خطورة الأمراض الزهرية ، فضلا عن أنهما أكدا ما يترتب على كل من مرضى الزهرى والسيلان من عواقب وخيمة ، وأوضحا العلاقة القائمة بين هذين الداءين وبين كثير من أمراض الجسم الحيوية المستعصية العلاج . ونشرت الصحافة ما للاتصال الجنسى غير الشرعى من مضار . فتنورت فتياتنا فى هذا الموضوع ، وأصبح نشر الثقافة الجنسية قانونا مرعيا فى هذا العصر . ولم تسمح آنساتنا بعد بأن يجعلن من بدنهن حقلا لاستنبات (( الكور السيلانى واللولبية الزهرية(3) ، ورفضن أن يحرمن من نعمة الأمومة وملذاتها ، أو أن ينجبن أطفالا مشوهين أو ضعافا سقاما بسبب فتك الزهرى الوراثى بهم . وعز عليهن أن يعرضن أنفسهن للعقم ، أو لأن يعشن عيشة
كلها تعاسة فى نظير أن ينيرن لقبهن من (( آنسة )) إلى (( حرم )) .
وفى العصر الذى تنور فيه عامة الشعب فى الشئون الجنسية شعر الناس أيضا بوطأة عامل آخر وهو العامل الاجتماعى الاقتصادى . ولم يكن هذا العامل جديدا . وإنما شعر الناس بوطأته اليوم أكثر مما شعروا به فى أى زمن مضى . وإننا نسلم بأن بحث الأسباب المباشرة لهذا العامل ليس من اختصاص مهنتنا ، ولكنه من اختصاص الشئون الاجتماعية الاقتصادية . غير أن النتائج التى ترتبت على هذا العامل تواجهنا وتحملق فينا ، وتتطلب منا أن نبذل الجهود فى مسألة العفة الجنسية وإعلاء قدرها أكثر من قبل ، ولاسيما أن تكاليف الحياة قد فاقت فى هذا العصر تكاليفها فى جميع العصور السالفة ، وأرهقت الشاب وأقعدته عن أن يشرع فى الزواج المبكر كما كان يفعل منذ خمسين سنة أو مائة . فاذا قنع الشاب بأن يعيش عيشة المتوسطين وأن يعمل على تربية ما يرزقه الله من بنين تربية حديثة وجب عليه أن يؤجل الشروع فى الزواج حتى يفوق دخله كثيرا دخل جده حينما شرع فى الزواج ، أو يفوق على الأقل دخل أبيه فى ذلك الحين .
والنتيجة أن المسألة فى العصر الحاضر تنحصر فى ثلاثة عوامل :
أولا : أن الاتصال الجنسى غير الشرعى معناه العدوى بالأمراض الزهرية .
ثانيا : أن الفتاة المصرية ترفض أن تتزوج شابا مصابا بمرض زهرى .
ثالثا : أن الشئون الاجتماعية الإقتصادية تمنع الزواج المبكر .
وبديهى أننا - نحن الأطباء - لا نستطيع أن نغير شيئا من العامل الثالث ، لأنه ليس فى استطاعتنا أن
نخفض شيئا من تكاليف الحياة أو أن ترفع الأجور ، كما أننا أيضا لا نستطيع أن نغير شيئا من العامل الثانى ، لأننا لا نرضى أن نقول للفتاة العصرية : (( إنه يجب عليك أن تتزوجى شابا مصابا بمرض وبيل )) . وإذا تقرر ذلك لا يمكننا أن نعالج إلا العامل الأول . وهنا تواجهنا المشكلة التالية . إن الشاب لا يتيسر له أن يتزوج حالما تنضج أعضاؤه التناسلية . وإذا باشر اتصالا جنسيا غير شرعي يصاب بمرض زهرى. وإذا أصيب بمرض زهرى ولم يبرأ منه لا يستطيع أن يتزوج. فكيف إذا نستطيع حل هذا الاشكال !
قبل أن ندخل فى الموضوع أريد أن ألفت النظر إلى أنى سأعنى ببحث هذه المسألة من الوجهة الطبية لا من الوجهة الاقتصاديه وأن أعالجها على ضوء ما وصلت إليه اليوم معارفنا الطبية فى الأمراض الزهرية .
قد يتيسر لنا فى المستقبل القريب أو البعيد أن نهتدى إلى تحصين الناس ضد العدوى من السيلان أو الزهرى ، كما نحصنهم الان ضد الجدرى ، أو القضاء على الأمراض الزهرية وتطهير المرضى منها بعد الاصابة مباشرة . وإلى أن يأتى هذا العصر يتعين علينا أن نعالج المسألة من وجهة أخرى .
إن أول حل يتبادر إلى الذهن فى هذه المسألة هو أن تمنع انتشار الأمراض الزهرية . وإن لم يتيسر ذلك فنقضى على المريض ونبرئ المريض منه بأسرع ما يستطاع ، على أن يكون إبراؤه منه إبراء تاما ما استطعنا إلى ذلك سبيلا .
أما منع انتشار الأمراض الزهرية فموضوع يشمل إلقاء البغاء بأكمله . وهذا موضوع شائك الأطراف ومعقد كل التعقيد . وكتبت فيه مصنفات عدة . وفى الواقع أن أمما متمدنة كثيرة قد جاهدت كثيرا فى هذه
السبيل منذ العصور الأولى السابقة للتاريخ المعروف ، ولكنها كلها فشلت وأخفقت. هذا بصرف النظر عن بحث أسباب الفشل . ففرضت لهذا الغرض الغرامة الفادحة وعقوبة السجن أيضا ، وفى بعض الأحيان عقوبة الاعدام ، ولكن فى غير جدوى . ولما شرعت مدينة ((نيويورك)) ، تستأصل منازل البقاء فيها ووجهت إلى ذلك ما استطاعت من جهود لم تنل إلا فائدة وقتية ، وكانت النتيجة أن البغايا كن يطردن من ناحية ليلجأن إلى ناحية أخرى ، ولم يتيسر القضاء على البقاء قضاء تاما دائما .
انصرفت جهود الأطباء فى منع انتشار الأمراض الزهرية إلى علاج المريض نفسه بعد تعرضه للعدوى مباشرة ، وقد أتت الطريقة المتبعة فى الجيش والبحرية فى الولايات المتحدة للوقاية من الأمراض الزهرية بنتائج باهرة لاشك فيها . ولكن لهذه الطريقة أيضا عيوبا . فنجد أولا أن النظام الصارم الذى يمكن فرضه على الجند والبحارة يستحيل فرضه على عامة الشعب . وثانيا أن هذا النظام لا يمنع خطر العدوى عن كل الذين يتعرضون له . بل يخفض فقط عدد الذين يأخذون العدوى منهم . وفى عبارة أخرى إذا عرض ألف بحار أنفسهم لخطر العدوى واتبعوا النظام المتبع فى الجيش والبحرية للوقاية منه ، وتعرض عدد مثلهم لنفس الخطر ولم يتبعوا هذا النظام . فان الفريق الأول لا يسلم كله من العدوى ، وإنما يسلم منه عدد يفوق عدد الذين يسلمون منها من الفريق الثاني . ولذلك لا يستطيع أحد حتى أشد الدعاة لهذا النظام أن يضمن السلامة لشخص معين يزود نفسه بعقاقير مطهرة من التى تصرف للجند والبحارة ، ويعرض نفسه لخطر العدوى ويتبع ذلك النظام . إذا ما هو حظ الذى يتصل اتصالا جنسيا غير شرعي ؟ .
إن هذا السؤال لا يحتاج إلى جواب . فاذا اتصل شخص اتصالا جنسيا مع بغى فلا يندهش إذا وجد أنها قد نقلت إليه المرض . لأنه لا ضمان من العدوى فى دور البغايا ، حتى التى يشرف عليها طبيب خاص ، ولا سيما عدوى السيلان للأسباب التالية :
أولا : من السهل أن تنتسل المرأة موضعيا قبل الفحص الطبى ، وبذلك تغش الطبيب .
ثانيا : قد تصاب المرأة بالسيلان بين زيارة الطبيب والزيارة التالية أو أن تظهر عليها علامات المرض الأولى بين الزيارتين .
ثالثا : أن حالات السيلان المزمنة - التى تدعى حالات شفيت من المرض - هى أكبر مصدر لعدوى السيلان وأهمها . وتفصيل ذلك :
قد تصاب امرأة بالسيلان ومع ذلك يحتمل كثيرا ألا يظهر على أعضائها التناسلية أى أثر للصديد أو أى إفراز . وقد تؤخذ عينات بطريقة كشط غشاء هذه الأعضاء ولا يظهر فيها (( المكور السيلانى )) بعد الفحص المباشر بالمجهر ، وحتى بعد عملية الاستنبات ، ومع ذلك نجد أن هذه المرأة - عند الاتصال الجنسى وتحت تأثيره - قد تصب آلاف الألوف من (( المكور السيلانى )) مع إفراز الغدد حيث تختبىء هناك ، فتنقل المرأة العدوى إلى شريكها . ولذا نجد أن كل من عنى عناية خاصة بملاحظة هذا المصدر من مصادر العدوى يتفق معى على أنه إذا أصيبت امرأة مرة بالسيلان فليس لدينا فى الواقع أية وسيلة من وسائل الفحص الطبى تساعدنا على أن نقطع بأنها قد شفيت أو لم تشف .
ننظر الآن فى مسألة خادمات المنازل وخادمات النزل وغيرهن من المدعوات (( اشياء مضمونة )) . فنجد أن كل من له خبرة واسعة فى الأمراض الزهرية يقرر أنه من
الفكاهة المعروفة أن أغلب المصابين قد أخذوا العدوى من أولئك المدعوات (( أشياء مضمونة )) . ومن عادتى ألا أجيب أحدا من مرضاى الذين يؤكدون بأنهم لم يتصلوا إلا بشئ مضمون ، إلا بجواب واحد وهو : (( إن التى تسلم نفسها لك تسلم نفسها أيضا لغيرك . ولذلك لا تسلم من خطرها )) .
وأخيرا ننظر فى مسألة السيدات المتزوجات ، ولا سيما الدعوات (( محترمات )) . باشرت علاج حالات كثيرة من هذه الطبقة كان لها وقع كبير عندى . فقد كنت أباشر علاج سيدتين كانتا بلا نزاع من الطبقة المحترمة وفوق كل شبهة ، ومع ذلك كانتا مصابتين بالسيلان . وقد أخذت كل منهما المرض عن زوجها . وكان الزوجان أيضا تحت رعايتى . هنا أريد أن ألفت للنظر إلى النقطة التالية : هب رجلا أجنبيا أمكنه أن يغرى إحدى هاتين السيدتين إلى أن يتصل بها . فيمكنه أن يقطع بأنها كانت امرأة محترمة ، كما يقطع أيضا بأنها قد أصابته بمرض السيلان ؛ إذا يتعين على من يحاول الاتصال بامرأة متزوجة أن يتأكد أولا من سلامة زوجها ويضمنه ، ولكن هذا عسير وغير مستطاع . هذا وإن مجرد تسليم هذه المرأة له دليل على أنها ليست امرأة محترمة ، وينطبق عليها ما قيل من الطبقة الأخرى المدعوة (( أشياء مضمونة )) .
وعلى ضوء هذا البحث نستطيع أن نقدر أن الأغنياء وهم الذين يستطيعون أن يحصلوا بمالهم على كل ما يبتغون - ثم أيضا يعانون آلام الأمراض الزهرية كغيرهم على السواء. وإذا حللنا المسألة من جميع نواحيها يمكن أن نجملها فى القاعدة التالية وهى (( إن الاتصال الجنسى غير الشرعى يساوى مرضا زهريا .. ))
وأسجل هنا أننا لم نهتد بعد إلى أية وسيلة تقى الانسان خطر العدوى من الأمراض الزهرية وتضمن له السلامة ، حتى إذا استعمل غمدا من مطاط ؛ فقد
شاهدت فى حالات كثيرة أن غمدا كهذا قد تمزق وأصيب صاحبه بسيلان. وفى حالات أخرى أن الشخص قد أصيب بقروح فوق مستوى ذلك الغمد .
أما علاج هذه الأمراض فانه - على الرغم من تقدمه فى السنين الأخيرة - لم يصل إلى الآن إلى القضاء على هذه الأمراض بعد الاصابة مباشرة أو إبراء المريض منها فى أقصى سرعة . فقد أخفق مشروع القضاء على مرض الزهرى بعد الاصابة مباشرة باستعمال مركبات (( السلفرسان )) ولم يتيسر لنا إبراء المصابين بهذا المرض فى مدة أقصر من ذى قبل ، على الرغم مما لهذه المركبات من فوائد طيبة . وإنك لا تجد طبيبا ذا ضمير حى يسمح لمريض بأن يتزوج قبل أن يمضى بضع سنين تحت الملاحظة . وفى الواقع أننا - بعد ممارسة (( تفاعل واسرمان )) . نمد مدة الملاحظة فى كثير من الحالات إلى مدة أطول بكثير من ذى قبل . هذا وإن طريقة القضاء على السيلان بعد الاصابة مباشرة لم تفلح إلا فى نسبة ضئيلة جدا . ولا تفيد هذه الطريقة إلا المصابين الذين يتقدمون إلى العلاج فى مدة لا تتجاوز أربعا وعشرين ساعة أو ستا وثلاثين ساعة على الأكثر . ونرى أيضا أن ممارسة (( اختبار التثبيت التكميلى )) وطرق الاستنبات الحديثة فى تشخيص مرض السيلان قد أدت إلى حجز المريض تحت الملاحظة مدة أطول بكثير من ذى قبل .
وأنت ترى أن الطب - على الرغم من تقدمه - لم تحقق الوقاية من الأمراض الزهرية أو القضاء عليها بعد الاصابة مباشرة أو علاجها فى أقصى سرعة ، ولم يساعد على حل المشكلة (( موضوع البحث )) بل بعكس ذلك نرى أن تقدم الطب كله لم يزدنا إلا تأكيدا بأن أدق طرق الفحص المعروفة فى تحقيق الشفاء من هذه الأمراض لم تف بالغرض المقصود منها تماما .
( له بقية )
