الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 8الرجوع إلى "الفكر"

العلاقات التونسية الفرنسية في القرن التاسع عشر، ( فيما بين ١١٠٠-١٨٦٨ م )

Share

أريد ان أقسم العلاقات التونسية الفرنسية في القرن التاسع عشر الى فترتين الاولى تبتديء من اوائل القرن ١٩ وتنتهى الى عام ١٨٦٨ ، وهى السنة التي تألفت فيها اللجنة الدولية للاشراف على المالية التونسية . والفترة الثانية تمتد بين عام ١٨٦٨ ونهاية القرن ١٩ . وقد اخترت هذا التقسيم معتمدا على ان التدخل الاوربي المباشر بدأ واضحا في السنة التي تألفت فيها اللجنة الدولية .

في الواقع ان اهتمام فرنسا بشمال افريقيا بصفة عامة تمتد جذوره الى ما قبل القرن ١٩ ، ففى القرنين ١٧ - و ١٨ م اخذت اسبانيا تهوي من قمة المجد بعد حادثة " الارمادا " وبعد ثورة المستعمرات عليها ، واخذت قوة فرنسا البرية والبحرية في الظهور . ومن ثم برز عدو جديد للمغرب . لقد حلت فرنسا محل اسبانيا في ميدان السياسة العدائية الذي اقتحمته اروبا منذ العصور الوسطى بالنسبة لشمال افريقيا . وكانت انكلترا قد تفوقت على فرنسا في المستعمرات البعيدة فوجدت الاخيرة ميدانا خاليا في شمال افريقيا . ومن هنا نلاحظ ان الضغط الفرنسي على شمال افريقيا كان يزداد بنسبة ما كانت تفقده فرنسا من مستعمرات في البحار البعيدة ( ١ )

اتفاقيات :

في ٢٣ فيفري ١٨٠٢ نجد اتفاقا يعقد بين فرنسا وتونس يعترف فيه للاولى بأنها تستمر في التمتع بالامتيازات التى كانت لها قبل الحرب باعتبارها أنفع الدول بالنسبة لتونس .

وفي سنة ١٨٣٠ ( - أغسطس ) عقد اتفاق في باردو على يد قنصل فرنسا

ماتيو Mathieu " باسم تاج الملوك شارل العاشر امبراطور فرنسا" . وقد كان الفصل الاول ينص على أن الباي يتنازل عن القرصنة . وفي الفصل الثاني ألغى الباى الى الابد استرقاق المسيحيين في بلده وتعهد بان يحرر كل العبيد الموجودين في الايالة .

المشير أحمد باي وفرنسا

أراد المشير أحمد باشا باي ان يشاهد بنفسه هذا التقدم الذى نالته أروبا على الدول الاسلامية ، فزار فرنسا سنة ١٨٤٦ م حيث استقبلته حكومتها كما يستقبل أى ملك من الملوك ليثبت أمام العالم أن تونس ليست ولاية عثمانية .

ولما رجع الباي الى تونس قام بمحاولات كبيرة فى ميدان الاصلاح : نظم الجيش التونسي تنظيما عصريا ، واستقدم بعثة من الضباط على رأسها كامبنون Ca mpenon)) للاشراف على تنظيم هذا الجيش على الاساس الاروبي ( ١ ) وفي مناسبتين ١٨٤٣-١٨٤٤ طلب سبا كان طولون لاصلاح عدة مدافع في مصنع للطواريء .

وقد كان اكبر عامل على توثيق هذه العلاقات الودية بين البلدين ، وعلى ادخال هذه الاصلاحات هو استيلاء فرنسا على الجرائز سنة ١٨٣٠ وادخالها الكثير من النظم الاروبية الراقية في هذه المستعمرة .

أثر الفرنسيين في الدستور التونسي

امتاز عهد محمد باي ( ١٨٥٥-١٨٥٩ م )باصدار عهد الامان ، ١٠ سبتمبر ١٨٥٨ . وقد كان للاصابع الفرنسية ومعها الاصابع الانكليزية أكبر الاثر في اصدار هذا الدستور . وقد كان السبب في اصداره مشكلة اليهودي الذي سب الاسلام في مجمع من الناس فأراد بعض القضاة تنفيذ القتل فيه ، واراد القناصل الاروبيون إنقاذه .

ومن أهم بنود هذا الدستور ١ ) تأكيد الامان لسائر الرعية على اختلاف الاديان والالسنة والالوان ٢ ) التسوية بين المسلم وغيره في الانصاف لان استحقاقه لذلك بوصف الانسانية ٣ ) لا يجبر الذمي على تبديل دينه ولا يمنع من اداء واجباته الدينية ٤ ) إنشاء مجلس للتجارات برئيس وكاتب وأعضاء من المسلمين وغيرهم من

رعايا الدول الصديقة لتونس للنظر فd نوازل التجارات ٥ ( مساواة جميع أفراد الرعية امام القانون ٦ ( ان للاجانب حق شراء سائر ما يمكن من الدور والجنان والاراضي مثل سائر الاهالي بشرط ان يتبعوا قانون البلاد ( ١ )

إن نظرة صغيرة نلقيها على هذا الدستور كفيلة باقناعنا بأن الايادي الاجنبية كان لها أكبر تأثير فى إنشاء هذا الدستور .

وفي احدى رسائل القنصل الانكليزي إشارة بان رجال الدولة التونسية أكدوا يمينهم أمام وكلاء الدول الاجنبية بأنهم يحافظون على الوفاء بعد الآمان بجميع شروطه ( ٢ )

محمد الصادق باي وفرنسا

في عهد الباي تمت اصلاحات كبيرة . وتم الكثير منها على ايدي الفرنسيين ، فقد اسند لهؤلاء انشاء خطوط التلغراف والسكك الحديدية وقد كان المعهد الصادقي شبيها بالليسيهات الفرنسية في برامجه ومواده . والاشراف الفرنسي يظهر واضحا على اعمال المصلحة العامة المختلفة كمواسير المياه والطرق وبعض النظم الادارية مما جعل المسؤولين الفرنسيين يقولون : بأنهم لا يسمحون بالتدخل لاية دولة في تونس وهم يعتبرون انفسهم الحامي الطبيعى سياسيا وجغرافيا لدولة الباي .

وقد مال الوالي الفرنسي حتى وقع تحت سيطرتهم ، يدلنا على ذلك قصة مد ماء زغوان الى قرطاجنة . فقد عرض على المجلس الشرعي رغبة شركة فرنسية بان تقوم بمد ماء زغوان الى قرطاجنه ثم توصيله الى المرسى والحاضرة فمالت الاغلبية الى الرفض . فقال الوالي : لقد وعدت الفنصل الفرنسي وعدا قاطعا بالموافقة على المشروع . فقال خير الدين المصلح الكبير فلم جمعتنا اذن لتأخذ راينا : كان يكفى سماع الخبر من سيادتكم !... ( ٣ ) ان فرنسا كانت ترغب كل الرغبة في ان تعم تونس الفوضى وكان ممثلوها

يحرضون على التلاعب بمجلس الشورى (التشريعى). كان يسوءها اي اصلاح يقع في تونس وان كانت تشجعه ظاهرا . ان نابليون الثالث حين حضر الى الجرائر وتوجه اليه الباي وقدم اليه نسخة من قانون الشورى الذى وضعه ، قبلها شاكرا في الظاهر . ونقدها امام رجاله سرا وقال : " ان العرب اذا تعودوا بالعدالة والحرية لم نسترح معهم في الجرائر . " ( ١ )

سياسة خير الدين :

كان خير الدين من خيرة الرجالات الذين عرفهم التاريخ التونسي ، فوضعهم في صف عظماء العالم . لقد أدخل اصلاحات كبيرة في شتى النواحي : في الفلاحة ، في التعليم . في الادارات المختلفة وبفضل مساعدته تم تعديل الدستور التونسي سنه ١٨٦١ م وتنظيم البلدية والمحاكم الشرعية ، وشؤون الاوقاف ، وانشاء مجلس للعناية بالصحة العامة ونشر التعليم العصرى . كل هذا حققه خير الدين هذه اعماله في الداخل اما سياسته مع قناصل الدول فقد كانت ساسة حزم صريح ، يصغى الى مطالبهم المعقولة ويرفض غير المعقولة مع ذكر الاسباب المفصلة للرفض ولذلك احترموه ولو خالفوه ، وقد يضعون العقبات في سبيله باطنا ولكنهم يجاملونه ظاهرا . ( ٢ )

كان خير الدين يعرف أن أكثر الدول طمعا في تونس هى ايطاليا وفرنسا لذلك رأى ان يضر بهما بعضا ببعض وان يقوي الصلة بين تونس والدولة العثمانية وفعلا أوصى الباب العالي في تحديد العلاقة بينهما ونجح فى استصدار فرمان يحدد هذه العلاقة ويقرر ان تونس ولاية عثمانية ولواليها الحق في تولية المناصب العسكرية والشرعية والمالية لمن يكون أهلا لها وفي إجراء المعاملات المعتادة مع الدول الاجنبية ماعدا أمور السياسة والحرب ( ١٢٨٨ ه ) وسعى الباب العالي في موافقة الدول على هذا الفرمان الا ان فرنسا ابت الموافقة عليه لانه يعاكس نياتها فى تونس . ( ٣ )

ان فرنسا كرهت هذا الرجل الذي ربط بلاده ربطا وثيقا بالدولة العثمانية مع انها تريد قطع هذا المرباط حتى يسهل عليها ازدراد الفريسة .

ففي احدي سفرات خير الدين الى استامبول اعترضت سفينته بارجة حربية فرنسية لتمنعه من الذهاب ، هددته اولا ثم طاردته ولكنه استمر في طريقه وعادت البارجة الفرنسية أدراجها .

غير ان خير الدين المصلح يؤخذ عليه منحه امتيازا لشركة فرنسية بمد خط حديدي بين تونس والجزائر وهو يعلم مطامع فرنسا . ولعلنا نعذره اذا علمنا له كان مضطرا الى هذا اذ لو امتنع واعطاه للشركة الايطالية الراغبة في مد هذا الخط لتعرض لعداوة فرنسا وهو أحوج ما يكون الى تحاشى عداوة دولة كبيرة مثلها .

ولما تعرض خير الدين لسخط الباي وقرر مغادرة تونس الى الآستانة عرض املاكه للبيع فلم يشترها التونسيون لان البائع مغضوب عليه من قبل جلالة الباي فاضطر لبيعها ... لشركة فرنسية مرسيلية .

مصطفى خزنه دار :

تولى مصطفى خزنه دار الوزارة في عهد محمد الصادق باي وكان عديم الكفاية ، سفيه القول ، ولوعا بجمع المال . كان يحطم كل اصلاح يقوم به خير الدين فتدهورت الادارة في ايامه السوداء وانتشرت الرشوة في كل ركن واتخذ مساعدين له من اعوان السوء . لقد كان ياخذ كل هذه المرتبات التالية غير المصاريف الاخرى من اموال الحكومة :

ريالات تونسية ١٤٠٠٠٠ ٦٠٠٠٠ 60000 ٦٠٠٠٠ 60000 ٣٨٠٠٠٠ المجموع

مرتبات مرتبه على الوزارة الكبرى مرتبه على وزارة العمالة مرتبه على وزارة الخارجية مرتبه على وزارة المال مرتبه على نيشان بيت الوالي الذي هو حامل له ( ١ )

هذا ما يصل الى جيب الوزير فكيف بجيوب اتباع الوزير كمحمود بن عياد؟ واراد الوزير مضاعفة الضرائب فثار التونسيون ثورة واحدة عرفت بثورة

ابن غذاهم ١٨٦٤ . وكانت مطالب الشعب التونسي : ابطال الاداء الجديد وعزل مصطفى خزنه دار ومحاسبته .

ولم تلبث الثورة ان اشتدت فتدخل نواب الدول في المسألة وألح قنصل فرنسا بعزل الوزير لارجاع الراحة . وقد انتهى الامر باعطاء الامان للجميع واسقاط الاداء المطلوب .

انتهز الوزير الماكر الفرصة لابطال القوانين بدعوى ان الثورة قامت تطلب ابطالها . ان الناس لم يطلبوا ابطال القوانين ولكنه خداع الوزير ، ومكره الكبير ولما أشاع الوالي هذا وأبطل القانون تدخل القنصل الفرنسي والانقليزي لارجاع القانون . ( ١ )

قضية محمود بن عياد :

كان محمود بن عياد اليد اليمنى لمصطفى خزنه دار وزير المالية والداخلية بها يسرق ويبتز أموال الشعب الفقير .

كانت وظيفته جمع الضرائب على اختلاف انواعها ففي مدة عشرين سنة استطاع ان يجمع خلالها ثمانين مليونا ، ولما خشى ان يفتضح هو وشريكه هربا أموالهما الى فرنسا وادعى ابن عياد المرض وزعم انه مسافر لباريس قصد التداوي ولما وصل الخائن الى باريس اعلن عدم العودة الى تونس وتجنس . . . بالجنسية الفرنسية!...

وبلغ من فجوره وسفالته ان ادعى على الحكومة التونسية ان له مبالغ طائلة (٦٠ مليون قرش تونسي) نظير مشتريات اشتراها لها .

وتطورت الحالة تطورا خطيرا لان المدعي فرنسي الجنسية تحميه حكومة فرنسا وتطالب بحقوقه . وقد امتدت القضية بضع سنوات من ( ١٢٦٩ الى ١٢٧٣ ه ) حتى اذا شكلت لجنة تحكيم برئاسة نابليون الثالث اصدرت حكمها بتخفيض مطالب ابن عياد من ٦٠ مليونا من القروش الى خمسة ملايين كما الزمته بدفع ١٤ مليونا للحكومة التونسية بقيت في ذمته لها ويدفع مبالغ اخرى فكان مكسب تونس ٢٤ مليونا . ( ٢ )

وقد كان خير الدين هو وكيل الحكومة التونسية في هذه القضية المتشعبة

اشترك في نشرتنا البريدية