هو مستعرب ايطالى من مواليد تونس . مغمور فى مسقط راسه لكن اسمه معروف فى اوساط المستعربين فى العالم اجمع . . .
سمعت بذكره لاول مرة فى الولايات المتحدة عند اجتماعي بالعلامة الاستاذ نيكل ( Nykl ) الذي اخبرنى عنه ونوه به قائلا : هو شاب نشيط يهيم بالشعر العربي له دراسة جيدة في العلاقات بين الشعر العربي والشعر الإيطالى فى القرون الوسطى .
. . . واتصلنا ببعضنا فى تونس اثناء هذه الصائفة الاخيرة فاذا بالشاب الهيمان بالشعر عملاق عتيل ولولا هدوء يكتنف هيأته ومجلسه
ولمعان غريب يشع من عينيه اثناء الحديث ليخاله المرء من لاعبي " الروغبي " او من ابطال حمل الاثقال . غير ان صاحبنا بطل فى ميدان آخر ميدان البحث العلمى الدقيق فهو علاوة عن تحصله على شهادة مهندس فى الكيمياء من الكليات الفرنسية الكبرى احرز على شهادة التبريز فى الفلسفة والعلوم اللغوية من جامعة كولونيا في المانيا وهو يجيد مع ذلك من اللغات : الايطالية والعربية والفرنسية والالمانية والانكليزية والاسبانية والفارسية والروسية والصينية .
غير ان هوايته الكبرى كانت وما تزال الشعر العربي ولا سيما
الشعر المغربي والاندلسي . وكانت الاطروحة التي قدمها للتحصيل على شهادة التبريز فى المانيا تخص العلاقات بين الشعر العربي والشعر الغنائي الاول في ايطاليا
وقد طلبت من الاستاذ سلفاسترو فيوري Sylvestro Fiore ان يقدم لقراء " الفكر " مؤلفه هذا الطريف الشيق الذي صدر باللغة الالمانية في طبعة نادرة جدا - فتفضل بتلبية الدعوة ووجه الي مقالا طويل الذيل محررا بالفرنسية نقلته بشيء من التصرف الى العربية .
لقد هيأت التخمينات المدرجة فى عدة تآليف من القرن الثامن عشر - تاييدا للنظرية القائلة بان اصل القافية شرقي شان الموسيقى والشعر بصورة عامة - هيأت هذه التخمينات المجال لما دعي فيما بعد ب " الاطروحة العربية " معارضة ل " الاطروحة اللاتينية " التى دافع عنها ايستبان دى ارتياغا Estebane de Arteaga فى كتابه تطور المسرح الموسيقي الايطالي منذ البدء الى وقتنا هذا (١) غير ان هذه الخصومة لم تجد الا ابتداء من سنة ١٩١٢ قاعدة امتن واوجه متمثلة في ديوان الشاعر الاندلسي ابن قزمان الذي اكتشفت نسخة منه في ذلك التاريخ ببغداد واضطلع بدرسها المستعرب الاسباني جوليان ريبارا Julian Ribera الذى وجد فى ترتيب القصيد العربي شبها ب " الفيرلاي Virelay " وقد نشر هذا الديوان في سنة ١٩٣٣ من طرف الاستاذ نيكل في طبعة بالاحرف اللاتينية مع ترجمة جزئية بالاسبانية
وقد بعثت من جديد بفضل هذا الاكتشاف الخصومة القائمة بين انصار الاطروحة العربية والاطروحة اللاتينية كاشد ما تكون حدة . وكان كل من الشقين المتعارضين يرى ان جميع الشعر الصادر فى اسبانيا كثمرة من ثمار هذه الحضارة او تلك . ثم دخل الموسيقيون في المعمعة مقدمين معلومات شيقة حول البنية الموسيقية للاغاني الشعبية العتيقة في اروبا وكذلك مادة جديدة على جانب عظيم من الفائدة لفهم " الخرجات " وهي الابيات الاخيرة من الموشحات العربية والعبرانية وتمادى النقاش حول هذه الخرجات التي اعتبرها بعضهم كتعبير عن الشعر الشعبي الاسباني الاول واعتبرها آخرون كشكل من الشعر الشعبي العربي
المصطنع kunst form ( وهو شكل من الشعر تميل اليه كل حضارة بلغت اوجها )
ولما كان الاستاذ نيكل قدم الادلة القاطعة على التشابه الغريب بين بعض نواح من الادب العربي وادب التروبادور Troubadours ( ١ ) سواء من ناحية الشكل او من ناحية المعاني رايت من جانبى ان اقوم ببحوث حول التاثير العربي المباشر على الشعر الايطالي الاول الامر الذي يناقض الراي التقليدي السائد والقائل بان هذا الشعر ليس شيئا آخر سوى صدى لشعر " التروبادور "
المسلمون في صقلية
احتل العرب صقلية منذ آواخر القرن التاسع مسيحى . وقد اعرب ابن حوقل فى سنة ٩٧٢ عند زيارته للجزيرة عن شديد تعجبه عند ما شاهد فى بالارما ما يزيد عن ٣٠٠ مسجد . وقد بلغت الحضارة العربية في صقلية اوجها تحت حكم النرمان وفعلا فان امراء الجزيرة احاط بهم مستشارون عرب وتبنوا النظام الجبائي العربي وقد كتب الادريسي بطلب من الملك روجير الثاني كتابه العظيم " نزهة المشتاق " ونظم الشاعر ابو الضوء السراج مرثية عند موت نجل الملك المذكور . وبقيت العربية لغة رسمية الى جانب اللاتينية واليونانية حتى وفاة آخر امراء النرمان وكان يوجد فى دواوين الملوك والامراء كتبة مختصون في كل لغة من هذه اللغات الثلاثة ، ويستطيع الزائر اليوم لكنيسة القديس ميخائيل في بالارما ان يشاهد على القبور المسيحية نقوشا بثلاث لغات ( العربية واللاتينية واليونانية ) مع تواريخ مناسبة للانظمة الحسابية الثلاثة ( الحساب الهجري والحساب المسيحي وحساب قنسطنطين ) . وكان ملوك النرمان يجيدون العربية ويحذون في قصورهم عيش ملوك العرب . ثم ان الهندسة المعمارية تتجلى فيها الآثار العربية نكتفي للاستدلال على هذا بذكر كنيسة سان جيوفاني في بالارما وقصر العزيز الذي شيد فى عهد الملك غليوم الاول .
وقد كان الملك فريدريك الثاني حفيد الامبراطور فريديريك بربروس محبا للحضارة العربية مولعا بها . وكانت له مراسلة منتظمة مع الملك الكامل سلطان مصر ووزيره فخر الدين وكذلك مع عدة امراء تونسيين . وهو الذي وجه في سنة
١٢٤٠ الى عدد من العلماء العرب اسئلته المشهورة المعروفة ب " الاسئلة الصقلية " والتي تدور حول حدوث العالم او قدمه وماهية الروح وغاية الفقه الخ . . . وقد بقي لنا اليوم رد الشيخ عبد الحق بن سبعين على هذه الاسئلة . واستعمل هذا الملك من ناحية اخرى لفيفا من المرتزقة العرب رابطوا في عده مدن بإيطاليا وخاصة فى مدينة " بيزا " التى كان بها حي شرقي يدعى لا كنسيكا La Kinsica وفى سنة ١٧٨١ عندما فتح التابوت المتضمن لرفات الملك فريديريك الثاني وجد منقوشا على احد كمي بدلته " ليكن هذا هدية الى السلطان ! "
علاقات الشعر الايطالي والشعر العربي
١ ) من ناحية الشكل : توجد في الشعر الشعبي الايطالي في القرنين ١٣ و ١٤ مسيحي سواء منه الاباحي او الديني امثلة عديدة تنعكس فيها بصورة دقيقة بنية الموشحات والازجال ومن بين هذه الامثلة الاناشيد الدينية لمدينة بيزا وشعر جاكو بونى دا طودي Jacopone Da Toda واغنيتان اباحيتان للشاعر بوكاسيو Baccaccio ومن الجدير بالذكر في خصوص الموشحات التي تحافظ بصورة عامة على اللغة الفصحى والازجال التي تنظم باللغة الدارجة اننا لا نجد لها في الشعر اللاتيني سوابق يمكن اعتبارها نماذج للبنية القائمة عليها .
ثم ان هذه الموشحات والازجال التي نشأت حسب الرأي السائد عند كبار العلماء العرب امثال ابن بسام وابن سناء الملك وابن خلدون في الاندلس في اواخر القرن التاسع مسيحي كان لها رواج عظيم في سائر البلاد الاسلامية .
لقد ذكرت آنفا ان نسخة من ديوان ابن قزمان وجدت في بغداد . ثم ان ابن سناء الملك المصري كان من كبار منظمي الموشحات وقد اثنى عليه ابن خلدون ثناء حارا ، وكان يوجد في المغرب حتى هذه السنوات الاخيرة مغنون يتنقلون في الاسواق منشدين ازجالا طويلة تدعى ب " كلمات غرناطة " .
وقد راج ايضا هذا النوع من الشعر العربي في اوروبا الجنوبية حيث ادخله مغنون ومغنيات عرب . واكد ابن حيان فى " كتاب المتين " بصورة قطعية ان المغنيات المجيدات للغناء والموسيقى كانت مطلوبة كثيرا من طرف بلاطات الامراء فى اوروبا الرومانية . وافادنا هذا الكاتب ايضا ان عدة الاف من الاسيرات
العربيات قد جلبن بعد واقعة برباسترو Barbastro الى بلاطات الامراء الاوروبيين بمن فيهم الامير غليوم الثامن والد غليوم دى بواتبي Guillaume de Poitiers اول " تروبادور " فرنسي وفي السنة التالية عند ما احتل العرب المدينة من جديد ارجع عدد من الاسيرات لكن الجانب الاعظم منهن بقي في البلاطات الاوروبية . وقد ذكر لنا الطبيب ابن كتاني القرطبي الحماس الشديد الذي كان يسود بلاط الكونت سانشوا غاريسيا القسطيلي ( اوائل القرن الحادي عشر ) عند الاستماع الى الموسيقى والاغاني العربية . واذا كان من البديهي ان اللغة العربية لم تكن مفهومة قط من طرف هؤلاء الاقوام تحت الاحتلال الاسلامي فانه مما لا شك فيه ان جدة الانغام وبنية القصائد ( المتجلية في تركيب القافية ) كان لهما تأثيرهما البعيد .
وهكذا نشر الزجل ابتداء من هذه القصور ( انظر الصورة المنشورة مع هذا المقال والممثلة لمغن عربي مصحوب بتروبادور . ) بنية في مختلف جهات اوروبا عن طريق هؤلاء الشعراء والمغنين .
وفعلا فاننا نرى مثل هذه البنية في القصائد الفرنسية المعروفة باسم " روندو Rondeaux " في القرن الثالث عشر وفي بعض الاغاني الشعبية بمقاطعة بروفانص Provence وفي اغاني شعراء برتغاليين مجهولين من القرن الثاني والثالث والرابع عشر وكذلك في الاغاني الدينية والاباحية الايطالية كما راينا ذلك آنفا .
ومن الجدير بالذكر فى هذا المقام - وهي النقطة الهامة من بحثنا هو ان الزجل عند شعراء " التروبادور " له بنية خاصة مخالفة تماما لبنية القصيد عند الشعراء الايطاليين الاوائل وذلك ان " الازجال " الايطالية تتضمن دائما " مقدمة " لا نجدها فى ازجال التروبادور الامر الذي يمكننا من الجزم بأن التروبادور ليسوا هم الوسائط بين العرب والايطاليين .
ومن جهة اخرى فان عدة ازجال ايطالية من مقاطعة " طوسكان Toscane " قد نظمت في اوائل القرن الثالث عشر اي قبيل ظهور الامثلة الاخرى من " الازجال بمقدمة " في اوروبا ولذا فاننا نستبعد وجود وسائط اوروبية في بوادر انتشار هذا الصنف من الشعر العربي فى ايطالية .
ان صقلية هى بدون شك اهم مصدر في انتشار التاثير العربي بإيطالية وبالرغم من أننا لم نعثر على اي اثر للزجل فى المخطوطات الصقلية فانه من المفيد جدا ان نلاحظ اوجه الشبه الغريبة بين اقدم نوع من الشعر الشعبي في صقلية والازجال العربية واعني بهذا الشعر الصقلي القديم القطع المعروفة باسم " موتتي Mottetti " التى تتركب عادة من بيتين وهي اصل قصائد " سترونبوطي Strombotti " المتركبة من ستة او ثمانية ابيات والتي يرجع تاريخ اقدمها الى عصر غليوم الثاني ( ١١٦٦-١١٨٩ م . )
ثم يتعرض الكاتب الى مسالة العلاقات بين الشعر العربي والشعر الايطالي من ناحية المعاني فيلاحظ ان المعاني التي طرقها التروبادور وشعراء المدرسة الصقلية الاولى كانت جديدة تماما بالنسبة لاوروبا قائلا : اننا لا نجد مثلا معنى خضوع الرجل التام للحبيبة ودلال هذه الاخيرة في شعر الرومانين واليونانيين ولكننا نجده عند الشعراء العرب ابتداء من جميل بثينة ولا سيما عند العباس بن الاحنف وشعره فى حبيبته " فوز "
ثم يفند الكاتب النظرية القائلة بان شعر التروبادور الذي سبق بقليل ظهور
الشعر الايطالى الاول قد اثر فى هذا الاخير تاثيرا حاسما مستدلا بثلاثة ادلة :
١ ) تصور الحب عند التروبادور والإيطاليين غير متشابه بينما هو متماثل تماما بين هؤلاء الاخرين والعرب
لا يشبب التروبادور الا بالنساء النبيلات وهذا شرط وجوبي في نظرهم بينما يشبب الشعراء الايطاليون بالحبيبة مهما كانت منزلتها الاجتماعية بل اننا لا نجد في المدرسة الشعرية الصقلية اي تشبيب بنبيلة او اميرة من الاميرات .
وعند العرب نرى ان جميل وبثينة ينتميان الى نفس الطبقة الاجتماعية . وليست " فوز " من النبيلات اما " نُعْمُ " حبيبة ابن حزم فهي جارية .
٢ ) يستعمل الشعراء الايطاليون الاوائل مثل العرب المقارنة المباشرة بين الحبيبة والكواكب السماوية اما التروبادور فإنهم يقتصرون في ذلك على الاستعارة والمجاز يستعملون الشمس والقمر والنجوم كعنصر بسيط من الاستعارة كمناجاة مباشرة
ومن الجدير بالذكر ان الشعر الشعبي في صقلية يستعمل - اكثر بكثير من شعر " المدرسة الصقلية " المقارنة المباشرة مع الكواكب على النمط الشرقي ( ١ )
٣ ) النقطة الثالثة التي تربط بين المدرسة الشعرية الصقلية والعرب وتميزها على التروبادور تتمثل في ذلك الباب من ابواب الشعر المعروف ب " نواح النساء Les complaintes des femmes " .
و هذا النوع من الشعر - سواء في الشعر الشعبي او الشعر الفني - يكتنفه عند الصقليين طابع الصدق ويبدو كانه صادر عن شعور واقعي وألم حقيقي . ونحن نجد نفس مظاهر الصدق هذه في جميع " الشعر النُوَاحِي " الصادر من البلدان التي خصعت مباشرة للنفوذ العربي مثل " اغاني الاصدقاء " او " اغاني الحب " البرتغالية ( ٢ ) او اغاني قسطيلية المعروفة باسم Villancicos فهي تحافظ جميعا على نبرة الالم والشعور القوي بالواقع الامر الذي لا نجده بتاتا في شعر التروبادور في فرنسا وايطاليا الشماليتين حيث يصبح هذا " النواح " ضربا من اللهو والعبث .
