يعني العلماء منذ زمن طويل يدرس العلاقة بين اللغة العربية الفصحى واللغات العامية ، وأعني بالفصحى لغة الكتابة والقراءة والخطابة ، وباللغات العامية اللهجات العامية التي يتكلم بها العرب اليوم في مختلف أقطارهم . ولكنهم لم يصلوا إلي رأي فاصل في هذا الموضوع .
وهم في ذلك فريقان : فريق يزعم أن اللغة الفصحي هي لغة الأدب قديما ، ولغة القراءة والكتابة مع شئ من التحوير حديثا ولكنها لم ندر في يوم من الأيام على السنة العرب ، ودليلهم على ذلك ان القبائل العربية التي ما زالت محافظة على لهجاتها في الجزيرة العربية تتكلم بلهجات بعيدة عن الفصحى ، وان الشعوب العربية المنتشرة في اطراف الأرض تتكلم بلهجات عامية أيضا . فأبن هي آثار اللغة الفصحي
ويذهب الفريق الثاني خلاف رأي الفريق الأول ، ويقرر ان اللغة الفصحى لابد من ان تكون ذات نشأة طبيعية كسائر لغات العالم . ولذلك لا مناص من أن تفرض شيوعها على الألسنة في زمن ما ، بعيد او قريب ، وفي بيئة ما ، اتسعت أو ضاقت ، ويسندون في رأسهم هذا إلي ثلاثة أدلة :
الأول : أن اللغة الفصحي - وإن كانت اليوم لغة أدبية - لا بد من أن تكون منظورة عن أصل من اصول الكلام ، أو اللهجات التي ظهرت في الجزيرة العربية
ويقولون : أن اللغة اللاتينية التي هي اليوم لغة أدبية ، وأم للهجات عامية ، عرفت فيما بعد بالفرنسية والإيطالية والبرتغالية ، كانت لغة الكلام . وإذن ليس هناك ما يمنع أن تكون الفصحى كاللاتينية - من هذه الناحية انقلت من اللسان إلي الكتاب ، وتفرع عنها ما تفرع من لهجات
والدليل الثاني : أن هناك نصوصا قديمة وروايات عديدة تثبت ان الفصحى لم تكن لغة الأدب فحسب ، بل كانت لغة الكلام عند بعض القبائل العربية ، ومن ذلك نص قديم طريف رواه عمارة اليمني في كتابه " تاريخ اليمن " قال :
" جبالا عكار فوق مدينة الزوايب ، وأهلها باقون على اللغة العربية من الجاهلية إلي اليوم ، لم تتغير لغتهم ، بحكم انهم لم يختلطوا قط بأحد من أهل الحاضرة في مناكحتهم ولا مساكنتهم . وهم أهل قرار لا يغلمنون عنه . وقد أذكر الي دخلت زبيد في سنة ٥٣٠ أطلب الفقه دون العشرين . فكان الفقهاء في جميع المدارس يتعجبون من كوني لا الحن في شيء من الكلام ، فأقسم الفقيه نصر الله بن سالم الحضري بالله : لقد قرأ هذا الصبي في النحو قراءة كثيرة . فلما طالت المدة والخاطة بيني وبينه صرت إذا لقيته يقول : مرحبا بمن حنثت في يمينى لأجله ، ولما زارني والدي وسبعة من إخواني إلي زبيد احضرت الفقهاء فتحدثوا معهم ، فلا والله ما لحن احد منهم إلا لحنة واحدة سقموها عليه ؟ وهذا دليل لا شبهة فيه على أن قبيلة عمارة تكلمت العربية الفصحى .
والدليل الثالث : ان بعض الباحثين في تاريخ القبائل العربية حديثا جمع بعض القبائل تتكلم الفصحى إلي يومنا هذا . قال الأستاذ فؤاد حمزة في كتابه " قلب الجزيرة العربية " الذي طبع سنة ١٩٣٣ : -
" وأهل نجد أصرح لغة من أهل الحجاز ، لقرب هؤلاء من الحرمين ، واختلاطهم بالأجانب ، وبعد أولئك عن كل تلك العوامل ، ولكن افصح اللهجات واقربها إلي الفصحي فيما تعتقد ، هي اللهجات اليمانية الواقعة ما بين جنوبي الحجاز وشمالي اليمن . وكثيرا ما سمعنا أهل هذه البلاد يلفظون الكلمات من مخارجها الصحيحة ، ويتكلمون مما هو اقرب إلي الفصيح من سواء ، وبعض البداة من أهل هذه المنطقة يخرجون جملا ، يظن منها الإنسان انهم تمرنوا في المدارس على إخراجها على ذلك النحو ، بينما أن الحقيقة هي بخلاف ذلك ، لأنهم يتكلمون بالسليقة وعلى البديهة ، فيجيء كلأمهم فصيحا معربا لا غبار عليه . ويستعملون الفاظا نظمها في الاقطار العربية المتمدنة مهملة متروكة ، ولكنهم هم يستعملونها على البداهة " . هذا هو مجمل رأي الفريقين المختلفين
على أن الناحية التاريخية من هذا الموضوع لا خطر لها ، وإن كانت الأدلة التي يسوقها الفريق الثاني لا تترك مجالا للشك في صحة ما يذهبون إليه .
فالأمر الذي يسترعي الانتباه في الأقطار العربية جميعا هو وجود لغتين مستقلتين في بيئة وامة واحدة ، فهناك لغة فصيحة هي لغة الكتاب والقلم ، ولغة عامية ساذجة تتكلم بها الجماهير العربية . وهذه اللغة العامية تختلف باختلاف الأقطار العربية ، ففي بعضها طويلة الحركات مع شئ من الامالة ، كما هي الحال في القطر الشامي ، وفي بعضها قصيرة الحركات مع شئ من الاعتدال ، كما هي الحال في القطر المصري ، وفي بعضها متوسطة الحركات ، كما هي الحال في بعض انحاء الجزيرة العربية ، وبعض الأقطار ينفرد مفردات وتراكيب واصطلاحات لا نظير لها في سائر الأقطار . بيد ان جميع اللهجات العامية تشترك بفقدان اكثر الحركات
الأعرابية وبعض الأصوات القديمة والضمائر والأدوات . وليس وجود لغتين ، فصحي وعامية ، بالأمر الغريب في تاريخ الشعوب . فاللهجات العامية شائعة فيما تعرف من بلدان أوربا . فهي موجودة في ألمانيا وإنكلترا وفرنسا . ومما يروي أن الأستاذ المرحوم جبر ضومط قابل استاذا اسوجيا وقال له : " سعدا لكم أيها الأوربيون فان في بلادكم لغة واحدة ، أما نحن ففي بلادنا لغتان متباينتان " . فأجابه الأستاذ الإسوجي : " السعد لكم أنتم معشر العرب ، فان لغتكم العامية قريبة من الفصحى ، أما نحن فعندنا لهجات تكاد تكون منقطعة الصلة باللغة الأدبية " بيد أن خطر العامية في تلك البلدان دون خطرها في الأقطار العربية . ذلك لأن نسبة الأمية في أوربا أقل مما هي في البلاد العربية ، ولأن الحركة العلمية والأدبية في أوربا أقوي وأعم مما هي في بلادنا ، ولأن رفعة البلد الأوربي أشد تماسكا واتصالا ، سياسيا وثقافيا ، من رقعة البلد العربي . فهذه الأسباب تجعل خطر العامية في البلدان الأوربية ضعيفا للغاية
أما البلدان العربية فامها تواجه مشكلة خطيرة بحق . فإذا سافر عربي من قطر إلي قطر ، شعر أن لغته
العامية تحدث له مشاكل مضحكة حينا ومكدرة حينا آخر . وأنه يجد التفاهم عسيرا في كثير من الأحيان . أذكر ان شابا شاميا ذهب إلي مدرسة فرنسية في القاهرة ، وكان حينما يتحدث إلي الطلاب أو المعلم بلهجته يثير ضحكهم جميعا ، فالتجا إلي الفرنسية يخاطبهم بها ، كي ينجو من الاستهزاء
وإذا أراد عربي أن يخطب في حفل أو أن يتحدث في موضوع بلغة فصيحة ، وجب عليه ان يعني بأمرين النين في وقت واحد ، بالفكر الذي هو جوهر الموضوع وباللغة الفصيحة الخالية من الأخطاء . وفي ذلك تقييد للمتكلم ، وضيم للفكر .
يضاف إلي ذلك أن معلمي العربية في مختلف الأقطار العربية يجدون أكبر عناء في الوصول إلي غرضهم ذلك لأن اللهجة العامية اشد اثرا في عقول الطلاب من اللغة الفصيحة ، لأن الأولى هي لغة الام والأب ، ولغة النشأة والبيئة ، والثانية لغة المدرسة ، بل لغة الدرس فحسب . ولا شك في أن لغة البيئة تقهر لغة الصنعة وان الذوق السليم الذي يكتسبه الطالب في المدرسة يضعف بفسار السليقة المتغلبة على لغة البيئة. والواقع أن معلم العربية يهدم ويبني في وقت واحد
ونلحظ من جهة اخري أن ما ينشأ في البيئة من حكم وامثال وحكايات ونوادر تروي بالعامية ، وإن دونت بالفصحى فقدت رونقها . وبذلك تخسر الأمة مصدرا خصبا للأدب الحديث
ولهذه الصعوبات دعا نفر من الناس إلي استعمال العامية بدلا من الفصحى . وكتبت في هذا الموضوع ابحاث . بل هب بعضهم وألف فيها كتبا . ومن ذلك كتيب الفه الخوري مارون غصن في بيروت واسماء في مثلو هلكستاب ضمن حكايات وأغاني واحاديث عامة
ولكن هذه الدعوة ماتت وهي في المهد ، بل ولدت ميتة ، ولم يقدر لها الله ان تنجح في قطر من الأقطار على كثرة ما مهد لها بين الناس . وقد دعا إلي القضاء على هذه الدعوة عدة أسباب :
فمن جهة أخذ التحسس بالقومية العربية يقوي ويشتد واللغة ابرز مظهر من مظاهر القومية ، بل هي رمز القومية وأوثق رباط بين الناطقين بها . وهي إلي ذلك وسيلة التفاهم الوحيدة بين الأمم العربية في مختلف أقطارها
ومن جهة ثانية قوي الشعور بقيمة التراث العربي في المدارس العالية والجامعات . وما كان لعاقل ان يضحي نتاج حضارة ازدهرت قرونا طويلة ورفعت قومها
إلي المرتبة الأولى بين الأمم المساهمة في تكوين العلوم والآداب الأنسانية
ومن جهة ثالثة تقرر في أذهان الناس أن اللغة ليست الفاظا مرصوفة ، وإنما هي علوم وآداب وعواطف مصوغة في الفاظ . فالتخلي من الفصحى إنما هو رجوع بالفكر العربي إلي حالة السذاجة والجهل التى كانت عليها الأمة في أوائل نشأتها ، وهو دفن لتراث الأمة التليد وقطع لتاريخها المجيد
ومن جهة رابعة أدرك قادة الفكر أن الفصحى ليست لغة علم فحسب ، وإنما هي لغة دين ثابت الاركان
ومن جهة خامسة أخذت نسبة المتعلمين تزداد ازديادا مدهشا بحق . والمتعلمون هم قادة الرأي . ومن الطبيعي ان يتمسكوا بلغة العلم والأدب وان يمكنوا لها ما استطاعوا .
لم تعد الفكرة تتجه بعد هذا كله نحو إحياء اللهجات العالمية ، بل اخذت تتجه نحو تثبيت الفصحى ونشرها . ونشط العلماء والأدباء والزعماء يتلمسون افضل الوسائل لتسهيل الفصحى وإذاعتها بين الناس . وهذه هي الحركة التي تشهد اثارها اليوم في الأقطار العربية الناهضة في الجامع والمعاهد والصحف . ( القدس )
