الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1025الرجوع إلى "الرسالة"

العلل النحوية

Share

بالرغم من الصيحات المتتابعة من العلماء القدامى والمحدثين  بأن العلل النحوية لا غناء فيها ولا جدوى منها؛ وبالرغم من  الشكوى الأليمة المرة من المتعلمين والمعلمين على السواء من  تعقيد النحو العربي وصعوبته وكثرة الفضول فيه؛ بالرغم من  ذلك كله فلا يزال بعض العلماء ينادي بأن النحو العربي  خلق مبرأ من كل عيب وأن العلل النحوية بالذات - في  هذه الكتب هي الذهب الأبريز. ولا يزال المشرفون على  التعليم في المعاهد العلمية التي تدرس النحو كمادة اساسية مصرين على ان تدرس تلك الكتب القديمة بكل ما فيها  وواجب الطلاب والمعلمين أن يصبروا وأن يطيلوا الصبر  على تجرع هذه الأدوية المريرة فإنها الشفاء الوحيد من داء  الجهل. ويعلم الله أنها تزيد الداء شدة وبأساً، فكم في هذا  النحو من فضول. هذه الأمثلة التافهة التي تحدثنا عنها في  حديثنا الماضي وهذه الخلافات فيما لا يتصل بسلامة النطق  كاختلافهم في إعراب الأسماء الخمسة هل هو من مكانين أو  من مكان واحد، وكاختلافهم في إعراب المثنى وجمع المذكر  السالم: هل الألف والواو والياء إعراب أو حروف إعراب  أو دالة على الإعراب أو انقلابهما هو الإعراب؟ وهكذا من  مثل هذه الخلافات التي لا يقصد منها أكثر من إطالة  الجدل والتمرين على صناعة الأدلة؛ وهذه الخلافات ستكون  موضوع حديثنا المقبل - إن شاء الله - وهذه العلل  النحوية التي نحن بصدد الحديث عنها الآن، ما قيمتها؟  ما جدواها على العلم؟ ما مدى صحتها في نظر العقل والمنطق؟  هذه أسئلة يجيب عليها بعض علمائنا السابقين، يجيبون عليها  في صراحة وصرامة بأنها تكثير في مواد الكتب ولا غير؛  ولكن بعض المؤلفين من علمائنا يؤمنون بأنها الزبدة والخلاصة

ومدرسة النحو المتعيشون من تدريسه يقسمون بالطلاق  والعتاق وكل محرجة من الأيمان أنها الركن في دراسة  النحو، وأن الطالب إذا لم يحسنها فهو ليس بطالب! وكم  لقينا من أساتذتنا في الامتحانات الشفوية من مشقة وإعنات  في سبيل هذه العلل وتخريجها وتطبيقها، وكم لقي منا تلامذتنا  فنحن نتفلسف أمامهم لنظهر قدرتنا وضعفهم: ونحن إذا  عجزنا عن سؤال خالص سليم أغربنا عليهم بالسؤال عن  العلة والقياس والدليل، وبذلك نرضى عن أنفسنا حين نرى  تخبطهم أمامنا وضربهم في كل مذهب من القول والرأي.

هذا بعض علمائنا يعلق على بعض الفقرات من كتاب  من الكتب القديمة التي تحدثت عن هذا الموضوع فيقول:  اشتهرت هذه الكلمة عن أدلة النحو وعلله وهذه كلمة من  لم يمارس العلم الجليل ممارسة الباحث المنقب ولم يؤت سعة  صدر تسهل عليه احتمال المكاره وركوب الصعاب فإن آتاه  الله نفاذ بصر وقوة عارضه وسعة اطلاع وكان مع ذلك عالماً  باستعمالات العرب خبيراً بما يكثر في كلامها وما يقل وما  يأتي على جهة الندرة والشذوذ؛ إذا اجتمعت هذه الأمور  لامرئ أدرك تماماً أن هذه الأدلة التي يذكرها النحاة أدلة  مستقيمة على أحسن وجوه البحث).

ومع احترامي لهذا الأستاذ الجليل أكره جد  الكره أن يرمي كل إنسان يتكلم بما يخالف آراء بعض  العلماء السابقين أن يرمي بالجهل وبعدم نفاذ البصر وسعة  الاطلاع وأن يرمي بعدم الصبر. وسأسوق طرفاً مما قاله العلماء  في هذا الشأن ليعرف من لم يعرف أن هؤلاء الذين تكلموا  في العلل النحوية لم يقولوا عن جهل باستعمالات العرب  ولا عن ضيق في آفاق عقولهم.

يقول الأمير أبو محمد عبد الله بن محمد بن سعيد ابن سنان الخفاجى فى كتابه سر الفصاحة :

(فأما طريقة التعليل فإن النظر إذا سلط على ما يعلل  النحويون به لم يثبت معه إلا الفذ الفرد، بل ولا يثبت شيء

البتة؛ ولذلك كان المصيب منهم المحصل من يقول هكذا قالت  العرب من غير زيادة، فربما اعتذر المعتذر لهم بأن عللهم إنما  ذكروها وأوردوها لتصير صناعة ورياضة ويتدرب بها  المتعلم ويقوي بتأملها المبتدئ؛ فأما أن يكون ذلك جارياً على  قانون التعليل الصحيح والقياس المستقيم فذلك بعيد  لا يكاد يذهب إليه محصل).

ويقول ضياء الدين بن الاثير صاحب كتاب "المثل  السائر" ما نصه "فان قيل لو اخذت اقسام النحو بالتقاليد من وضعها لما اقيمت الادلة عليها ووعلم بقضية النظر ان  الفاعل يكون مرفوعا والمفعول منصوبا؟

فالجواب عن ذلك أنا نقول: هذه الأدلة واهية  لا تثبت على محك الجدل. فإن هؤلاء الذين تصدوا لأقامتها  سمعوا عن واضع اللغة رفع الفاعل ونصب المفعول من غير  دليل أبداه لهم فاستخرجوا لذلك أدلة وعللاً. وإلا فمن أين  علم هؤلاء أن الحكمة التي دعت الواضع إلى رفع الفاعل  ونصب المفعول هي التي ذكروها؟)

وكلام ابن الأثير يذكرنا بما كان يقول لنا أشياخنا  حين نجادلهم في مدى صحة هذه العلل فيقولون: إن علل  النحو كالوردة تشم. . ولا غير، كما نذكرنا بقول ذاك الشاع  الظريف في وصف صاحبته

ترنو بطرف ساحر فاتر       كأنه حجة نحوي

وقد فصل قاضي القضاة ابن مضا, القرطبي فى كتابه ( الرد على النحاة " فجعل من العلل مقبولا ومردودا قال : ومما يجب ان يسقط من النحو العلل الثواني والثوالث وذلك مثل سؤال السائل عن ( زيد ) من قولنا قام زيد لم رفع فيقال لانه فاعل وكل فاعل مرفوع , فيقول ولم رفع الفاعل.. ؟ فالصواب أن يقال له : كذا نطقت به العرب ثبت ذلك بالاستقرار من الكلام المتواتر . ولو أجبت السائل عن سؤاله بان تقول له : لافرق بين الفاعل والمفعول به فلم يقنعه ذلك وقال فلم لم تعكس القضية بنصب الفاعل ورفع

المفعول قلنا له : لأن الفاعل قليل لأنه لا يكون للفعل إلا فاعل واحد والمفعولات كثيرة ناعطي الأتقل الذى هو الرفع للفاعل واعطي الأخف الذى هو النصب للمفعول لأن الفاعل والمفعولات كثيرة ليقل فى كلامهم مايستثقلون . ويكثر في كلامهم ما يستخفون ؛ فلا زيدنا ذلك علما بان الفاعل مرفوع . ولو جهلنا ذلك لم يضرناجهله إذ قد صح عندنا رفع الفاعل الذى هو مطلوبنا باستقرار التواتر الذى يوقع العلم "

ثم يمضي ابن مضاء فيقسم العلل إلى ثلاثة أقسام.  قسم مقطوع به. وقسم فيه إقناع. وقسم مقطوع بفساده. ويمثل لكل قسم من هذه الأقسام ثم ينهي القول بوجوب  إلغاء أكثر العلل النحوية لأنها لا تفيدنا شيئاً في صحة                              النطق.

حتى الإمام عبد القاهر الجرجاني وهو من علماء النحو  المشاهير وكاد يقال له   (عبد القاهر النحوي)  وله آراء  تنقل عنه في كتب النحو وقد ألف في النحو كتاب    (المغني)  على شرح الإيضاح في ثلاثين مجلداً.

عبد القاهر هذا مع دفاعه الحاز في أول كتابه   (دلائل  الإعجاز)  عن النحو لم يستطع أن يأتي بما يقنع في الإبقاء على  العلل النحوية. ويظهر أن الحملة على النحو لعهد عبد القاهر  كانت قوية وكانت منتشرة ولذلك نجده يبالغ في الدفاع حتى  يجعل البلاغة هى توخى معاني النحو وليس غير، وحتى  يجعل التصغير من شأن النحو والتهاون به أشبه بأن يكون  صداً عن كتاب الله وعن معرفة معانيه؛ ومع ذلك لا يستطيع  أن يقول عمن يزهدون في معرفة العلل إنهم أساءوا الاختيار.  ومنعوا أنفسهم ما فيه الحظ لهم ومنعوها الاطلاع على مدارج  الحكمة وعلى العلوم الجمة؛ ولكنه يسامحهم ويعذرهم. ولعل  من الحسن أن ننقل كلامه في هذا الموضع حتى يكون القراء  على بصر من نظرة القدامى المنصفين إلى هذا النحو حتى  أصحاب النحو أنفسهم. قال الشيخ وهو يتحدث عمن زعموا

الاشتغال بالنحو وحطوا من شأنه (فإن قالوا إنا لم نأب  صحة هذا العلم، ولم ننكر مكان الحاجة إليه في معرفة كتاب  الله تعالى، وإنما أنكرنا أشياء كثرتموه بها؛ وفضول قول  تكلفتموها، ومسائل عويصة تجشمتم الفكر فيها، ثم لم  تحصلوا على شيء أكثر من أن تغربوا على السامعين وتعايوا  بها الحاضرين، قيل لهم: خبرونا عما زعمتم أنه فضول قول  وعويص لا يعدو بطائل، ما هو؟ فإن بدءوا فذكروا مسائل  التصريف التي يضمها النحويون للرياضة ولضرب من  تمكين المقاييس في النفوس كقولهم كيف تبني من كذا  كذا؟ وكقولهم ما وزن كذا؟ وتتبعهم في ذلك الألفاظ  الوحشية كقولهم: ما وزن عزويت؛ وما وزن أرونان.  وكقولهم في باب ما لا ينصرف: لو سميت رجلاً بكذا كيف  يكون الحكم؟ وأشباه ذلك. وقالوا أتشكون أن ذلك لا يجدي  إلا كد الفكر وإضاعة الوقت؟

قلنا لهم: أما هذا الجنس فلسنا نعيبكم إن لم تنظروا  فيه ولم تعنوا به، وليس يهمنا أمره فقولوا فيه ما شئتم وضعوه  حيث أردتم. فإن تركوا ذلك وتجاوزوه إلى الكلام على  أغراض واضع اللغة وعلى وجه الحكمة في الأوضاع وتقرير  المقاييس التي اطردت عليها وذكر العلل التي اقتضت أن  تجرى على ما أجريت عليه، كالقول في المعتل وفيما يلحق  الحروف الثلاثة التي هي الواو والياء والألف من التغيير  بالإبدال والحذف والإسكان، أو ككلامنا مثلاً على التثنية  وجمع السلامة. لم كان إعرابهما على خلاف إعراب الواحد؟  ولم تبع النصب فيهما الجر، وفي النون أنه عوض عن الحركة  والتنوين في حال وعن الحركة وحدها في حال؟ والكلام  على ما ينصرف وما لا ينصرف ولم كان منع الصرف وبيان  العلة فيه والقول على الأسباب التسعة وأنها كلها ثوان  لأصول، وأنه إذا حصل منها اثنان في اسم أو تكرر  سبب صار بذلك ثانياً من جهتين؛ وإذا صار كذلك أشبه  الفعل لأن الفعل ثان للاسم والاسم المقدم والأول وكل

ما جرى هذا المجرى قلنا: إنا نسكت عنكم في هذا الضرب  أيضاً ونسامحكم فيه على علم منا بأنكم قد أسأتم الاختيار  ومنعتم أنفسكم ما فيه الحظ لكم ومنعتموها الاطلاع على  مدارج الحكمة وعلى العلوم الجمة)

ونستطيع من كلام الشيخ عبد القاهر هذا أن نأخذ  دليلاً واضحاً قوياً من عالم نحوي عظيم بأن هذين المبحثين  مبحث التمارين العملية ومبحث العلل، لا ضرورة لهما لمن  يريد أن يعرف القواعد النحوية التي تمكنه أن يأمن الخطأ  إذا خاض في التفسير وتعاطى التأويل وإن كنا نزيد على  ما قاله الشيخ مباحث أخرى كالاختلافات الكثيرة التي  لا تتصل بصحة النطق، التي لا جدوى منها مطلقاً. .

ولو أننا جردنا النحو من كل هذا الفضول لاستطعنا  أن نحصل ما بقي من القواعد الأصلية في زمن وجيز.  ولكن المؤسف حقاً أن يقضي الطالب - في الأزهر  مثلاً - ثلاثة عشر عاماً يدرس النحو ثم يخرج إلى المدارس  أو إلى المعاهد ليعلمه ثم هو بعد كل ذلك لم يحصل منه على  طائل ولم يستطع أن يقيم لسانه من الخطأ!

ولقد قال صاحب كتاب   (الإرشاد والتعليم)  عن  السبب في هذه الحال   (أن كتب النحو التي يؤخذ منها في  عامة البلاد هي من أحط الكتب قدراً وأكثرها حشواً  وأقلها فائدة وأن الاشتغال بها قاطع عن علم العربية  لا مفض إليه) .

وإني أدعو - هنا - كما دعا عدد غير قليل من  قبلي إلى طرح هذه الكتب التي ألفت في العصور المتأخرة  وإلى تنقية النحو من كل ما سبقت الإشارة إليه. ويجب  ألا يثنينا عن ذلك غضبة جماعة ألفوا هذه الكتب ودرسوا  النحو على تلك الطرق الملتوية فإنهم لا يقولون إلا كما قال  الأخفش للجاحظ، قال الجاحظ   (قلت لأبي الحسن الأخفش.  أنت أعلم الناس بالنحو فلم لا تجعل كتبك مفهومة كلها؟  وما بالنا نفهم بعضها ولا نفهم أكثرها؟ وما لك تقدم

بعض العويص وتؤخر بعض المفهوم؟ قال أنا رجل لم أضع  كتبي هذه لله، وليست هي من كتب الدين، ولو وضعتها هذا  الوضع الذي تدعوني إليه قلت حاجاتهم إلي فيها. . . وإنما  قد كسبت في هذا التدبير إذ كنت إلى التكسب ذهبت) .

وما ننكر أن في هؤلاء الذين يعكفون على النحو من  خلصت نياتهم وسمت أغراضهم، ولكنهم يمارون ويضنون  بما ألقوا؛ فلنكن أكثر إخلاصاً وأشد طلباً لما عند الله. ولنرح  المعلمين والمتعلمين من هذا الجدل العقيم الذي لا فائدة منه  إلا ضياع الوقت وتصديع الرؤوس

اشترك في نشرتنا البريدية