دخل المساء ، وأخذت تضئ فى حجرات ذلك البيت العتيق الأضواء ، إلا حجرة واحدة ، هى أخمر ما فى البيت من حجر , ظلت معتمة ، لأن من عادتها أن تزخر بالنور والناس معا . وتقدم الليل ، ودخلها الزائر الأول ، فالجليس الثانى ، فالثالث ، وازدحمت حتى لم يبق فيها موضع لقاعد . وأخذ القوم فى الحديث رهوا . وهو حديث ، وهم جمع ، لا يشبهه أو يشبههم شئ مما يجتمع عليه الناس فى هذه الأيام . فهو وهم أشبه بحديث ذلك (( النادر )) الشرقية القديمة التى كان يجتمع فيها ذاك النفر العتيق من آبائنا وأجدادنا , يجتمعون على السمر ، وتبادل الفكر ، وتقارع الحجج ، ويجتمعون فيها فى وقت معتاد ، ولكن على غير ميعاد ، وبحضور صاحب البيت وفى غيبته ، فالحجرة للجميع وإن خصت صاحب الدار ملكا .
بدأ الحديث رهوا كما قدمت ، وأخذ كل بطرف من أطرافه أخذ رفق لا يبالى صاحبه شد أم أرخى . وإذا عين من أعيان المجلس يدعى ، فيخرج ، ثم لا يكاد يخرج حتى يدخل ومعه ضيف ذو مقام ، فيقدمه إلى المجلس بما يتطلبه المقام من كلمات طيبات وتحيات عامرات . وتراءى لى الضيف الكريم من أول وهلة غريبا فى أطواره . وتراءى لى من دون هذا الجسم شخصية قوية عاتية ثائرة ، كان مما أثارها احتواء هذا الجسم إياها ، فتلوت فيه عنيفة تريد لها منه مخلصا ، فتلوى الجسم بتلويها ، فانحنى ، ثم سكنت العاصفة فى منتصف الطريق ودام للجسم انحناؤه . وطلبت القهوة له ، فطلبها قهوة مغلاة . وكل قهوة بالطبع مغلاة ، وإذن فلا بد من شرح . فهى قهوة وصفها كذا وكذلك ثم هكذا . وابتسم
صاحب الضيافة لتلك الأوصاف الجديدة ، وقال : هل من مزيد ؟ وكان الرجل فى طلبه ووصفه ظريفا أخاذا ، ذكرنى بشيطان (( بابينى )) فى ظرفه ولذة حديثه .
وشيطان (( بابينى )) , على ما وصفه كاتب (( الثقافة )) فى عدد فائت ، مخلوق خفيف الروح ، لن تجد أشد منه تسامحا ، فهو يعرف ظلم الناس وشرهم وفحشاءهم ، ولكنه لا يستفزه شىء من الغضب عليهم ؛ وهو هادئ الطبع . مبتسم . وإذا جرى ذكر الله على لسانه قال إن الله عادل رءوف ، فقد زحزحه عن السماء ولكنه عطف عليه فمهد له صناعة لا بأس بها على ظهر هذه الأرض .
وغشيت الجمع من كل هذا سكتة ، وظلوا صامتين ، كل ينتظر لسانا يقطع السكوت . فكان هذا اللسان لسان صاحبنا الضيف ، شيطان (( بابينى )) .
قال : كنت أقرأ كتابا لرجل فرنسى فى الإلحاد . فقلت فى نفسى : يا فتاح . وقلت : مقدمة تجرى إلى غايتها .
قال : ومع أنه كتاب فى الإلحاد فقد بدأه كاتبه بالحمد لله
قلت : ضرب بيد ، فلما مالت ، أسندها بالأخرى . قال صاحب الضيافة يعزز تلك الضربة السائدة : هذا يذكرنى برجل ملحد ظل يعلن إلحاده لصاحبه ، وهذا لا يصدق ، فلما ضاق بالإنكار ذرعا ، صاح فى غضب يقول : والله العظيم إنى لملحد . وضحك الجميع ، وضحك الضيف مع الضاحكين .
وعاد شيطان (( بابينى )) يقول معتذرا عن فلتة صاحبنا الغاضب : إن المرء لا يستطيع أن يتخلص من ماضيه فجأة ، ولا أن ينزع ثوب إيمانه ، وهو ثوب ذو طبقات ، دفعة واحدة . ولا بد له من التتلمذ الطويل حتى يصبح فى الكفر أستاذا .
قال هذا وسكت . لقد وضع الكرة فى أوسط الميدان
وتربص بأحد اللاعبين أن يتقدم بقدمه ليضرب الكرة فيبدأ بها الشوط ، ولكن الحاضرين ظلوا صامتين كأنما يتطلعون (( إلى ما وراء عصام )) .
وحقق عصام الرجاء . واستطرد صاحبنا الضيف فى حديثه ، حتى قالها قولة جامعة : إن الدين علم الأقدمين ، وإن العلم دين الأحدثين .
فبهذه دحرج الكرة شيطان (( بابينى )) دحرجة لم تستطع عليها الأقدام صبرا ، فأخذت كل قدم حصتها من النزال .
قال أحد الجلساء : حسبت الأمر هزلا فإذا هو جد ، وإذن فالأحرى بنا أن نعرف الدين ونحدده ، حتى يكون النقاش على بينة . إن الدين يتعلق بأشياء تتضمن الأخلاق الفردية ، والمعاملات الاجتماعية ، والعبادات والعقائد . فالأخلاق مثلا كيف يصنعها العلم ؟
قال الشيطان : يصنعها بألا يقال للطفل لا تكذب فإن للكذب عقابا ، واصدق فإن للصدق عند الله ثوابا ، ولكن يقال له لا تكذب حتى لا يكذب عليك غيرك فيضرك كما ضررت ، واصدق حتى يصدق معك غيرك فينفعك كما نفعت ، فيكون أساس الخلق فى المجتمع ما يصيب المجتمع منها ، وما يصيب أفراده بالتبع ، من منافع وأضرار . وإلا فما خير أخلاق تباع بالثمن كما تباع السلع فى الأسواق ؟! قال الجليس الأول : هذا يذكرنى يقول المعرى :
أأحب قوما لم يحبوا ربهم إلا لفردوس لديه ونار ؟
قال جليس ثان : إن الإيمان طبقات ، ليس من أرفعها هذه الطبقة التى تصف . وكيف يراد بالطفل أن يفهم المجتمع وهو لا يكاد يتصور معنى الأسرة . والطفل فى أخلاقه الأولى بهيم ، والبهائم إحساسها بالمجتمع ومعنى المجتمع ضعيف . والأطفال فى الناس كثيرون وإن كبرت أعمارهم .
قال جليس ثالث : على أنى لا أكاد أدرك الفرق بين رجل يقال له اصدق ، لأن للصدق ثوابا عند الله ، وبين رجل يقال له اصدق ، لأن للصدق ثوابا عند المجتمع , يأتيك ويعود عليك من أهل بيتك جزاء على جميلك . كلا الثوابين ثمن لبضاعة .
الجليس الأول : ولم لا تحسب أن ثواب المجتمع من ثواب الله . على أن أرقى درجات الإيمان أن يصدق الصادق للصدق وحده ؟ !
الجليس الثالث : إن من أسخف ما أسمع ، ولا تؤاخذنى ، هذا الذى يقال من أن يفعل الرجل لقصد الفعل وحده . فهو يصدق للصدق وحده ، وهو يحب للحب وحده . استطرد وقل معى إنه يأكل للأكل وحده ، لا للذة التى يجد ، أو أنه يبكى للبكاء وحده ، لا للألم الذى يجد ، أو قل معى إنه يحيا للحياة وحدها ، أو يموت للموت وحده ، يتبين لك سخف الفكرة التى تقول إن إنسانا يفعل كذا بقصد الفعلة وحدها . إن الحياة فعل وانفعال ، وأسباب تنهى إلى غايات ، وهى عند ذوى اليقظة من الأحياء مقارضات ، وصفقات متبادلات ، لا شارف فيها ولا مشروف . وقد تخفى من الصفقة البضاعة ويبين الثمن ، وقد يخفى الثمن وتبين البضاعة ، وإنى لأعيذك بالله ، أو إن شئتم فبالشيطان ، أن تسموا مثل هذه البضاعة هبة ، أو تسموا مثل هذا الثمن جودا .
وأخذ القوم فى هذا النقاش الأخلاقى ساعة ، حتى نبئهم منبه إلى ما انساقوا إليه .
قال الجليس الرابع : مهلا أيها الإخوان . إن النقاش على ما فهمت شئ بين الدين والعلم . وإذا ذكر الدين فى هذا المعرض فإنما يقصد به إلى ما فى الدين من عقائد . ويقصد بالتخصيص إلى فكرة الله . فما للعلم الحديث والأخلاق ، أو صنوف العبادات ؟ والضيف الفاضل الذى فتح هذا الباب إنما فتحه بالحديث عن كتاب لملحد ،
والإلحاد إنكار الذات الإلهية ، ففى ذات الله ركزوا الحديث . فالقضية أن العلم الحديث ينفى فكرة الله . فالقضية قضية العلم والأديان جميعا مهما اختلفت عباداتها وأخلاقها ونواصبها .
قال شيطان (( بابينى )) موضحا ، بحسبانه مقدم القضية : إن الإنسان الأول لم تكن لديه فكرة عن إله أو آلهة ، ثم أفزعته ظواهر الطبيعة العارية فاحتمى بآلهة ظنها باعثة هذه الظواهر تريد بها شر به ؛ ثم تدرجت الفكرة حتى كانت الآلهة كنفوش ، وبوذا ، ثم إله اليهود ، فإله النصارى وهو ذو شعب ثلاث ، ثم إله محمد ، ثم جاء العلم فمحا كل هذه الآلهة محوا .
جليس خامس : إنك يا سيدى تحسن النقل ، وإنك لبوق من جيد الأبواق . إن هذا الذى تحكى يا سيدى هو هذا الذى كتبه صاحب كتابك ، كتاب الإلحاد ، ذاك الفرنسى النصرانى سابقا . وإنى أحسبك يا سيدى كفرت بالتوراة والإنجيل والقرآن ، واتخذت من كتاب صاحبك توراة وإنجيلا وقرآنا ، فاستبدلت كتابا بكتاب ، وربا برب ، وساء ما استبدلت كتابا ، وساء ما استبدلت ربا .
الجليس الثانى : رفقا يا صديقى بالنقاش ، ولا تغضب ، فلن يزيد الغضب الحجة إلا وهنا . أما أنت أيها الضيف الجليل فقل لى من أثبت أن الإنسان الأول كان يجهل الله . وهب جدلا أنه جهله ، فكيف يقوم هذا حجة على انتفاء وجود الله ؟ إن الآساد وحشية فى أدغالها ، وإن الحمير مسأنسة بين ظهرانينا ، لا تدرك لله وجودا ، بل هى لا تدرك وجودك أنت بين ظهرانينا الآن يا سيدي ، فهل يقوم هذا حجة على انتفاء وجود الله أو انتفاء وجودك ؟
وتقول إن الإنسان استنبط فكرة الله من ظواهر الطبيعة ، فإن كان هذا فما أجمله مصدرا للاستنباط ، وما
أصحها وسيلة فى حكم المنطق ! وتقول إنه تدرج من فكرة الآلهة ، إلى إله موسى وإله عيسى وإله محمد ، فإن كان هذا ، فما أجمله مظهرا من الترقى والنشوء وهما من سنة الكون ! وتقول إن العلم محا إله موسى وعيسى ومحمد ، فهل لك أن تخبرنا كيف محاه ؟
شيطان (( بابينى )) : إن العلماء يرون أن ...
الجليس الخامس : إن كان الحديث عن العلم فليتحدث عنه رجل من أهله . وبيننا رجل من أهله ظل العشية صامتا ، فما باله لا يدلى بدلوه . خذ بالحديث ياصاحبى .
صاحب العلم : إنى لأجد فى الصمت والاستماع لذة لا أجدها فى الحديث ، ومع هذا فلا بأس بالحديث القليل يتخلل الصمت الكثير . إن أول شئ أود أن أقرره أن العلم لم يبحث يوما فى فكرة الله ، ولم يدع يوما إلى البحث فى فكرة الله ، ولم يدع يوما أن الموضوع موضوعه . إن العلم الحديث بقتصر صراحة على بحث ما هو مادى ، على بحث ما هو طبيعى ، ولا شأن له بما وراء الطبيعة أبدا . لهذا نجد العالم النباتى والعالم الحيوانى والعالم الفزيائى والكيميائى والفلكى وهلم جرا ، ولا تجد عالما من أهل العلم الحديث اسمه العالم الإلهى . فالإلهيات ليست من اختصاص العلم الحديث وعلمائه ، إلا أن تكون النجارة من اختصاص الحداد ، والحدادة من اختصاص النجار . ولكن العلم الحديث طغى بنتائجه على عقول البشر وبهر ، فنسبوا إليه ما لم يدع هو لنفسه ، كما بهرت الأنبياء عقول الضعفاء من الناس قديما وحديثا ، فجعلوا منهم ، وبرغمهم ، آلهة . إن العلم الحديث لتعجز آلاته الحاضرة ، وطرقه الحاضرة ، عن معالجة ما وراء الطبيعة ، وفكرة الله بعض مما وراء الطبيعة ، فهى مما يعجز العلم عن تناوله . فهذا أول شئ أريد أن أثبته .
أما الشئ الثانى فهو أن العلماء ، وأكثرهم غربيون نصرانيون ، قد يكونون قد وجدوا فى تفاصيل دينهم مما يتناول
الطبائع المادية ، أمور تتعارض مع ما استنبطوه بدراساتهم العلمية الطبيعية ، فيكفروا بهذه التفاصيل ، ولكن بقيت عندهم فكرة الله قائمة لا يمسها شئ ، نفيا أو إثباتا ، لأنها وراء الطبيعة ، والعلماء إنما يمسون الطبيعة نفيا أو إثباتا .
وشئ ثالث أريد أن أقرره . ذلك أن العلم يبحث فى الماديات من وجهات عدة ، فهو يبحثها من وجهة انحلالها واتحادها ( الكيمياء ) , ومن وجهة حركتها وسكونها ( الطبيعة ) ، ومن وجهة نمائها وفنائها ( الحيوان والنبات ) ، ويبحث فى أجرام الأرض وأجرام السماء ؛ ويبحث المادة من أركان عديدة تكاد تشمل كل ركن ، وينظر إليها من مراقب شتى تكاد تشمل كل مرقب ، فيرى تلك القوانين التى تعمل لشتى الأغراض إنما تعمل على أتم تناسق ، فلا يمس تمام هذا التناسق بعد المكان ولا اختلاف الزمان . لقد قيل إن المادة لا حياة فيها . وإنى لأرى فيها نوعا من الحياة ، أرى لها روحا تضبط حركتها وسكونها ، هو ذلك الطبع الذى يجرى فيها انسجاما فتسميه قانونا ، وهى روح واحدة تشمل النوع الواحد ، حل فى بطن حجر ، أو طلع نخلة ، أو معدة كلب ، أو مخ إنسان ، أو فى جوف كوكب سيار ، أو فى ذيل مذنب طواف . ومعنى هذا أن الإصبع التى تعمل فى تلك الأشياء على اختلاف أوعيتها ، وعلى ترامى أبعادها - وهى أبعاد تشمل الكون أجمع - أن هى إلا إصبع واحدة . وهى إصبع عملت أمس وتعمل غدا ، فهى إصبع على ما نحسب أزلية أبدية .
إن العالم ، فى أى موضع من مواضع الكون هبط ، ومن أى مرقب من مراقب البصر نظر ، وفى أى بحث عالج ، أو حقيقة استكشف ، ليصدم دائما بتلك الإصبع الواحده تقول له : إنك لواجدنى أينما ذهبت ، فليس لك عنى محيص .
على أن هذا التناسق ، وهذا الترابط ، ووحدة تلك الأغراض المختلفات ظاهرا ، المتآلفات باطنا ، لا تحتاج إلى عين عالم ليبصرها . إن النخلة لتنمو وتسمو ثم تثمر ثمرا حلوا يأكله الرجل ليحيله شحما . ولكن هذا السكر الحلو لا يدخل مجرى الدماء من الرجال لولا أنزيمات خاصة فى الأجسام تغلفه ليمر من أبوابها فلولا السكر ما كان لهذه الأنزيمات معنى . إن الإصبع التى مهدت للسكر أن يخلق هى هى التى مهدت لهذه الأنزيمات أن تكون . وموضعهما مختلف ، وزمانهما مختلف . كذلك عيون الخلائق ، وهذا التركيب البديع الذى احتواها ، من عدسة كعدسة العامل تسلم الضوء ، وستار فى قاع العين كشاشة الصور البيضاء تنعكس عليها بالصور الأضواء - هذه العين ما كان لها معنى فى الوجود لولا ضياء هذه الشمس الذى يأتينا من السماء . فالإصبع التى تعمل فى أقاصى السماء فتنتج هذه الأضواء ، هى هى الإصبع التى تعمل فى ظلمات الأرحام لتشكل هذه الأعين التى من العبث أن تشكل لولا ضياء هذه السماء .
إن الأمثلة أيها الأخوان كثيرة شتيتة بل هى لا حصر لها . فأينما نظرت مثل . إن هذا الكون كجوقة موسيقية عظمى ، هذا ينفخ بوقا ، وهذا يدق طبلا ، وهذا يضرب وترا ، ولكن أعين الجميع تلتقى عند عصا قائدها حتى لا يضل وتر أو يكون نشاز .
الجليس الرابع : ومن يكون قائد هذه الجوقة ؟
الجليس الخامس : إنه الواحد الأوحد . ملء السماوات والأرض لا يشبهه شئ . وهو العلى العظيم .
عند ذاك نهض شيطان (( بابينى )) يستأذن لينصرف ، ودار على الجماعة مسلما ، وعلى وجهه ابتسامة عريضة .
ثم انفض الجمع ، وأطفئت الأنوار ، وعادت الحجرة إلى سكونها وظلامها ، ليعاودها الضوء وتعاودها الحركة فى موعد غير بعيد .
