الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الثانيالرجوع إلى "الرسالة"

العلم والخلق

Share

وجهة العالم فى أن يدرك الأمور على ما هى عليه، ونشاطه فى  أن يكسب للمعرفة من ميدان الجهل، وأن ينشر النور حيث يخيم  الظلام. ووجهة الخلقي فى أن يصور الأمور على ما ينبغى أن تكون  عليه الأمور، وأن يلفت الأنظار الي مثل عليا تحفز بالناس للتسامي  اليها والارتفاع بأنفسهم وبالحياة الراهنة الى ما هو أرفع من أنفسهم  وأرفع من الحياة الراهنة.

ولطالما اضطربت الإفهام واستغلق الأمر على الباحثين حيث  تعرضوا لاستجلاء الصلة بين العلم وبين الأخلاق فحسبوا أن الوشائج  بينهم مقطوعة حين نظروا الي وجهتين مختلفتين: وجهة من يصف  ويعلل، ووجهة من يرتضى مثالا ويوجه اليه، وجهة من يهز صوته  الفكر ويتردد صدى هذا الصوت بين جوانب الدماغ، ووجهة من  تؤم نغماته تجاويف القلب وتسري فى أقنية الدم، وعلى أسلاك العصب  لتدفع بالنفس كلها الى العمل.

لطالما رأى غير قليل من المفكرين أن العلم النظري وثمراته  التطبيقية لا تؤثر فى الناس لتهذيبهم على نحو ما تؤثر العقائد الدينية  والفلسفة والمثل العليا، حتى أن بعض قادة الفكر فى الزمن الحديث  أمثال (بسكال) و (ديكارت) اصطنعوا لأنفسهم ذلك الرأى  فتخطوا العلم ليجدوا فى الدين وفى العرف مرشدا لسلوكهم ومأمنا  لأحكامهم وتقديرهم فى اتخاذ الحسن من الأفعال وتجنب القبيح منها،  وفى اتخاذ السبيل لراحة النفس واطمئنانها. بل قد ذهب غير قليل  من مفكري عصرنا الى إساءة الظن بالعلم فحملوه أوزار الحروب  القاسية، وأخطار الفراغ الممل، وأضرار الثورات الاجتماعية العنيفة  ومساويء المطامع والتنازع الحاد، حتى وقد يبالغون فى لوم العلم الى حد  أن يروا على نحو ما يرى (أيشتين) فى أنه ذلك المسىء الى الحريات  الإنسانية، فمن ينظر الى تلك المصانع وما فيها من آلات منوعة،  وأعمال موزعة، يتبين أنها تتناصر جميعا على استعباد عدد من العمال  وفير، وتسخيرهم تسخيرا آليا تضمحل معه نفوسهم، وتهن من  تأثيره كرامتهم، بل ربما يذهب الذاهبون فى مذهبهم العدائي للعلم الي  الخطيره إنذارا للناس وإقامة للحجة عليهم اذا لج بهم الغرور فلم  يرعووا ولم يزدجروا.

على أن روح أبى ذر لم يكن ليغيب مع جثمانه فى تلك الفلاة  البلقع، فقد ظل صوته داويا الى أن تحقق ما أنذر به المدينة من  "غارة شعواء وحرب مذكار" ووقفت الفتنة الكبرى التى يقال أنها  أنتجت كل فتنة حدثت فى الإسلام. ولقد كانت غفار ممن نهض  فيها وألقى فى نارها حطبا.

حد أقسى مما تقدم، فلا يشفع له عندهم فض المحسن الى البشر اذ  يقاوم الأمراض الفتاكة، وييسر المسافات البعيدة، ويرفه الخلق  فى كثير، فمع ذلك ورغم ذلك قد ينكرون على العلم قيمته وفضله لأن  من يستطيع الإحسان فى شىء قد تكبر تبعته ويعظم أثمه اذا هو  استخدم سلاحه للإساءة والعدوان وهو عارف لمواضع الإحسان.  وأى إساءة أعظم من إساءة الحروب المعززة بجهود العلم؟ وأى عدوان  أشد من تحويل عدد عديد من الناس الى صنف من المخلوقات يستغرق  فى الإنتاج شهوة ومن غير قصد، ويستغرق فى الاستهلاك شهوة،  ومن غير حد؟.

على أن هذا النحو من النظر العدائي ربما كان بعض مصدره  ما تتعرض إليه النفوس واللغات أحيانا من الخلط بين الوسائل  وغاياتها، وبين العلل ومعلولاتها، وبين الحال والمحل مما هو  شائع ذائع.

وعلى هذا النحو خلط الكثيرون بين العلم المحض الخالص وبين  نتائج العلم وتطبيقاته فى شؤون الحياة، وكذلك قد ظلموه على نحو  ما يظلم السيف المهند فى يد الجندي الجبان.

وليس حظ السذج والعامة فى الخلط بين العلم وتطبيقاته بأربى  من حظ بعض الخاصة وأشباههم فى هذا الأمر. وقد يطلب  الكثيرون من معاهد العلم ودوره أن تفيض عليهم وعلى أبنائهم من  المتعلمين بما ينتفع به الناس انتفاعا عمليا حتى شاعت فى السنين  الأخيرة عندنا وعند غيرنا من الأمم بدعة العلم العملى والتعليم  العملى ونادى بها أكثر من كاتب، وقال بها أكثر من مشتغل  بشؤون التعليم. ولو أنصف هؤلاء وهؤلاء لاعترفوا للعلم بطبيعته  النظرية، وقدروا له حرصه على المعرفة لذاتها فحسب دون تقدير لنتائجها  الضارة أو النافعة.

لكن غير المشتغلين بالعلم الخالص من أفراد الناس بخاصة هم الذين  وجهوا نتائج العلم للخير والشر وللحسن والقبيح، دون أن يكون للعلم  فى ذاته دخل فى ذلك التوجيه. فما على العلم اذن وما له اذا استخدم  الإنسان بعض آثاره ليعيث بها فسادا أو ليصلح بها فى الوجود؟.

ليس فى قانون البحث العلمي ما يلزمنا أن نحكم بأن غازا من  الغازات يجب أن يتوجه لحيث يحيي أو لحيث يميت! وليس فى  قانون العلم أن جوهرا من الجواهر يجب أن يكون سما ناقعا أو بلسما  نافعا! لكن طبيعة الانسان بما فيها من رفعة أو ضعة هي التي تستخدم  السم لتجعل منه الدواء أو لتجعل منه الداء، وهي التي تستخدم الشىء الواحد  يكون نعمة أو نقمة. فمدار الخير أو الشر إذن إنما هو منوط بالإنسان . . . على أن الناظر المدقق لو أنه تأمل مليا لوجد أن العلم  يشمل عدة عناصر تهيئ النفس للتسامي والخير. ذلك لأن العلم بشىء  من الأشياء، وتكشف الحق فى جهة من الجهات، وإطلاق النور فى  مكامن الديجور كل ذلك إنما يشعر بعظمة العقل وجدارة الانسان،  وفى الشعور بالعظمة والجدارة أول مصدر للخلق ونبالته. ولست أريد

فى هذه الكلمة الوجيزة أن أتعرض لما يحدثه العلم واصطناعه فى تقوية  الاستعدادات الخلقية الكريمة، وحسبي أن أنبه طالب العلم الى أن العلم  فى جوهره نبيل وأن المنتمي اليه يجب أن يكون نبيلا. فيا طالب  العلم لا تأثم فى حقه فتتوجه به الى منخفض من الحياة، والى ما فى الدنيا  من ضعة! واعمل دائما على أن تعلو بعلمك الى السماء وتحلق به حيث  شرف النفس ورفعة المقصد وآفاق المعاني السامية وعالم الخير

اشترك في نشرتنا البريدية