الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الثالثالرجوع إلى "الرسالة"

العوامل المؤثرة فى الادب, العوامل المؤثرة فى الادب

Share

ليس الأدب الا التعبير القوى الصادق عن مشاعر المرء وخواطره وأخيلته، وهذه تتأثر بأحوال العيش وأنواع العقائد وأطوار المجتمع وأنظمة الملك وتقلبات السياسة، ومن المفيد الالمام بهذه العوامل المؤثرة فى الأدب لتكون دستور المؤرخ وشريعة الأديب ونبراس  الباحث فيما يصدر عن الانسان من كد الأذهان وفيض القرائح.

فمن هذه العوامل (طبيعة الاقليم ومناخ البلد) وأثرهما فى حياة  الناس وسلائل الأجناس معلوم فى بدائه العقول. فأحوال الإقليم  هى التى تنهج لساكنيه سنن معاشهم ونظام اجتماعهم. وتكون  الكثير الغالب من أخلاقهم وطباعهم، ومناظره هى التى تربى ذوق أبنائه، وتغذى خيال كتابه وشعرائه، فالشعر الجاهلى مثلا صورة صادقة لطبيعة البادية وحياة البدو: فألفاظه خشنة كالجبل،  ومعانيه وحشية كالأوابد، وأساليبه متشابهة كالصخر، وأخيلته  مجدبة كالقفر، ولن تجد فى غير الجزيرة العربية أمثال الشنفرى وتأبط شرا والسليك بن السلكة من هؤلاء الشعراء الصعاليك  الذين تغنوا بحياة البادية ومناظرها وأبا عرها وغزلانها وكثبانها  واطلالها وجبالها بشعر متين الحبك صادق الوصف جاف اللفظ  عنجهى الخيال. وقد اختلف الشعر فى شبه الجزيرة نفسها باختلاف  الأماكن: فهو فى نجد غيره فى الحجاز، وهو فى أهل الوبر غيره

أهل المدر. ولهذا العامل وحده نعزو انقراض الأراجيز وهى  أقدم الأطوار لشعر البادية حين ارتحل ناظموها من الصحارى  المجدبة الى سواد العراق وريفه. وفى حواشى العراق وظلاله،  وخمائل نجد وجباله، اخضر عود الشعر واستقام وزن القصيد  ومن ثم قال القدماء ان امرأ القيس ومهلهل بن ربيعة وعمرو بن  قميئة هم أول من قال الشعر وأطال القصائد، وما كانوا فى الواقع  الا زعماء النهضة الأدبية فى هذه البلاد.

وظل عامل الطبيعة يفعل فعله فى الأدب خلال القرون، فخالف  بين الشعر فى عواصم الشرق وبينه فى الأندلس. فقد وجد شعراء

العرب فى أوربا ما لم يجدوه فى آسيا من الأجواء المتغيرة والمناظر  المختلفة والامطار المتصلة والجبال المؤزرة بعميم النبت، والمروج  المطرزة بألوان النور، فهذبوا الشعر وتأنقوا فى ألفاظه ومعانيه،  ونوعوا فى أوزانه وقوافيه، ودبجوه تدبيج الزهر، وسلسلوه سلسلة  النهر، وسلكوا به مسلك التنوع والتجديد. وهذا العامل هو الذى يخالف اليوم بين الأدب فى مصر وبينه فى الشام والعراق. فالطبيعة  المصرية تكاد أن تكون نائمة: فالجو معتدل فى جميع الفصول  لا يكاد يختلف، وحقول الوادى الحبيب لا تعرى من الزهور  والزروع، والسماء السافرة والصحرا وان الوسيعتان لا تكاد  مناظرهما تتغير. فاذا لم تكن طبيعة بلادنا نائمة فهى على الأقل  مسالمة، لأنها لا تزعجنا بالزلازل العنيفة، ولا تهزنا بالعواصف  الرعن، ولا تخزنا بالبرد القارس والحر اللافح، فطبعت أهلها على  الوداعة والفكاهة والبشاشة والكسل والمحافظة على القديم من  العادات والأخلاق والآداب فلا تتطور هذه الأمور فى مصر الا  بمقدار. ولذلك تجد شعرنا منضد اللفظ جيد السبك بطيء التجدد  هادئ الاسلوب لين العطف لا يأخذ الأمور الا بالملاينة والرفق.  بينما تجد الشعر فى الشام شديد الحركة كثير التنوع سريع التجدد  قلق الاساليب لتعدد المناظر واختلاف الصور وتقلب الطبيعة  ونشاط الحياة. وهو فى العراق قوى أبى ثائر ساخط متوثب  منتشر على ألسنة الخاصة والعامة لالتهاب المخيلة وتوقد الشعور  وصفاء الحس من افراط الطبيعة فى الحر والبرد وغلبة الحياة البدوية  على كثرة السكان.

على أن هذا العامل قد أخذ يضعف منذ أواسط القرن الماضى  لسهولة المواصلات وكثرة المخترعات وانتشار المدنية، فيستطيع  الانسان ان يعيش فى آسيا وافريقيا كما يعيش فى أوربا، وسيزداد  ضعفا فى المستقبل دون أن يمحي ويبيد.

ومنها (خصائص الجنس) فشعر العرب يختلف عن شعر اليونان  فى المذهب والخيال والغرض، وشعر ابن الرومى يختلف عن شعر  ابن المعتز وقد نشأ فى بلد واحد وعصر واحد، لأن الجنس الآرى  أميل الى الاستقصاء والتفصيل والتحليل والتعمق، والجنس السامى  لذكاء قلبه وحدة خاطره يفهم الشيء فى لحظة، ثم يلخصه فى لفظة،

فهو أميل الى التعميم والاجمال والبساطة.

ومنها (دوام الحرب بين جنسين أو أمتين لفتح بلاد أو صد  عاد أو تحرير وطن). فان هذه الحروب تتمخض عادة  عن أبطال ينمون فى الخيال، ويعظمون فى الصدور، ويكبرون فى الزمن، حتى تنسب اليهم الخوارق، وتخلع عليهم المحامد، فتسير  بذكرهم الرواة، وتتحدث بأفعالهم القصاص، وتنتقل شهرتهم من  فم الى فم ومن جيل الى جيل، وهى فى خلال ذلك تتسع وتفيض حتى  تصبح سيرعم لدى الشعب حديثاً وطنياً يجب أن ينشر، وتراثاً  قومياً يحرص على أن يزيد، فيقيض الله لهذه السير المتجمعة على  طول الدهور شاعراً سمح القريحة فينظمها بأسلوب شائق ونمط  جميل، كذلك دارت الإلياذة الاغريقية على حروب اليونان لأهل  طروادة. ومهابهاراته الهندية على الحرب التى نشبت بين نيدهو وبني كرو، والشاهنامة الفارسية على تاريخ الاكاسرة ووصف  الحرب التى اشتعلت بين أهل ايران وأهل طوران، وقد كانت تلك  الحروب مفخرة الفرس الاولين ورمزا للخلاف الدائم بين الهى  الخير والشر "وكذلك دارت أغانى رولان الفرنسية على حروب  الفرنج لعرب الأندلس. وهذا هو الشعر القصصى  Epique أو الملاحم  Epoupe الذى خلا منه الشعر العربى لأسباب لا يتصل  ذكرها بموضوع اليوم". على أن عامل الحروب قد أثر فى النثر  العربى والشعر العامى وان لم يؤثر فى الشعر الفصيح. فأن نشوب  الحروب الصليبية قد اقتضى تدوين بعض القصص الحماسية كقصة  عنترة وسيرة بنى هلال والأميرة ذات الهمة إثارة للنفوس وتحميسا  للشعب وتفريجا من الهم.

ومنها - طبيعة العمران وتوزع الثروة وما يتصل من ذلك من  حال الاجتماع - فأن تقدم الحضارة ورخاء العيش ونماء الثروة  تؤثر فى الذوق، وتزيد فى الصور؛ وتساعد على نشر العلوم، وتنوع  فى معانى الشعر وأساليب الكتابة. وشاهد ذلك أن مدن الحجاز  حينما زخرت بالمال ونعمت بالفراغ منذ خلافة عثمان الى أواخر  القرن الاول للهجرة تدفق أهلها فى اللهو وعكفوا على الغناء وألقوا  أزمتهم فى يد الصبابة وانقطع شعراؤها الى الغزل فافتنوا فيه وتصرفوا  فى معانيه وأغفلوا سائر أنواع الشعر الاخرى كعمر بن ابى ربيعة  وجميل بن معمر وكثير عزه. وشاهد آخر على تأثير الاحوال الاجتماعية  فى الفنون الادبية هو شيوع البذاء والفحش فى شعر بعض البغداديين  على عهد الرشيد والمأمون. فقد حدث شئ من ذلك فى الجاهلية  وفى العصر الأموى حين كان الفرزدق وجرير ومن لف لفهما  يتجاوبون بالفحش ويتهاجون بالبذاء، الا أن ذلك لم يكن مقصوداً

لذاته، وانما كان يقال هجاء للعدو وسباباً للخصم. أما الفحش فى  شعر أبى نواس ومطيع بن اياس وحسين الضحاك وابن سكرة  الهاشمى وابن الحجاج فقد كان صادرا عن خلق وناقلا عن طبع  ومعبراً عن حالة. فالشعراء يقولونه ويفعلونه، وأهل البيوتات  وذوو المثالة يسمعونه ولا ينكرونه، فيما ذا نعلل ذلك الفساد الذى نال الطباع العربية الحرة فجعلها تمتهن الكرامة وتلقى شعار  الحشمة ؟؟ أذا عللناه بمفاسد القرف حين تطغى الحضارة ويثور البطر كان هذا التعليل وحده غير فاصل ولامقنع فأن أكثر أمم  التمدن الحديث اليوم قد غرقوا فى اللهو وشرقوا بالنعيم وامعنوا  فى الخلاعة، ثم لا تجد النوابغ من شعرائهم وكتابهم يجرءون على ان  ينعوا على أنفسهم بالفواحش أو يجهروا فى كتبهم بالفضائح،  وناهيك بما حدث لفكتور مرجريت حين نشر قصة لاجرسون.

إنما الاشه بالحق ان هناك سبباً آخر يساعد هذا السبب وهو  كثرة الرقيق، وتأثير الرقيق انما حدث من جهتين: اولاهما قيام  العبيد على تربية الأحداث فى كرائم الأسر، وفى كثرة العبيد دناءة  فى الطباع ووقاحة فى القول فأفسدوا النشء وعودوهم هجر القول وفحش الحديث، وأخراهما إقحام الجوارى والسرارى خدور  العقائل فأعدينهن من أخلاقهن بالمجانة، فسقطت المرأة من عين  الرجل فأخذها بالعنف وضرب عليها الحجاب وأقام عليها الخصية  على عادة الفرس واقصاها عن تربية الولد وتدبير البيت واتخذها للمتاع واللذة، فكان من ذلك ان فشت فى الخاصة اخلاق العبيد  والاماء فتنادروا بالفحش وأكثروا الشعر فى الاحماض والمجون (1)  وإليك شاهدا آخر على تأثير الاحوال الاجتماعية والامور المادية  فى فنون الآداب: ظهر أدب العامة أو الشعر باللغة العامية فى بغداد  والاندلس فى عصر واحد، ففى بغداد ظهر المواليا على لسان  صنائع البرامكة من العامة، وظهر نوع آخر ذكره ابن الاثير  صاحب المثل السائر قال: (بلغنى ان قوما ببغداد من رعاع العامة يطوفون بالليل فى شهر رمضان على الحارات وينادون بالسحور  ويخرجون ذلك فى كلام موزون على هيئة الشعر وان لم يكن من  بحار الشعر المنقولة من العرب، وسمعت شيئا منه فوجدت فيه معانى  حسنة مليحة وان لم تكن الألفاظ التى صيغت بها صحيحة) ولكن  الشعراء والأدباء استخفوا به واحتقروه فلم يقلدوه ولم يدونوه  (البقية على صفحة 25)

(بقية المنشور على صفحة ١٨) ولم يابهوأ لاربابه . وحاول أحد الاطباء الادباء وهو محمد بن دانيال الموصلى ان يبتكر نوعا جديدا من الادب اقتبسه من العاب خيال الظل فالف كتابا سماه طيف الخيال فحبط عمله

واما فى الاندلس فابتدع عبادة بن ماء السماء القرار المرشح. وانتكر ابو بكر بن قزمان الزجل, فطرب الناس لهما واعجبوا بهما واقبل امراء القريض وزعماء الادب على نظمهما وجمعهما قنبغ فيهما النوابغ واشتملت على روائعهما الكتب . فما السبب أذن فى استهجان البغداديين لادب العامة وعزوبم عنه، واستحان الاندلسيين له ويرغبو فيه؟ السبب يعرفه المؤرخ المباحث وهو ان بغداد كانت شديده الأستقراطية  لانها موطن الاشراف وذوى الاحساب والمثالة والثروة . فكانوا يترفعون  عن الشعب ويستخفون بادبه وذوقه وذكائه . ويجدون من الفضاضة ان يتحلوا بحليته ويجمرواعلى اسلوبه ولكن الاندلس كانت ديمقراطية غنية كامريكا اليوم . فلم يعتز احد فيها بالنسب لقماويهم فيه . ولا بالثروة لعموم الرخاء فيهم , وحسن توزيع الثروة بينهم , فكانت منازل الخاصة والعامة متعاقبة , وأذواقهم وآدابهم متقاربة . لذلك لم ينأ به الشعراء والأدباء عن تقليد الادب العامى وتدوينه .

"يتبع"

اشترك في نشرتنا البريدية