الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 252الرجوع إلى "الثقافة"

العيب الذى فينا :

Share

-١- صاحبى (س) كما أراه ويراه أصدقاؤه ، محب للجدل ، يجد فى كل ما يراه موضوعا للمناقشة والاعتراض ، قلما يرضى ، فهو غاضب دائما ، ساخط دائما ، متشكك دائما ؛ ولهذا كانت مهمتنا إذا ما جمعتنا وإياه ندوتنا الصغيرة ، أو ضمنا طريق ، أن نرسل شيئا من النور فى ثنايا نظرته الحالكة ، وأن نكبح من روح اليأس التى يبعثها تذمره وسأمه .

وإنى لأعترف أننا لم نصل يوما إلى النجاح فى تبديد تذمره ؛ وأقصى ما وصلنا إليه أن نحيل تذمره الناطق الصاخب إلى عبوس صامت ، أما الإقناع فدون إقناعه ألف اعتراض واعتراض يجدها دائما ليبرر نظرته ويؤيد نزعته . وقد رضينا بهذا النصيب وتواضعنا عليه ، فنحن - فى نظر أنفسنا - موقفون إن أسكتناه ، ولا يهمنا بعد ذلك أكان سكوته عن رضا أم عن استسلام .        وقد خطر لى منذ قريب أن أشرك القراء معى فيما يثيره صاحبنا هذا من مشاكل واعتراضات ، أن أشركهم فى سماع جداله مكتوبا ، دون أن أكلفهم عبء مجابهته وعناء منافحته ؛ ولهم أن يحكموا له أو عليه ، وهو فى كلتا الحالتين واجد منقذا ليعترض به على حكمهم ... ...

كنا نسير معه فى ميدان من ميادين القاهرة ، فلفت نظرنا تجمع الناس فى حلقة ، وكدنا نمضى ، لولا أن اندفع صاحبى ليرى الخبر فتبعناه .

وكان الأمر حادثا عاديا ، يحدث أمثاله كل يوم ؛ فقد كان أحد الشرطة يقتاد بائعا متجولا بالتهمة التى اصطلح القانون على تسميتها ((مزاحمة الطريق)) ، فحاول البائع التملص والاسترحام رفقا بتجارته الغضة من ثمار

(( المانجو )) أن تذبل معه بين جدران القسم أو عند بابه ؛ واشتد الشرطى فى جذبه ، فوقعت حبات (( المانجو )) على الأرض ، والتهمت السيارات العابرة جزءا منها ، وتناثر الباقى فى جنبات الطريق ، فما كان من البائع إلا أن استشاط غضبا ، ورمى الشرطى بلفظ من ألفاظ السباب . واحمرت عين القانون مرة أخرى ، وأضاف إلى تهمة البائع تهمة أخرى ، وتهافت الناس على الشرطى بين مسترحم يرى خلال يديه القضبان الحديدية التى توشك أن تنطبق على البائع المسكين ، وبين راث للبائع قانع بالرثاء الصامت البليغ .

وقال صاحبى : هيه ! وما رأيكم فى هذا ؟

قلت متحفزا : رأينا أنه حادث عادى ، لعلك تحب أن يخرق الناس حرمة القانون ، وأن يتركوا بعد ذلك آمنين ؟

قال : ومن زعم أننى أحبذ صنع البائع ؟

قلت : ففيم اعتراضك ؟

قال : لتنفق أولا على المبدأ وأتشكون فى أن هذا القانون الذى حرم تجول الباعة قانون عادل يرمى إلى حفظ النظام وتأمينه ؟

قلنا : كلا ، وإنما لنظنك أنت الذى تشك فى ذلك . قال: فأنتم لا تشكون ، وأنا لا أشك . أو تؤمنون أيضا بالحكمة التى تقول : إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع ؟

قلنا : كل الإيمان

قال : فهذا القانون يعد التجول للبيع مخالفة ، وهؤلاء ، الباعة المتجولون لم يستقروا فى متاجر يبيعون فيها لأنهم لا يملكون من المال ما يؤسسون به متجرا . وبعضهم ، بل جلهم ، كل رأس ماله هذه القروش الضئيلة التى يدفعها فى السلعة التى يبيعها كهذا البائع الذى

رأيتموه . وعقوبة المخالفة هى دائما غرم مالى ضئيل ، غالبا ما يستغرق رأس المال الضئيل . ولنترك جانبا شطط رجل البوليس كهذا الذى رأيتم مما يطيح برأس المال قبل أن تدرك المخالف العقوبة . ولنذهب إلى النتيجة مباشرة . فبعد ساعات أو أيام يلفظ باب القسم ، أو باب السجن إنسانا قد فقد ماله وعمله ، عليه أن يواجه الحياة وبين جنبيه فكرة سيئة عن المجتمع وعن القانون ، وحجته فى ذلك أنه كان يعمل فحرمه القانون العمل ، وكان يملك قروشا فأخذت الدولة منه هذه القروش .

وطبيعى ألا يطرق مثل هذا الإنسان باب عمل شريف ، أولا لأنه لم يتعلم حرفة غير البيع والمساومة ، وثانيا لأنه لم يعد يملك مالا يشترى به ما يبيعه . وإنما هو إذن سيلجأ إلى جيوب الناس يستعيد منها ما أخذته يد القانون ، ثم يستمرى المرعى ، فيمضى فى هذا السبيل ، ويكون القانون - عن غير قصد - قد أخلى ميدانا من بائع يزحمه بتجواله ، ليضيف إليه نشالا يزعجه بسطواته .

ومن الغريب أن أمثال هذا الإنسان عنصر نشيط ، فهم يقضون اليوم فى ذرع طرق العاصمة سيرا ووثبا فى الترام والسيارات من الصباح الباكر إلى المساء المتأخر ، وقد يكون فيهم من يتخذ سلعته ستارا ليخفى أهدافا منها سلب المارة ، والاتجار بالمخدرات ، والتسول ؛ ولكن هؤلاء ليسوا نصف الباعة المتجولين ، وليسوا ربعهم ، وإنما هم أقلية ضئيلة يكشف عن أغراضها تفاهة ما يتجر به من سلع .

وسكت صاحبنا ، فقلت : إنك تزعم أن القانون عادل أول الأمر ، ثم تأتى بعد ذلك فـ ...

وقاطني فى غضب : فماذا ؟ إنى لا أزعم بل أؤكد أن القانون عادل ! لكن هل نسيتم ما أعلنتم من إيمانكم بحكمة من قال مر بما يستطاع ؟ هل مهدت الدولة

لهذا القانون بما يجعل تنفيذه مستطاعا ؟ هل كفلت العمل لهذا الذى سيخرج بعد تنفيذ العقوبة بلا سلاح ؟ بل هل كفلت قبل ذلك حرفة لكل فرد من الذين لا يملكون ولا يعلمون ، وهم طبقة ينطوى تحتها رقم هائل من سكان القطر ؟ إن هذا القانون يفرض سؤالا : هل هناك عمل لمن لا يملك شيئا ، ولا يعلم شيئا ، ولا يجيد عملا ؟ كان على الدولة أن تجيب عن هذا السؤال أولا . أما أن يقول الواقع إن لدينا الآلاف ممن يولدون وينشأون لا مال ولا علم ولا حرفة ، شيطانى ، كنبات الصحراء وحوافى الحقول ، وأن يقول إن هؤلاء الآلاف يمضون إلى عمل الفطرة والبداءة ، المبادلة فى صورتها المحدودة ، ثم يأتى القانون بعد ذلك ويقول لا ! فأنا عندئذ أطلب إليكم الاحتكام إلى إيمانكم بحكمة من قال : مر بما يستطاع . . .  . . .

وأيهما شر على الدولة والنظام ؟ بائع متجول فى عمله جزء من التسكع ، أم إنسان كل عمله التسكع وما يجر إليه التسكع من شرور ؟ هذا هو السؤال وتلك هى الحكمة !

قلنا : وما رأيك أنت ؟

قال : رأيى أنا ! وهل لى رأى له قيمة إن لم يكن لرأى الواقع قيمة ؟ وماذا . . . .

وأحسسنا بالخطر ، فهو موشك على الثورة ، وإن ثار فلن نستطيع إسكاته . لذلك آثرنا أن نرفق به وبأنفسنا ، فنحن نسير فى طريق ، وقد دأب المهذبون على استهجان حدة النقاش فى الطرقات ، فهى مزاحمة لآذان الناس واقتحام لها ، وإن كان القانون لا يجزى عليها ...

وقلت مضطرا : إنك على حق . لا بد أن يكون لرأى الواقع قيمة ، وما قيمة الآراء الفردية إلى جانب رأى الواقع ... صحيح ...

اشترك في نشرتنا البريدية