الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 932الرجوع إلى "الرسالة"

الفتوة عند العرب

Share

الأديب ومضة من ومضات الحياة تلألأ خلال الظلام  وتبعث أضواءها في طريق الركب ليسير هدى ووعي.  والأديب هو ابن بيئته وأمته ومجتمعه، ورسالته في الحياة رسالة عامة  لا تقف عند حدود المسارب الضيقة وليست رسالة الأديب هي  التي تنبع من نفسه وتعيش في نفسه فقط، سواء أكان شاعراً  أم كاتباً قصاصاً أم مؤلفاً، وسواء أكان يستوحي الماضي البعيد  أم الحاضر المشاهد، وإذا كان الإنتاج العسكري هو ما يتصل  بالحياة العامة ويواكب المجتمع فإن ماعدا ذلك إنتاج عائم يطفوا  كما يطفو الطحلب على سطح الماء؛ حتى إذا مرت به العاصفة ذاب  وتلاشى لماذا يجب لأن يكون الأديب والمفكر كذلك؟ لأننا  الآن عبيد أرقاء لا نملك من أمرنا شيئاً، ويجب أن نعيش أحراراً  نتصرف في حياتنا وشؤوننا كما يتصرف البشر في حياتهم  وشؤونهم، وعلى كل أديب عربي ومفكر عربي ومفكر أن يكون في  رأس القافلة ليشارك في معالجة أوضاعنا واقعية، وإلا كان  أديباً تافها ومؤلفاً سطحياً لا يفكر ولا يحس، أو يفكر ويحس  ولكنه ضعيف الاندفاع مشلول الحركة، وكلتا الحالتين لا تؤدي  إلى غاية ولا يتصل إلى هدف.

وإذا كان الشأن كذلك فما هي قيمة   (الفتوة عند  العرب) ؟ وفي أي اتجاه يسير؟ قبل أن أتحدث عن الكتاب أحب أن أشير إلى صاحبه.  وصاحبنا هو أستاذنا عمر الدسوقي أستاذ الأدب العربي في كلية

دار العلوم بجامعة فؤاد الأول. لقد اتصلت بالأستاذ الدسوقي  عن كثب، وتحدثت إليه كثيراً وتحدث إلي كثيراً، فلمست فيه  ما لم ألمسه إلا في القليل ممن عرفتهم. لمست فيه روح القومية

العربية، والاعتزاز بالعرب اعتزاز يكاد يصل إلى درجة الغلو،  وأحسبه على حق فيما، يعتقده فما كان العرب في ماضيهم وتأريخهم  العريق أمة تافهة لا شأن لها، إنما كانوا سادة أنفسهم، وأسياد  غيرهم، ولكنهم فقدوا أهم ميزاتهم يوم أتيح للعناصر التي اندست  في صفوفهم أن تتحكم وتسود، فرقدوا شر رقدة تحت مطارق  العبيد والمماليك والأفاقين. حتى إذا أريد لهم التخلص من هؤلاء  كانت يد أخرى تستقبل الكرة لتلقفها فإذا بالعرب يخضعون  خضوع العبيد لمستعمر آخر وسادة جدد وبقايا من أولئك العبيد  والمماليك والأفاقين. حتى كاد يكفر المتعلمون من العرب - الآن -  بعروبتهم وتاريخهم، وحتى أشاح بعض هؤلاء المتعلمين بوجهه  عن تاريخ العرب، وتراثهم، مندفعا وراء الغرب في كل شيء  وحتى اصحبنا الآن في بلبلة فكرية وقومية نتيجة للاضطراب  السياسي والشعور بالخيبة من يقظتنا الأخيرة، وليس لذلك من  سبب إلا لأن الدم العربي قد كدر وتجمد، والنفس العربية  الأصيلة قد خثرت وضعفت، فلم يعد ذلك الدم الفوار، ولا تلك  النفس الحائرة الجامحة.

يمثل هذا الشعور والإحساس يندفع الأستاذ الدسوقي إلى  استياء الماضي البعيد ويضع كتابه   (الفتوة عند العرب)   فيقص علينا من جديد تاريخ ذلك العنصر العريق من زاوية  واحدة لعلها أهم الزوايا لمن يريد أن يتحدث عن العرب، وهي  زاوية الفتوة وما يتصل بها من مظاهر متشبعة تلتقي عند نقطة  واحدة وان تعددت من الأشكال والألوان.

يقص علينا تأريخ العرب في فروسيتهم وشجاعتهم ونخوتهم  وكرمهم، ويعرض علينا ألواناً من الأشخاص الذين كان لهم  شأن في الحياة العربية، الجاهلية والإسلامية، وألواناً من الشعر الذي  يمثل تلك الحياة في أنبل مظاهرها.

ويتحدث - بعد المقدمة التي تشير إلى الحافز على تأليف  الكتاب - عن الفتوة في معناها اللغوي وعن الفتوة في العصر

الجاهلي، ومظاهر هذه الفتوة في الشجاعة والكرم: كرم اليد  التي لا تعرف البخل وان لم تجد شيئاً، وكرم القلب الذي يتسع  للكبير والصغير، وكرم العقل الذي لا يعرف البلادة والتقليد.  بل العقل الذي يزن ويحكم ويفكر ويرى العقل الذي عبد  الأصنام ثم حطمها حين رأى أنها حجر لا يضر ولا ينفع. وفي  حماية الضعيف: الجار والمستغيث والأسير، والمرأة قربت  أم بعدت.

وحين ينتهي من العصر الجاهلي يتحدث عن العصر  الإسلامي والدعوة الإسلامية، والكفاح في سبيل هذه الدعوة،  والرجال الذين ضحوا من أجلها وزعيمهم فيما   (سيد الفتيان)   محمد   (ص) . ولا ينسى أن يتحدث عن المرأة العربية في عنايتها  بولدها وتنشأته على الفروسية والشجاعة والخلال التي يتصف بها  أبوه أو خاله، ويضرب لذلك أمثلة كثيرة وشواهد من الرجز  النسائي في ترقيص الفتيان.

وعندما ينتهي من هذا العرض التاريخي الذي يغلب عليه  طابع الحماسة والإعجاب؛ ينتقل بنا إلى فصل آخر يكاد من  التاريخ المجرد وإن تخللته أحيانا لمحات من التحليل والموازنة، ينتقل  بنا إلى الصوفية، فهو يمجدها حيناً لأنها كانت رد فعل لحياة الترف  والمجون التي أنغمس فيها المسلمون أيام الدولة العباسية، ويهاجمها  حينا آخر لأنها آثرت الزهد في الحياة على الكفاح والنضال،  ثم يستعرض الفتوة عند بعض المتصوفين وشيئاً من تاريخهم،  وكنت أود ألا يشير إلى بعض أعمال الصوفية، أو بالأحرى أعمال  بعض الصوفية، فإن الكتاب دروس أمليت لتمس حياة العرب  في عصرهم الحاضر وتذكرهم بماضيهم العتيد. ولم يكن من الهين  علينا أن نعيد ما سجله بعض المؤرخين من فتن ومشاحنات  أستغلها وأثارها رجال السياسة الذين يريدون أن يحكموا بأية  وسيلة من وسائل التفريق، معتمدين على فتاوى المعممين وأصحاب  الربط والتكايا من الدراويش المتنطعين.

ولنتجاوز هذا الفصل إلى فصل آخر وهو فتوة  (المترفين)   وتتجلى هذه الفتوة في الصيد والرماية، وأصحاب هذه الفتوة من  أرباب الثراء والجاه، وأبرز مظاهر هذه الفتوة في عهد زعيمها  الناصر لدين الله المتوفى سنة ٦٢٢ وكان من أن يتسلل

الحديث في هذا الفصل إلى الأيوبيين الذين طلب منهم الناصر أن  ينتظموا في سلك فتيانه، ثم المماليك الذين جاءوا بعدهم وما كان  من شأن هؤلاء في محاربة الصليبين نتيجة لتعلمهم الرماية والصيد،  وكأنه أراد بهذا الفصل أن يجعل من فتوة الناصر لدين الله  مدرسة تخرج فيها من جاء بعده من هؤلاء، كما كانت مدرسة  النبي الكريم إذا كان لابد من التشبيه.

وينتقل بعد هذا إلى الفروسية عند الغربيين، ويوازن بينها  وبين فتوة العرب، ويعزوا أكثر مظاهرها الجميلة إلى الاقتباس من  العرب أيام الحروب الصليبية، وفي عهد الأندلس، ويدعم رأيه  بالأدلة المادية الكثيرة.

ثم يختم الكتاب بطائفة من الصور لفتوةالعرب، وهنا  ينتقل بنا من الاستعراض التاريخي إلى الأسلوب القصصي،  فيعرض لنا الصور في إطار جذاب وخيال مبدع، ينقلنا إلى  آفاق تمتد بامتداد الصحراء العربية وما فيها من خصائص ومميزات  طبعت العربي على تلك المزايا التي تحدثت عنها الكتاب في بدايته.  ولا يسعني أن أتحدث عن هذه الصور في كلمة قصيرة مثل هذه،  بل أدعها لمن يريد أن يستمتع بها ويتلاها كما أتيح لي ذلك. هذا هو الكتاب بوصفه الموجز، وهو وصف لا أظنه يستطيع  أن يتحدث كما يجب عن   (٤٧٢)  صفحة دعمت بالمصادر الكثيرة  من عربي وأجنبي وتجلت فيها وفرة الاطلاع فجاءت تشق طريقها  من أعماق التاريخ إلى حيث تقف القافلة الآن.

فهل نستطيع بعد هذا أن نقول: أن الكتاب من العرب  في أقدم عصورهم وإلى العرب في عصرهم الحاضر؟ وهل  نستطيع بعد هذا أن نقول: إن الكتاب درس من دروس  القومية العربية لمن يهتمون بالقومية؛ أظن إننا نستطيع أن نقول  ذلك عندما نتجاوز تلك الهوة التي فصلت بين قمتين من قمم  الكتاب، وهي هوة الصوفية، وقد اندست هذه الهوة تفرض  نفسها بين القمتين بإيحاء من المنهج التاريخي حسب، كما اندست  في حياة العرب فكانت أكبر مخدر تسمم به ذلك الجسم  الفارغ السليم.

اشترك في نشرتنا البريدية