ما رأيت ((مصلحة)) تتلاعب بعواطف الناس كما تتلاعب ((مصلحة البريد)) ، فهى فى كل يوم تحمل القناطير المقنطرة من ((الخطابات)) ليست قيمها فى وزنها ولا عددها ، ولكن قيمها فى عواطفها ، فكم خطاب حمل فى طياته أسمى عواطف الحب ، وأبلغ عبارات الغرام ؛ لو نشر ما فيه لكان آية من آيات الأدب الخالد ، ولو حلل لتقطرت منه دماء القلوب وعصارة الأفئدة - تزنه مصلحة البريد فتقدر عليه خفته ((قرشا)) ، ولو كان عندها ميزان للقيم لأعجزها أن نجد له الطابع الذي يتناسب وقيمته ، فقد سهر فيه كاتبه الليالي ، يحاول أن يجد ترجمة دقيقة لمعانيه ، وعبارة حارة في حرارة عواطفه ، وجملا رقيقة فى رقة نفسه ، وألفاظا موسيقية فى موسيقى خلجانه . وهيهات أن يتم له ذلك مهما جود ، فاللغة لم توضع - فى الأصل - لترجمة العواطف ، وإنما وضعت أول أمرها للتعبير عن شؤون الحياة المادية من أكل وشرب ولبس ، ونحو ذلك . فلما حاولت التعبير عن العواطف شعرت بالعجز ، فأكملت نقصها باستعارات ومجازات وتشبيهات ومحسنات وكنايات ، ثم تبين لها بعد ذلك كله أنها أكملت بعض النقص ولم تكمل النقص كله - ثم تأتى مصلحة البريد بعد ذلك ، فتعامل هذا الخطاب كما تعامل خطابا لا يحمل معنى ، أو يحمل معنى سخيفا وغرضا تافها ، وليس هذا بأول ظلم في العالم ، فقانونه قلب الأرض وإهدار القيم ، فان عجبت فاعجب لقيم قوم ، ولكن لا تعجب من قيم لم يقوم ، فذلك هو الأصل .
ومن عجب أن البريد يحمل في ثناياه نغمات موسيقية
مختلفة التوقيع بأكثر مما مختلف نغمات العود والقانون ، فهذه نغمة ((وصل)) سارة إلى أقصى حدود السرور ، وهذه نغمة ((هجر)) مجزلة إلى أقصي غاية الحزن ، وبين هذه وتلك نغمات لا عداد لها ، بين السرور والحزن ، والقبض والبسط ، فغزل رقيق ، وعتاب لاذع ، وقطيعة مفجعة ، وحنو أبوى ، وقسوة وحشية ، وما شئت من لعب العواطف وتقلبات القلوب .
ثم ما رأيت عاملا تتعلق به الآمال ، وترتقبه العيون ، كما رأيت فى ساعى البريد . هذا محب ينتظر كلمة من حبيبه يمسك بها نفسه ، وهذا مشفق على مريض يتبرم من انتظار ساعى البريد يحمل إليه كلمة عن مريضه ، وهذا رب مال يرتقب ما يأتي به البريد ليفرح أو يحزن على ما خبأه له القدر من نجاح أو فشل ؛ ومثل ذلك كثير.
قد عرفوا مواعيد البريد فارتقبوها ، ومنهم من زاد قلقه فكان يخرج ساعته ينظر إليها كلما مرت دقائق ، ويستطيل الوقت ويلعن عقارب الساعة إذ نسير ببطء ، ومنهم من ارتقبه فى شرفة المنزل ليمتع به نظره ، ويغذي به أمله ، آتيا من بعيد يترنح فى مشيته ، ويتلاعب بما يحمل فى يديه من عواطف ، ويتنقل من بيت إلى اليمين إلى بيت اليسار حتى يأتى دوره ، فينقبض وجهه وينبسط ، وبتذيبذب بين اليأس والأمل ، وقد يضحك عليه القدر فيأتية خطاب فيفرح ، ويفتحه فيحزن ، ويكون مثله مثل القائل :
ما أقبح الخسير تعطاه فتحرمه
قد كنت أحسب أنى قد ملأت يدى
ومنهم من يتكلف الرزانة فلا يتطلع للساعى ، ولكنه يكرر النظر فى صندوق البريد ، فيطل من زجاجته ، ويفرح إذا صاد ، وينقبض إذا لم يصد ، وهكذا أشكال وألوان وكلها حول البريد .
ويكاد يكون الفرح بالبريد صفة عامة يشترك فيها الناس على اختلاف بينهم فى مقدار فرحهم ، فما سر هذا الفرح ؟
هل هو فرح من جنس فرح الأطفال (( بحلاوة البخت)) ، وهو صندوق صغير من الورق ونحوه يشتريه الطفل ليرى فيه بخته ، وأساس هذا الفرح نفسيا أن الانسان خلق طلعة ، ركز فى طبعه حب الاستطلاع لما غمض والاستكشاف لما خفى ؛ فإذا رأى الناس يجتمعون فى الشارع على شىء تطلع إلى معرفة خبره ، وإذا رأى شيئا مغلقا قلق إلى معرفة ما فى داخله . وقد أدرك التجار هذه الغريزة فى الانسان فكان من طرفهم أنهم أحيانا يستلقتون نظر الناس إلى السلع بإخفائها وحجبها عن الأنظار ثم الأبعاز بطرق مختلفة إلى الدلالة عليها ، والاتيان بها من صندوق داخل صندوق ، وتجار الكتب الأفرنجية أحيانا يغلفون الكتاب بغلاف محكم ، أو يضعون له قفلا للدلالة على أن فيه ما يحجب عن الأنظار ، فيكون الجمهور بذلك أشد شوقا إلى شرائه لاستكشاف أسراره ، وقد لا يكون سر ولاشئ غير مألوف ، ولكنها المتاجرة بما فى الانسان من حب الاستطلاع .
واستغل هذه الصفة أيضا كتاب القصص والروايات فحاكوا حوادثها حول مسألة خبئوها في الرواية حتى يشتاق القارىء والناظر إلي معرفة خبيئها واستكناه كنهها ، ويكون نجاح الكاتب بمقدار مهارته فى الاخفاء ، والدلالة على ما خفى فى بطء وحذر ، وإلهاب الشوق إلى استطلاع ما غمض .
قد يكون هذا هو السبب فى فرح الناس بما يأتيهم
من بريد ، وقد يرجحه أنهم يغضبون جد الغضب إذا علموا أن غيرهم فتح بريدهم . وليس سبب ذلك الغضب أن غيرهم قد حاول أن يطلع على ما قد يكون لهم من أسرار فحسب ، بل إن من أسباب غضبهم أيضا أنهم فونوا عليهم لذة استكشاف المجهول واستيضاح الغامض .
وقد يكون عند كثير من الناس الفرح بكثرة البريد سببه الشعور بالعظمة ، فهو يشعر أن كثرة بريده انه شهرته ، وشهرته ايه عظمته ، فالبريد يغذي شعوره بالعظمة وإعجابه بالشهرة ، فالتاجر إذا تضخم بريده كان ذلك اية كثرة عملائه ومعاملاته ، والسياسى إذا عظم بريده كان ذلك دالا على نجاحه فى سياسته ، وارتباطها بقلوب كثير ممن حوله ، والعالم إذا كثر بريده دل على كثرة اتصاله بالحركة العلمية وبالعلماء ، وعلي شهرته فى الأوساط العلمية وهكذا .
وقد يكون لهذه القاعدة شواذ ، فمن الناس من يهربون من البريد هروبهم من مطالعة الوجه النكد ، والشر المفاجىء ، كأولئك الذين كانوا أغنياء فبددوا ثروتهم ، وأضاعوا أموالهم ، فلم يبق من اثار ثروتهم إلا بريد يطالب بديون أو ينذر بحجز ، أو يصدع بصدور حكم .
وأيا ما كان فمن مظاهر رقى الأمة أن يكثر بريدها فى المعانى والآداب والعلوم ، فيكثر تراسل العلماء والأدباء ، ويكثر التراسل بين الطلبة وأساتذتهم ، والقراء ومجلاتهم ، والسياسيين ورجالاتهم وزعمائهم وأتباعهم ، فان هذا مظهر الحيوية العقلية والفكرية والاجتماعية ، ودليل على أن للأمة مثلا أعلى تنشده وتسمى إليه ، وتتجادل فيه ، وتتخاطب فى شأنه ، وتتراسل فى تمحيصه ، ودليل علي أنها تفهم أن العيش ليس مجرد طعام وشراب ومعاملات مالية ورسائل غرامية ، وسؤال عن الصحة والعافية ، وتحديد موعد مقابلة واعتذار عن تأخر .
ويخيل إلى - مع الأسف - أن بريدنا الأدبى والحى والسياسى ضعيف جدا إذا قيس ببريد العاملات المالية ، والشئون الغرامية ، والحياة المادية .
والأمة إذا رقيت كثر بريدها الأدبى بمعناه الواسع ، وفى كثرته دليل على توثق الصلات بين رجال المعانى من طلبة وأساتذة ، ومن أدباء وأصدقائهم وقرائهم ، وعلماء وأعوانهم ، وسياسيين وأتباعهم .
فى الأمة الراقية بفهم الأستاذ فى المدرسة أو الجامعة أن العلاقة بينه وبين طلبته لاتنتهي بمجرد إلقاء الدرس وتأدية الامتحان ، وإنما هى علاقة استرشاد علمى وروحى دائم ، فإذا تيسر اللقاء كاشف الطالب أستاذه بمشاكله وشؤونه ، كما يكاشف الشيخ الصوفى مريد ، وكما يعترف النصرانى المتدين لقسيسه ، وإذا لم يتيسر فالبريد الأدبى يقوم مقام اللقاء .
وفى الأمة الراقية لكل أديب قراء هم ((زبائنه)) كما للتاجر ((زبائنه)) وهؤلاء ، زبائن الأدب يعرفون كل شئ عن أديبهم ، ويقرءون كل ما يكتب ، ويسمعون كل ما يخطب ، ويتعصبون له كما يتعصب السماعون لمغنيهم . وهم يقترحون عليه ما يكتب كما يقترح السماعون لمغنيهم ما يغنى ، وفوق ذلك ينقدونه في نتاجه ، فيشجعونه إن أحسن ، ويبنون مواضع ضعفه إن أساء ، وعلى الجملة يراقبونه أشد المراقبة ، فيشعر بأنه حى بهم يستمد من قوتهم ويصلح أخطاءه من التفاتاتهم .
أما الأديب عندنا فمثله مثل المحاضر فى ((الراديو)) يتكلم وحده ولا يشعر بما يجري وراء حجرته ، ولا يسمع تصفيقا ، ولا يحس ضيقا ، وليس امامه عيون يقرأ فى نظراتها علامات استحسان او استهجان ، فهو فى طريقه من غير مرشد ، ومن غير مشجع ، وبذلك ضعف البريد الأدبى .
كل الصلات بيننا مفقودة ، فلا صلة بين الأستاذ وطلبته إلا صلة الدرس ، ولا بين الأديب وقرائه إلا صلة القراءة إن كانت ، ولا صلة بين الأدباء أنفسهم إلا صلة السباب ، فان لم يكن سباب قرباء ، ولما تكن بعد صداقة .
لكم حمل إلينا بريد أوربا أخبارا عن أدبائهم وما كان بيهم وبين قرائهم من صلات أفادتهم في توجيههم ، وما كان يطالعهم به البريد كل صباح من اراء فاضحة بجانب آراء تافهة ، وما كان بين الأدباء بعضهم وبعض من صداقة أوحت بالخطط وعدلت من المنهج ، فان كان بينهم أحيانا سباب مر فبينهم أحيانا صداقة حلوة ، وإن نفث بعضهم السم فمنهم من ينتج الترياق .
لشد ما أخشي أن يمطر فى القراء ببريد يكذبون به رأيى وينقضون به دليلى ، ثم يكلفوننى الاجابة عنه ، وهذا ما لا طاقة لي به ، فأتقل شئ علي أن أرد على البريد ، وسلوكى نفسه في البريد دليل على ما أشكو منه ، فان قنعوا ببريد لارد له ، فلهم كل الشكر .
