الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 633الرجوع إلى "الرسالة"

الفلسفة الإسلامية المتأخرة

Share

-۲ -

وكتاب الأسفار من الكتب الفلسفية المهمة، وقدأ كسب مؤلفه شهرة عظيمة جعلته في عداد كبار فلاسفة الإسلام . فإنك إذا ما قرأت الكتاب شعرت بأهمية المؤلف وبالمسائل العويصة المدونة فيه . وبالأفكار والنظريات الفلسفية العويضة المسطرة في صحائف السفر العظيم . تذكرك يكتب ابن سينا أو محى الدين بن العربي أو الطوسى وبأمثالهم من فلاسفة المسلمين . وقد غلط المستشرق كويينو ( Gobineau » في ترجمة عنوان الكتاب إذ توهم فظن أن المقصود من «الأسفار السياحات ولذلك اختار كلمة Voyagen) والحال أن مقصود المؤلف من كلمة ( أسيقار » جمع «سفر» ومعناها الكتاب .. ومقصود المؤلف من الأسفار الأربعة » الكتب الأربعة لا السياحات الأربعة كما ظن ذلك هذا المستشرق المذكور (1)

راجت كتب الملاصدرا رواجاً عظيما وشرحت عدة شروح وظلت آراؤه فيما وراء الطبيعة تحتل مكاناً بارزاً في عالم الفكر الإسلامى حتى اليوم . ولا زالت كتبه تستعمل في الجادة القديمة لمن تقدم في موضوع الفلسفة كما تستعمل كتب ابن سينا أو ابن رشد . وقد أثرت آراؤه هذه على الأخص في الهند وإيران والأفنان فأوجدت بعض المذاهب الإسلامية التي لم تلبث أن أصبحت

مذاهب دينية ذات مناهج مستقلة مثل مذهب ( الشيخية ) المنسوب إلى الشيخ أحمد بن زين الدين الإحسانى التوفي سنة ١٣٤٣ للهجرة ولسنة ۱۸۱٧ - ۱۸۲۸ للميلاد ) تأثر الشيخ أحمد الإحسائى بآراء الملاصدرا كثيراً فشرح

بعض كتبه مثل كتاب الحكمة العرشية» وكتاب «الشاعر» (١) وهو عيال على الملاصدرا على الأخص في موضوع ما وراء الطبيعة . وبالنظر إلى ما كان يظهره من غلو في بعض الآراء نقر الناس منه والتمس الشيخ حامياً له ومعينا ، وكان ذلك الحابي هو الأمير محمد على ابن فتحعلی شاه حاكم مدينة كرمانشاه » . ولما توفى هذا الحاكم اصطر لى مغادرة إيران والالتجاء إلى « الحائر » المقدس في العراق حيث ألف كثيراً من كتبه وشرح ما رواقه من كتب الملا صدرا المهمة وبعض الكتب الأخرى (٢) . وقد عرف اتباع الشيخ أحمد باسم ( الشيخية ) وهم جماعة خاصة ظهرت في جماعات الشيعة في إيران . تزعمهم تلميذ الإحسائي ومنظم صفوف الشيخية ( السيد كاظم الرشتي » أبرز تلاميذ الإحسائي على الإطلاق ) . ( توفى سنة ١٨٤٤ م) . وكان هذا السيد من أردبيل ملجأ الشيخ صفى الذين الأردبيلي التصوف المشهور وجد الأسرة الصفوية والذى ينسبه الكتاب إلى الإمام موسى الكاظم الإمام السابع على ترتيب الشيعة الأثني عشرية من آل البيت (4) .

يروي عن الشيخية أن الإمام مجلى للسيد كاظم الرشتي في ليلة من الليالي وكان عمره إذ ذاك اثني عشر عاماً وأشار عليه بوجوب الذهاب إلى مدينة ) يزد ( إحدى مدن إيران والالتحاق بحاشية الشيخ أحمد الإحسائى الذى كان يعظ ويدرس في تلك المدينة . وقد اتبع السيد أمر الإمام وذهب إلى المدينة وأصبح من تلاميذ الشيخ وأصحابه ومن أقرب الناس إليه5) . ولما غادر الإحسائي إيران ثم ترك العتبات المقدسة في العراق لأداء فريضة الحج توقى

في الحجاز ودفن بالمدينة في جوار قبور الأعمة بالبقيع سنة ١٣٤٣ للهجرة6) ـ وأصبح السيد كاظم الرشتي خليفة الإحصائي والنائب

منا به في الأمور . فنظم شئون ( الشيخية » وألف في الدفاع. من عقيدة أستاذه وفي توضيح قواعد المذهب الجديد إلى أن توفى عرض أصابه بيغداد دون أن يتمكن من النص على تعيين شخص. يكون خليفته من بعده وزعيم الشيخية الديني المطاع بالنص والتعيين (1)

فانصرفت جماعة منهم إلى الميرزا على محمد الشيرازي (ولد سنة ١٨٢٠ م - قتل سنة ١٨٥ م) الذي جاء بتعاليم جديدة تلتقى في الفكرة التي استقى منها الملاصدرا تعاليمه والشيخ أحمد الإحسائي والبابية عيال على الشيخية في آرائها وفي أفكارها المغالية ولا سيما في نظرتها إلى الإمام المهدى وعلاقة الإمامة بالإنسان (۳)

ومن أقوال الإحسائي في الحشر والمعاد قوله ( إن هذا البدن المحسوس المركب من العناصر الأربعة يفنى ويزول ولا يعود والمحشور في القيامة هو البدن النومى الذي تراه في منامك . كما يقول إذا دخلت في النوم خلعت الجسد المنصري وبقيت في الجسد الهور قليائى وجميع أجسام الجنة والنار من قبيل الصور النومية (3) وقد أنكر معراج النبي بالبدن المتصرى البشرى المحسوس المستدلا بأن الصعود بهذا البذن يلزم منه الخرق والالتئام تبعاً للفلاسفة (4) وفسر المعراج تفسيراً يختلف عن التفاسير المألوفة التي تحاول التوفيق بين العقل والنقل .

وينسب إليه الناو في الأعمة حتى إنه أشركهم مع الله في التخلق وفي القدرة وفي مسائل أخرى هي من صفات الألوهية والربوبية ؛ لذلك حكمت عليه طبقة العلماء بالكفر والخروج عن الدين وكتبت بذلك وثيقة وضعتها في كربلاء إحدى المدن المقدسة في العراق)"5" .

ولم يكتب الرواج للمذهب ( الشيخي " على عكس ( البابية ) التي نشأت في أحضان ( الشيخية، وتمت بتربتها . والظاهر أن للتنظيم وقدرة زعماء البابية على إحكام أساليب الدعاية وتوجيه أنظارهم نحو العالم الخارجي المتعطش لكل فكرة غريبة هي التي

دعت إلى رواج هذا المذهب الغريب . أما الذهب «الشيخي » فلم يظهر في وسطه زعيم قوى بعد وفاة خليفة « الإحسانى » السيد كاظم الرشتى يستطيع الاستمرار على دعامة ذلك المذهب على الرغم من الجهود التي بذلها بعض علمائهم من أمثال الحاج محمد كريم خان الكرماني والملا محمد الملاقات ( Mamaqani )1 : ومع ذلك فلا زالت هنا لك جماعة صغيرة مشتتة بين العراق وإيران وسواحل الخليج تنتمى إلى مذهب الإحسائي ولكنها لا نتظاهر بذلك ولا تجهر

وأكثر الكتب المؤلفة فى عقائد «الشيخية» هي من تأليف الشيخ أحمد الإحسائى نفسه الذي كان مؤلفا وكاتباً نشطا في التأليف ، ومن تأليف تلاميذه وخليفته السيد كاظم الرشتي والكرماني والمامقاني ومن ظهر من رجالهم . وقد طبع بعضها ولا سيما كتب الشيخ أحمد الإحسائي في إيران والهند . ولدى الأستاذ المؤرخ المحامي عباس العزاوى وهو عالم ومن الهواة في جمع الكتب مجموعة مهمة من كتب الشيحية منها ما هو بخط الإحسائي نفسه ومنها ما هو يخط السيد كاظم الرشتي أو بخط الزعماء الشيخيين (٢).

جاول الملاصدرا كما حاول جماعة إخوان الصفاء وبقية الفلاسفة الإسلاميين وقبلهم الفلاسفة المسيحيون التوفيق بين الفلسفة والدين، وبين العقل والنقل ، وبين فلسفة اليونان وبين دين الإسلام والملاصدرا ميال إلى آراء اليونانيين بل هو مؤمن بها إيماناً كلياً ولكنه مسلم من جهة أخرى ، وفي محيط إسلامي كانت الصوفية في ذلك الوقت تتحكم فيه . هو صوفى في التفكير والحياة والميول . ويذهب مذهب محى الدين بن العربي في آرائه ولا سيما في فكرة وحدة الوجود (٣) .

ولعل وحدة المزاجين مزاج ابن العربي ومزاج الملاصدرا هي التي جمعت بين الملاصدرا وبين المتصوف الشهير على تباعد الوقت و اختلاف العقيدتين - وهى التى جمعت بين الملاصدرا وبين بقية المتصوفة عموماً ، والظاهر أن الملاصدرا كان يؤمن بقائد ابن

العربي وبآرائه إيمان المقلد المعجب تراه يقتبس كلمات ابن العربي وأمثاله وأفكاره وبينها في كتبه كما لو كان يقتبس من كتاب من الكتب المقدسة السماوية . ويدل ذلك في الوقت نفسه على اطلاعه الواسع على كتب ابن العربي ومؤلفاته على غموض العبارة وصعوبة الافكار والأسلوب(1) . وابن العربي من مبدعى مذهب ( وحدة الوجود» فى الإسلام والملاصدرا ممن يعتنق هذا المذهب ويدين به . روى عن ابن العربي أنه كان يقول «كفر النصارى ليس بقولهم إن المسيح هو الله بل كفرهم لقولهم إنه ابن الله (٢) . وقال صدر الدين في أول رسالته سريان الوجود لا ثم اعلم أن ذلك الارتباط كما من ليس بالحالية ولا بالمحلية بل هي نسبة خاصة وتعلق مخصوص يشبه نسبة المعروض إلى العارض بوجه من الوجوه وليس هي بعينه كما توهم . والحق أن حقيقة تلك النسبة والارتباط وكيفيتها مجهولة لا تعرف (٣) . وقال « الأقرب في تقريب تلك النسبة أعنى إحاطته ومميته بالموجودات ما قال بعضهم من أن من عرف ممية الروح وإحاطتها بالبدن مع مجردها وتنزهها عن الدخول فيه والخروج عنه واتصالها به وانفصالها عنه عرف بوجه ما كيفية إحاطته تعالى ومعيته بالموجودات من غير حلول واتحاد ولا دخول و اتصال ولا خروج وانفصال وإن كان التفاوت في ذلك كثيراً بل لا يتناهى ولهذا قال من عرف نفسه فقد عرف ربه (٤) : وما الناس فى التمثال الاكثلجة وأنت لها الماء الذى هو فيه (٥)

فالملا صدرا على جادة ابن عربي في وحدة الوجود ويشاركه في آرائه الصوفية الأخرى. ولكنه كان من جهة أخرى حذراً جداً فى كلامه لبقا فى أساليب التعبير . وكان إذا أراد البحث في قضية من القضايا الحساسة تعمد التعقيد والأبهام والإجمال خوفاً من الاصطدام بطبقة ( المجتهدين » الذين ناهضوا التصوف والفلسفة والمتفلسفين واستحوذوا على المشاه وعلى بطانة الشاء

استحوذ رجال الدين و أصحاب الاجتهاد ، على الرأى العام

وتدخلوا في شؤون الحكومة حتى أصبحت الحكومة لهم والحكم في القضايا المدنية إليهم. وتغلبوا شيئاً فشيئاً على أصحاب الذوق وعلى رجال التصوف الذين استأثروا بالحكم في بادىء الأمر حين تشكلت الدولة الصفوية ، تلك الدولة التي نشأت على أسس صوفية. وعلى دعوة منظمة سياسية تسترت باسم التصوف والدروشة وذكر الله العظيم . ولكنها كانت تبث الدعوة وتوجه الأنظار - سراً إلى عمل سياسي منظم قام به أنجال صفى الدين الأردبيلي الصوفى والزاهد المشهور وجد السلاطين الصفويين

و مما ساعد تفوق رجال الدين على طبقات المتصوفة الفوضى الأخلاقية التي انتشرت في نوادي المتصوفة وأوكارها من «تكايا» و «خانقاه» وفى سعوف ( القلندرية » و « الدراويش » إذ تحول «الذكر ) الديني إلى رقص إيقاعى خليع، وتحول « النزل الإلهى» إلى غزل شهواني مبتذل حتى اضطر المتصوفة أنفسهم إلى مكافحة هذه الطرق فيها كما فعل الملاصدرا نفسه وهو في عداد المتصوفة في رسالته كر أصنام الجاهلية ، (٣)

وصيغ متصوفة إيران ممن سبقوا الملاصدرا أو ممن جاءوا . من بعده ابن العربي وإخوانه المتصوفة بصبغة شيعية فجعلوه من كبار المجاهدين في خدمة التشيع وآل البيت وأحاطوه مع أمثاله كما أحاطه متصوفة السنة بهالة من التبجيل والتقديس . وكان الأخرى بهؤلاء أن يعدوه مع إخوانه في قائمة خاصة لا هي سنية ولا هى شيعية : قائمة يسجل فيها مع أهل الباطن وأهل الآراء الخاصة

على أن أهل الفقه من رجال الدين ممن اشتركوا في محاربة التصوف ورجاله لم يرضوا عن ابن العربي ولا عن زملاء ابن العربي ولم يخفوا حنقهم عليه. وقد حار المترجمون فيما بعد واضطروا إلى نقل الرأيين المدح والتم على الجمع بين الضدين في مكان واحد (۳).

يتبع

اشترك في نشرتنا البريدية